20 ديسمبر، 2024 12:00 م

المس بيل وأثرها في السياسة العراقية

المس بيل وأثرها في السياسة العراقية

حظي تاريخ العراق الحديث  بالمزيد من الاهتمام والدراسة من مؤرخينا فسلطوا الضوء على الكثير من الجوانب الصعبة من هذا التاريخ وركزوا بشكل خاص في دراسة الشخصيات السياسية العراقية التي لعبت دوراً مؤثراً في الاحداث السياسية في عهدي  الانتداب والاستقلال . وعلى الرغم مما قدمته تلك الدراسات وأغلبها رسائل جامعية من أفكار جديدة أغنت تاريخنا الحديث إلا انها وللأسف أهملت جانباً مهماً ألا وهو دراسة الشخصيات البريطانية التي أسهمت في صنع الاحداث بحجة أنها شخصية استعمارية ليس من المناسب إلقاء الأضواء عليها وإظهار الاهتمام بها على الرغم من احتلالها حيزأً كبيراً من تاريخنا وان سيرتها شئنا أم أبينا غدت جزءاً من تاريخ العراق الحديث .
ما من شك أن كل ما يقال لتبرير هذا الاهمال يعد نقصاً وقصوراً في دراسة هذا الجانب المهم والحساس من تاريخ العراق . وهنا لابد أن اعلق : أن هناك من يرفض دراسة الشخصيات البريطانية التي ساهمت بشكل فاعل في صناعة التاريخ العراقي بحجة أنها شخصيات استعمارية لا يفترض دراستها . وهناك من يجد أن مثل هذه الدراسة أمر مشروع بل واجب وربما أذهب أبعد من ذلك لأقول أنه عمل وطني لمعرفة ما فعلته هذه الشخصية أو تلك حتى لو انطلقنا من مقولة (اعرف عدوك) لنعرف كيف تفكر وكيف تعمل وكيف تتحرك لتعالج هذه المشكلة أو تلك الأزمة . وقد اضيف قائلاً : ان هنالك العديد من الشخصيات البريطانية التي ما زالت تنتظر من يدرسها ، ومن الواجب دراستها لمعرفة الكثير من أسرار هذه الشخصيات ومن ثم الكثير من أسرار التاريخ العراقي الذي ما زال الكثير منه رغم كل ما كتب ينتظر من ينفض غبار الزمن عنه ويكشف خفاياه .
ان دراسة الشخصية البريطانية مهما كان موقعها لا يستلزم بالضرورة لاثبات الذات الوطنية اتهامها بما يصح وما لا يصح بل يفترض أن تكون الكتابة موضوعية الى أقصى الدرجات . لا نتردد في قول ما يفترض قوله لصالح تلك الشخصية ان كان الموقف أو التصرف أو القول يبرر ذلك ، ونقد الشخصية بمرارة حين يكون الموقف والتصرف والقول يسمح بذلك في إطار علمي بعيد عن البغضاء المسبقة أو الحكم المسبق أو التحامل المسبق ، اذ ان هذا أبعد ما يكون عن الكتابة باسلوب علمي أو أكاديمي تاريخي موضوعي أساسه التحليل والاستقراء لا اقتناص الاخطاء وتضخيمها وتحجيم الحسنات الى حد تحويلها الى كائنات مجهرية يتعسر رؤيتها بوضوح .
وفي محاولة متواضعة لسد جانب من هذا النقص جاء اهتمام مؤلف الكتاب الذي نحن بصدد عرضه بدراسة احدى الشخصيات البريطانية المتنفذة ذات الدور المهم والمؤثر في السياسة العراقية في عهدي الاحتلال والانتداب الا وهي شخصية المس بيل السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني في العراق ، أولاً مع السير برسي كوكس (1920-1923) ومن ثم مع خلفه السير هنري دوبس (1923-1926) ، والتي أسهمت في توجيه وتنفيذ السياسة البريطانية في العراق ، كما أنها برغم مصاحبتها وعملها مع قوات الاحتلال كانت شخصية معتدلة تفهمت العراقيين وحاولت التوفيق بين مصالح بلادها وتطلعات الشعب العراقي الى نظام حكم وطني . حيث كانت تثق بقدرة العراقيين وكفاءتهم في إدارة بلادهم ، فقدمت لهم ولبلادهم خدمات جلى … لاسيما في مجال الآثار ، والمتحف العراقي الذي قامت بتأسيسه شاهد على ذلك . كما أن مؤلفاتها وبخاصة رسائلها تعد مصدراً مهماً لدراسة تاريخ العراق الحديث ، ولا نبالغ اذ قلنا أن أي مؤرخ أو باحث يكتب عن تاريخ العراق في عهدي الاحتلال والانتداب لا يمكنه الاستغناء عن تلك الرسائل لأن كاتبتها لم تكن شاهدة على الاحداث حسب بل صانعه لبعضها أو أحد صانعيها أو طرفاً فيها على أقل تقدير. وهنا تكمن أهمية دراسة المس بيل الألمع بين الشخصيات البريطانية التي خدمت في العراق والأكثر حاجة للدراسة ، لأنها دخلت الكثير من دهاليز السياسة والثقافة العراقية ، وكانت علاقتها بشيوخ العشائر الكبيرة والبيوتات المشهورة موضع أهتمام المعنيين بالتاريخ العراقي . وكتبت الكثير عن ذلك في رسائلها الدقيقة التفاصيل والتي وضعت الكثير من النقاط على الكثير من الحروف بحس مهني عميق ان لم يكن يستحق الاعجاب لهذا السبب أو ذاك فهو يستحق التوقف عنده ولو لبرهة من الوقت . ولست مغالياً ان قلت أننا لا نجد رسائل أغنت وأثرت تاريخ العراق الحديث مثل تلك الرسائل التي أرسلتها المس بيل .
كانت المس بيل شخصية قوية العزيمة نشطة مؤثرة تقول ما تريد قوله وتفعل ما تريد خاصة اذا كانت موضع ثقة رئيسها المطلقة كما كانت مع كوكس وأقل ، ذلك مع خلفه دوبس . كانت مهمتها تسهيل تمرير الخطط البريطانية الخاصة من خلال علاقتها الواسعة المتشعبة مع الشخصيات العراقية سواء الوطنية منها أو الموالية للبريطانيين ، مثقفين وشيوخ عشائر وغيرهم. تلك كانت مهمتها بصفتها السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي ، فهي بحكم منصبها هذا الاقرب للمندوب والأقرب في الوقت نفسه لما فيه صالح بلدها ، ولأنها على دراية ومعرفة بلغة أهل العراق ، سهل لها الكثير من مهامها بل وجعلها على بينة من آمال الناس العاديين والقيادييين وعلى رأسهم الملك فيصل الأول ، وتطلعاتهم الوطنية المشروعة حتى تلك التي عدت ليست كذلك .
تعتبر المس بيل من أوسع المستشرقات علماً وأغزرهن مادة وهي من الجريئات المغامرات بين النساء البريطانيات ، وقد أكسبتها رحلاتها المتعددة في القارة الاوربية وفي بلاد العرب وما حولها خبرة واسعة بالبلدان التي زارتها ولا سيما العربية منها التي كانت محور صراع الدول الكبرى حيث درست عادات وتقاليد وتواريخ هذه البلدان والتجمعات العشائرية المؤثرة في أحداثها السياسية مما دفع الساسة البريطانيين الى انتدابها للعمل في مكتب استخبارات القاهرة للاستفادة من معلوماتها الواسعة في هذا المجال . علماً أنه ليس هناك ما يؤكد انها كانت على صلة بالدوائر السياسية البريطانية قبل نشوب الحرب العالمية الاولى بل ان رحلاتها التي قامت بها في منطقة الشرق العربي قبل الحرب كانت بدافع حب الاستطلاع والمغامرات ليس إلا . ولكن المعلومات التي جمعتها من رحلاتها المتعددة أهلتها للعمل في الدوائر السياسية البريطانية بعد أن كتبت تقريراً سياسياً مهماً عن المنطقة مما دفع هذه الدوائر الى دعوتها للعمل في مكتب استخبارات القاهرة الذي يمكن عد عملها فيه بداية انضمامها الى الاستخبارات البريطانية .
تمكنت المس بيل بعد الانضمام الى هيئة موظفي السير برسي كوكس في العراق من درس حالة المجتمع العراقي ، فلم تترك وسيلة تمكينها من جمع المعلومات من المجتمع الا واتبعتها . فقد اختلطت بالرجال واتصلت بفئة من أقطاب السياسة وقواد الجيش وشيوخ العشائر وعلماء الدين والأدباء وبسطاء الناس وتحدثت الى الكثير من الناس ودخلت مجالس العديدين منهم واستمعت اليهم ، ثم دخلت البيوت واتصلت بنسائها . هذه العلاقات المتشعبة الواسعة جعلها تطلع على خفايا لم يكن الإطلاع عليها سهلاً وقد وصلت بهذه الوسائل الى جمع معلومات ثرة عن المجتمع العراقي مما أضاف  الى معلوماتها عن العراق معلومات جديدة أهلتها لأن تصبح مرجعاً سياسياً لقوات الاحتلال في العراق .
كان لمس بيل تأثير واضح في بعض القضايا السياسية المهمة التي شهدها العراق في الفترة التي عملت فيه ومنها مسألة تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة واختيار رئيس وأعضاء هذه الحكومة . كما كان لها أثر واضح في مسألة ترشيح الملك فيصل الأول للعرش من خلال المناقشات التي جرت بشأن مسألة ترشيحه فضلاً عن العديد من القضايا السياسية الاخرى التي شهدها العراق .
امتازت فترة عمل المس بيل في العراق بالجهود التي بذلتها في تأسيس دائرة الآثار العراقية والمتحف العراقي الذي حصل نتيجة جهودها الرائعة في هذا المجال على كنوز من آثار وادي الرافدين فضلاً عن الجهود التي بذلتها مع مجموعة من مثقفي العراق لتأسيس مكتبة عامة عرفت بـ (مكتبة السلام) صارت نواة للمكتبة الوطنية (دار الكتب والوثائق) الحالية .
كما امتازت علاقتها بالملك فيصل  الأول بخصوصية قد لا تتكرر بسهولة بين مسؤولة بريطانية وملك عربي اذ امتزجت في تلك العلاقة الجوانب الرسمية بالشخصية ، فضلاً عن العاطفة والمودة المتبادلة ، يضاف الى ذلك الامتنان الذي يكنه فيصل لها ولدورها في وصوله الى العرش العراقي مما جعل تأثيرها في فيصل كبيراً اذ ليس من السهل على رجل شرقي عربي أن يتجاهل امرأة بموقعها ولباقتها وذكاءها وفطنتها وبريقها وشقرتها وبياضها ورقة تعاملها معه ، لذا ليس من الموضوعية دراسة شخصية وحياة المس بيل في العراق دون الأخذ بالاعتبار تلك الخصوصية في العلاقة بينها وبين الملك فيصل .
كانت المس بيل شخصية بريطانية معتدلة الآراء السياسية ، اذ كانت تعتقد امكانية التوفيق بين مصالح بلادها وأهداف وتطلعات الشعب العراقي في الحرية والاستقلال كما تفهمها ، وهي بذلك تختلف عن الكثير من السياسيين البريطانيين الذين نظروا الى العراق نظرة استعمارية من خلال دعوتهم الى تمسك بريطانيا بالعراق وحكمه بصورة مباشرة لأنها لم تنكر على العراقيين حقهم في إقامة دولتهم وحكومتهم ولم تتردد في الوقت نفسه في توجيه اللوم بل النقد الشديد الى ما تراه تشويهاً لذلك الحق دون الاهتمام بمن وراءه حتى لو كان رئيسها المباشر ولسن ، ولكنها في الوقت نفسه كانت تعتقد أن لبريطانيا الحق في حماية مصالحها في العراق .

الكتاب :
 المس بيل وأثرها في السياسة العراقية ، تأليف ـ محمد يوسف ابراهيم القريشي ، ط1 ، مكتبة اليقظة العربية ، بغداد 2003.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات