من مخيم للنازحين شمالي العراق، يعد المسيحيون الذين هربوا من بطش تنظيم داعش قبل اكثر من عام مضى، يعدون العدة للرحيل عن موطنهم التاريخي الى غير رجعة
بقلم كرستين شيك “جريدة كرستيان ساينس مونيتور”
حينما بدأ مقاتلو تنظيم داعش بمهاجمة قرية قرقوش المسيحية الاشورية شهر آب من العام الماضي، ضن العديد من السكان ان ذلك لم يكن سوى انذار زائف وحسب. لقد فر هؤلاء نتيجة لغزو متوقع قبل شهر من ذلك الحدث ليعودوا مرة اخرى بعد ايام حينما لم يتمخض التهديد عن شيء قط.
لكن الامر كان مختلفا في المرة الثانية. فمنذ ان بدأت قذائف الهاون بالسقوط على المدينة الشمالية، تلقى فادي يوسف اتصالا من صديق مسلم من مدينة الموصل المجاورة التي كانت قد سقطت اصلا بيد التنظيم. لقد حذر ذلك الصديق يوسف قائلا له ان تنظيم داعش ماض في طريقه نحو قرقوش، الامر الذي دفع الاخير الى حزم حقائبه بسرعة والفرار على الفور. في ذلك الموقف، تحرك يوسف وزوجته السيد نغم عبد المسيح وجمعوا بناتهم وبعض الملابس وجوازات سفرهم، وعمدوا الى الفرار بغية النجاة بحياتهم.
وفيما انطلقت العائلة بالسيارة، كان مشهد قرقوش في مرأة السيارة الخلفية مختلفا حيث كانت تلك المرة الاخيرة التي يرون فيها موطنهم وديارهم. ولا تزال تلك البلدة تحت سيطرة تنظيم داعش الى الان، فيما تقول السيدة عبد المسيح انها لا تتوقع عودتها وعائلتها الى هناك. وعوضا عن ذلك، تعد العائلة العدة للرحيل عن موطنها وديارها الى الابد.
تقول عبد المسيح معلقة “حتى لو تحسن الوضع في العراق، ومهما اصبحت البلاد آمنة، فأن ما من ضمانات تجزم بعدم تكرار ما حصل مرة اخرى،” حيث تحدثت من داخل مخيم للنازحين تعيش فيه الان مع عائلتها. واضافت عبد المسيح ان ترك ارضها الاشورية التي عاشت عليها هي واسلافها منذ الفي عام ليس بالأمر السهل ابدا، الا ان المسيحية لم يعد مرغوبا بها في العراق حسب قولها. واضافت كذلك “اننا نحب ارضنا حقا، الا ان ارضنا لم تعد تحبنا”.
لكن مشاعر عبد المسيح ليست غريبة وانما تجد لها اصداء كثيرة ما بين ابناء جلدتها من النازحين الذين يسكنون في المخيمات. وبعد اكثر من عام على اكتساح تنظيم داعش لشمال العراق وسيطرته على مناطق المسيحيين الاشوريين هناك، اضطر اكثر من 100000 من المسيحين الى النزوح من تلك المناطق حيث يرى العديد منهم ان
لا مستقبل لهم كمسيحيين على هذه الارض. كما ان الالاف من هؤلاء هاجروا اصلا، فيما يخطط غيرهم اخرون لذلك ايضا.
في واقع الحال، ليس هنالك من احصائية رسمية لعدد المسيحيين الذين توجهوا الى خارج البلاد، الا ان لقاءات صحفية مع العشرات من النازحين منهم اظهرت انهم يخططون ويأملون بالرحيل، مشيرين الى الخطر المحيق بهم وبمستقبلهم كأقلية ضعيفة في العراق.
شتات كبير
كان عدد المسيحيين في العراق ولا يزال فيتناقص مستمر منذ العام 2003 بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لاسقاط دكتاتورية صدام حسين، الامر الذي اشعل وتيرة موجة جديدة من العنف الطائفي الذي ضرب فيما ضرب المسيحيين قتلا وخطفا وتشريدا.
لذلك، اضطر مئات الآلاف منهم للرحيل عن العراق حتى تقلص عديد المسيحيين في هذا البلد من مليون ونصف المليون قبل الغزو الى اقل من 500000 اليوم. كما ان العديد من المسيحيين الذين بقوا في العراق اضطروا الى الفرار نحو منطقة سهل نينوى المعروفة بكونها منطقة اشورية تاريخيا، والتي تضم العديد من البلدات المسيحية التي تمثل ملاذا آمنا لهؤلاء هناك. ينحدر معظم مسيحيو العراق من الطائفة الاشورية التي تعد طائفة مسيحية عرقية تتحدث بنسخة حديثة من اللغة الارامية.
كانت عبد المسيح واحدة من هؤلاء اللواتي بحثن عن الملاذ الامن في سهل نينوى. وبرغم كونها من اهالي مدينة البصرة الجنوبية، الا انها ووالديها اضطروا الى ترك المدينة والانتقال الى قرقوش عام 2004 طلبا للامان.
لكن معظم المسيحيين الذين طلبوا الامان بعد هجوم داعش توجهوا الى اقليم كردستان العراق شبه المستقل. وقد سكن العديد من هؤلاء النازحين في منطقة عنكاوة التي تعد ضاحة مسيحية تابعة لأربيل عاصمة الاقليم، حيث سكن الشقق منهم من يملك المقدرة المالية على استئجار سكن، فما سكن الاخرون في الابنية غير المكتملة وباحات الكنائس ومخيمات النزوح.
يقع المخيم الذي تسكن فيه عبد المسيح وعائلتها في منطقة قريبة من ضاحية عنكاوة. وقد تم ايواء هؤلاء في بضعة آلاف من الكرفانات المعدنية التي باتت تؤوي اكثر من 5500 انسان. كما ان هنالك مدرسة وملعبا لكرة القدم وكنيسة تحت الانشاء، حيث عمد العديد من سكان المخيم الى تحويل مساكنهم الى وضع اكثر ديمومة لنوعية الحياة
حيث اضافوا لها بناءا وانشاءات وحتى انهم زرعوا بعض النباتات كذلك. كما ان الكثير منهم اقتنى طيور للزينة وضعها في اقفاص قريبة من ابواب مساكنهم الجديدة.
ضمن كرفان عبد المسيح، يضم الحائط ملصقا لزهور وفراشات على الباب، فيما يضم الكرفان قطعة سجاد منسوجة بصورة السيد المسيح وامه العذراء وقد علقت على الحائط. كما ان دبا صغيرا كان موضوعا على الاريكة التي كان الى جانبها بعض قليل من الاثاث البسيط الذ تبرع لهم به بعض السكان المحليين. وفي هذه الاثناء، كانت ابنة عبد المسيح الكبرى وتدعى ميرنا البالغة 9 سنوات من العمر رغم انها اكثر نضجا مما تبدو الى جانب شقيقتها الاصغر مرام البالغة من العمر 7 سنين، كانتا تجوبان الحي لعبا ولهوا ببراءة الاطفال المعهودة.
لقد فعلت العائلة افضل ما بوسعها لتجعل حياتها ممكنة، غير ان ذلك ليس بالحل المستدام. انهم يأملون بالهجرة الى فرنسا حيث ليوسف صديق هناك يسعى لتأمين سمات الدخول للعائلة. لكن يوسف استدرك عن هذا الموضوع قائلا “ليس بوسعنا ضمان الوصول الى فرنسا. ولسوف نذهب الى اي بلد يقبل بنا”.
اننا نبحث عن الحيات، لا الموت
لا ينحصر الرحيل بالنازحين وحسب، فالعديد من المسيحيين الذين يعيشون في مناطق لم يمسها تنظيم داعش يعمدون الى قلع جذورهم والرحيل. وعلى النقيض من هؤلاء الذين فروا من منازلهم مجبرين على ترك كل شيء وراء ظهورهم، فأن هؤلاء قادرون على بيع ممتلكاتهم وتصفية اعمالهم وتمويل كلفة الرحيل.
في بلدة ديانا التي تقع الى الشمال الشرقي من كردستان العراق بالقرب من الحدود الايرانية، يغادر اشوريون اكثر كل عام حسب ما يؤكد الاب يطرون يعنون داود من كنيسة القديس جورج هناك.
وعند سؤال المسيحيين الاب داود المشورة فيما يخص الرحيل عن العراق، فأنه يرد بسؤال مقابل مفاده : “اذا ما كنت في منزلك ويعمد والداك الى ضربك كل يوم، فهل كنت لتبقى ام انك ستعمد الى الرحيل يا ترى؟ ان طبيعة النفس البشرية اننا نبحث عن الحياة لا الموت”.
يبحث كل من عيدا نصير توما وزوجها هيثم بطرس عزو، يبحثان عن حياة لاطفالهم. ينحدر الاثنان من بلدة قرقوش وكانوا يعيشون في بغداد حينما جاء الغزو الاميركي للعراق. لقد كان الاثنان يملكان محلا لبيع المشروبات الكحولية، فضلا عن ان عزو كان يعمل سائق باص كذلك.
عام 2004، وجد عزو اطلاقة نارية عند باب بيته مع رسالة ورقية واضحة ملفوفة عليها تقول ان عليهم الرحيل او مواجهة العنف. لذلك، انتقلت العائلة الى قرقوش لتضطر الى النزوح من جديد العام الماضي نتيجة لهجوم داعش. وتعيش العائلة الان في مخيم للنازحين اعد في باحة كنيسة مار ايليا في منطقة عنكاوة، الى جانب اطفالهم الـ8 بمن فيهم ابنتهم الكبرى المتزوجة.
لقد تغلب الخوف على ايماننا
تعيش العائلة على معونات الحصة التموينية التي تقدمها الام المتحدة الى جانب الاعانة التي تأتي من قبل الكنيسة مع الدخل الي يكسبه ابنهم الاكبر الذي يعمل في احد الفنادق. ولكونهم يعانون الامرين بغية تأمين تكاليف دراسة 4 من اطفالهم في المدراس، فأن العائلة تواقة بشدة للهجرة، غير انها لا تملك الوسائل لتحقيق ذلك.
تقول توما انها تأمل بمساعدة الكنيسة لايجاد طريق للرحيل. كما ان جميع جيرانها في مخيم اللجوء يريدون الرحيل كذلك، وهم يتشاركون القناعة ذاتها في ان احدا من المسيحيين لن يبقى في العراق في غضون عقد من الزمان وحسب.
وتضيف توما قائلة “لا شك انه سيكون من المحزن لكل المسيحيين هذا الرحيل”، حيث كانت تجلس على ارضية الكرفان الذي تسكنه الى جانب اصغر ابنائها الذي كان يلعب قريبا. وتضيف كذلك “اننا لا نملك خيارا آخر، حيث ان كل ما نتمناه يتمثل في ان نكون بأمان ونستقر حيث لم يعد هنالك في ذاكرتي شيء استعيده من الراحة والسلام. لقد عشت كل حياتي حربا وعنفا هنا”.
و تخنك توما كلامها قائلة انها اعتادت ان تأخذ اطفالها للصلاة في الكنيسة كلما سمعت صوت الاجراس في الصباح. لكنها عادت لتستدرك بالقول “اما الان، فقد تغلّب خوفنا على ايماننا، ولا اريد ان تكون الحياة هكذا لأطفالي”.