18 ديسمبر، 2024 7:57 م

(المسلمون) … يعطون الجزيـة عن يـدٍ … (وهم صاغرون)

(المسلمون) … يعطون الجزيـة عن يـدٍ … (وهم صاغرون)

الذين يعتقدون بأن الله سبحانه قد خلق الكون عبثاً ، أو لغرض التسلية أو المتعة أو قتل وقت الفراغ فهم واهمون ، والذين يتصورون بأن الله سبحانه قد خلق الكون (كيفما اتفق) دون تدبير منه فهم حالمون ، لأن الله خلق الكون ووضع له قوانين محددة وحسابات ومعادلات رياضية يخضع لها الزمان والمكان ، ولن يتخطاها الله سبحانه لأجل عيون زيد أو عمر ، ولن يسمح بتجاوزها على وفق مزاجية الأفراد أو رغباتهم ، إلاّ لإثبات (معجزة) خارقة لقوانين الكون ، تأتي بأمر من الله وحكمة ، ولكنها لن تدوم ، لأن الأصل في الكون هو (القانون) .

فحين يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء :- (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) ، فالأرض هنا لا تعني مجمل (الكرة الأرضية) بكامل محتواها وتضاريسها ، بل هي أيّة بقعة يقطنها بنو البشر على مستوى العائلة أو القبيلة أو الدولة ، ويسعون في إعمارها والافادة من مواردها بالشكل الذي يخدم وجود الانسان ، ويضمن له النماء والتطور والكرامة .

وليس معنى (الصالحون) هم (المتدينون) ، أو هم (أحباب الله وأوداءه) بالمعنى الديني ، أو الذين (يصومون ويصلون ويلبسون القصير ويطلقون اللحى) ، ولا الذين يركضون إلى المساجد عند الآذان ، لأن إقامة الطقوس والشعائر والعبادات مسألة شخصية ، حدودها تمتد بين الانسان والمولى ، وهي إن لم تنعكس على حسن (سلوك) الفرد مع (المجتمع) والبيئة ، فهي محكومة بالرفض ، لأن (خلافة الانسان) في الأرض تتعلق بعلاقة الانسان بالانسان من جهة ، وعلاقة الفرد بالمجتمع والبيئة من جهة أخرى .

فالمقصود من (الصالحون) هنا ، هم (الأصلح) لبناء الأرض وإعمارها من أجل خدمة الانسان ، والمفكرون الذين يجيدون تنظيم الحياة ، ويتخذون من (التخطيط والتجريب) وسيلة للوصول إلى أعلى مستويات الأداء ، وينظرون إلى (الماضي) على أنه محفز نحو احترام (الحاضر) وبناء (المستقبل) ، وبالنتيجة ، فـ (الصالحون) هم الساعون نحو (الأصلح) .

وبالرغم من تعدد التفسيرات (الخاطئة والمخطئة) لما ورد في كتاب الله في فرض (الجزيـة) ، والتي أدت إلى استخدامها الجزية بشكلها (الديني – السياسي) لضمان تدفق الأموال لخزائن السلطة ، فإن أقرب تفسيراتها للعقل والفطرة هو العودة إلى جذرها (اللغوي) ، كونها مشتقة من (الجزاء) ، وهذا الجزاء يعني سلطة (تطبيق العقوبات الجزائية) بحق كل من يسئ إلى المجتمع ، سواء كان من المسلمين أو من أبناء الشرائع الأخرى ، وليست (الجزية) منحصرة بدفع الأموال ، وإنما تشمل (الغرامة المالية) زكذلك تشتمل على تطبيق عقوبة السجن أو الحبس أو العقوبات الجزائية الأخرى) التي من شأنها حماية المجتمع من استهتار الفرد ، واساءة استخدام حريته .

وبصرف النظر عن كل ذلك ، وحتى لو تنزلنا وقلنا بأن (الجزية) هي فرض على (أتباع غير الشريعة المحمدية) ، فقد تذرع (فقهاء ووعاظ السلاطين) من أتباع الشريعة المحمدية بأن (الجزية) هي (الضريبة) التي يؤديها غير المسلمين للمسلمين ، لغرض (حمايتهم) والدفاع عنهم ، وهذا بالضبط ما تنتهجه الولايات المتحدة الأمريكية والغرب ، في ابتزاز أموال المسلمين .

لقد كان أسلافنا (رضي الله عنهم) يشحذون سيوفهم استعداداً للفتوحات الاسلامية (المقدسة) ، وهم يقرأون في كتاب الله آية – (إن الله لا يحب المعتدين) ، فيقولون (صدق الله العظيم) ثم ينفرون للغزو ، فيغزون بلدان المعمورة ، ويباغتون أهلها ، ويضعون فيهم (السيف) ، ثم يفرضون على من يختار البقاء على دينه (الجزية) ، من أجل (حمايته) .

أما الآن ، فأمريكا لا تكلف نفسها متاعب والفتوحات ، ولا تسير جيوشها للغزو ، بل تنتدب من (المسلمين) إرهابيين ليقوموا بغزو (المسلمين) ، وبأموال المسلمين ، ثم تأتي هي في المقطع الأخير من (السيناريو) لتفرض (أتاوة) عن الحماية التي (توفرها) للمسلمين بسبب إرهاب المسلمين ، هذه الأتاوة لا تختلف عن (الجزية) في مفهومها السياسي الذي توارثناه عن أسلافنا ، وعليه ، فالرئيس (الصهيو – أمريكي) ترامب لم يأت ببدعة ، وإنما (يطـّـبق فينا شريعتنا) .

ففي المعاصرة ، قام الغرب عموماً ، والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً ، بابتزاز الدول ، وفرض الأتاوة عليها ، وإجبارها على عقد صفقات الأسلحة ، والتوقيع على عقد اتفاقيات (الدفاع المشترك) ، خصوصاً مع دول ودويلات الخليج الأكثر بذخاً وثراءً ، تحت ذريعة (حماية) هذه الدول من التهديدات الخارجية والداخلية ، وحمايتها من خطر (الارهاب) الذي اضطلعت (دول الحماية) بتأسيسه في مختبراتها ومطابخها السياسية ، وهي التي اضطلعت بمهام (تنمية الإرهاب) ودعمه وحمايته ، وعلاج (جرحاه) في مساشفيات (تل أبيب) كما حدث مع جرحى (داعش) في سوريا .

وفي العراق مثلاً ، وكما جاء على لسان الشيخ (أكرم الكعبي) الأمين العام لحركة النجباء ، وهي احدى فصائل الحشد الشعبي ، بأن :- (الحكومة العراقية تقوم بدفع اجور الطلعات الجوية التي يقوم بها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية) ، معتبراً أن (90% من تلك الطلعات هي طلعات وهمية) ، حيث إن التحالف الدولي – طبقا لإحصائيات لجنة الأمن والدفاع البرلمانية – يتقاضى على الطلعات الجوية في اليوم الواحد ما يعادل راتب 1000 موظف عراقي , وبما أن الطلعات الجوية تصل الى 2600 طلعة جوية في اليوم فهذا يعني ان كلفة تلك الطلعات تعادل رواتب ملايين الموظفين , ومن المؤكد أن لأمريكا حصة الأسد في تلك الحسبة .

وفي سوريا ، وبناء على تصريح للرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) بأن :- (أرباح روسيا خلال عام 2015 في مجال الصناعات العسكرية قد تخطت الـ50 مليار دولار) ، فيما كشف معهد ستوكهولم الدولي لدراسات السلام عن (ازدياد حجم استيراد سوريا للأسلحة الثقيلة خلال الخمس سنوات الماضية بنسبة 511% مقارنة بالفترة السابقة ، حيث وصلت سوريا إلى المرتبة 25 من بين الدول التي تستورد أسلحتها من روسيا) .

وهذا ليس حصراً ولا وقفاً على العراق وسوريا ، بل يشمل أيضاً دولاً أخرى مثل الصومال وليبيا واليمن ، وبقية الدول التي تتوقع (حرباً) مع جاراتها ، مما جعل اليد الغربية أو الروسية عموماً ، والأمريكية خصوصاً ، تمتد إلى جيوب الدول العربية والاسلامية بشكل علني ورسمي ، للقيام بأبشع عمليات الابتزاز التي يمكن قراءة تناذج منها وفقاً لدراسةٍ أجراها معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)بهذا الخصوص ، حيث تصدّرت الولايات المتحدة الدول المصدرة للسلاح حول العالم بنسبة 33 % ، وكانت (المملكة العربية السعودية) أكبر المستوردين منها بنسبة 13% ، وذكر المعهد أن نسبة استيراد السعودية للأسلحة تضاعفت 212 % منذ عام 2012 – 2016 مقارنة بما بين 2007 – 2011 ، في حين ارتفع حجم استيراد دولة قطر إلى 245% .

ففي الوقت الذي كان فيه قانون (جاستا) يهدد أموال السعودية في أمريكا ، كانت استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في أذون وسندات الخزانة الأمريكية ترتفع بنسبة 4.7% في يناير (كانون ثاني) الماضي ، على أساسٍ شهريّ ، إذ ذكرت بيانات وزارة الخزانة الأمريكية ، أن الاستثمارات الخليجية ارتفعت إلى 218.4 مليار دولار ، حتى نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي ، مقابل 208.6 مليار دولار في ديسمبر (كانون أول) الماضي .

حيث جائت السعودية في الصدارة ، كونها أكبر الدول المستثمرة في الأذون والسندات الأمريكية ، إلى 112.3 مليار دولار في يناير (كانون الثاني) الماضي ، بنسبة زيادة 9.2% مقارنة مع 102.8 مليار دولار في ديسمبر (كانون أول) السابق عليه ، بينما حلَّت الإمارات في المرتبة الثانية بـ61.6 مليار دولار في يناير (كانون الثاني) الماضي ، والكويت بالمرتبة الثالثة بـ29.4 مليار دولار ، ثم عمان بنحو 13.56 مليار دولار ، وقطر بنحو 1.19 مليار دولار ، فيما تذيلت البحرين القائمة بنحو 662 مليون دولار فقط .

هذا الأرقام تخصُّ فقط استثمارات دول الخليج في أذون وسندات الخزانة الأمريكية ، ولا تشمل الاستثمارات الأخرى في الولايات المتحدة ، سواءً كانت حكومية أو خاصة ، والتي تقدر بمئات المليارات ، إذ تعتزم الرياض ضخّ 40 مليار دولار استثماراتٍ جديدة في البنية التحتية الأمريكية ، بحسب ما كشفت وكالة (بلومبرج) .

وبنفس آلية (الجزية) بالمفهوم (الفقهي) الاسلامي ، يقف (ترامب) ليقول :- (إن ما يقدمه آل سعود إلى أمريكا من مال حتى لو كان نصف ثروة البلاد لا قيمة له ولا أهمية بالنسبة لما تقدمه أمريكا لهم من حمايةٍ ورعاية) ، وبذلك ، فحين يكون المبرر الشرعي والقانوني والاخلاقي والسياسي للجزية عند المسلمين هو (الحماية) ، فإن ما يصح في الجزية التي فرضها الفكر الاقصائي (الديني – السياسي) في القرون الاسلامية الأولى (التي هي خير القرون) ، يصح في الابتزاز الغربي و(الصهيو – أمريكي) لأموال المسلمين .

ولأن الله لم يجعل (العبادة) أو القرب أو البعد عنه مقياساً للنجاح والفشل في الحياة ، ولأن (الصالحون) هم من يسعون لإعمار الأرض (بلدانهم) ، فالرئيس الأمريكي (ترامب) ، والساسة الغربيون ، والصهاينه ، هم (الصالحون) بالنسبة لشعوبهم وأراضيهم وبلدانهم وحكوماتهم ، لأنهم يعرفون من أين (تؤكل الكتف) ، واستغلوا فشل الأغبياء من الساسة العرب لاستكمال البنى التحتية لبلدانهم بأموال المسلمين ، مستغلين بذلك أن (القانون لا يحمي المغفلين) .

ولو كانت مليارات الدولارات (الأتاوة) التي فرضها (ترامب) وغيره على (أولي أمر المسلمين) من أموال المسلمين قد ذهبت للمسلمين ، وبنيت بها مشاريع لاعالة وإعانة وتقوية إقتصاد المسلمين ، ولو كان هناك عقل في رؤوس ولاة أمر المسلمين ، وتحولت هذه الأموال إلى مصانع ومعامل من أجل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي ، لما احتجنا إلى حماية أمريكية ، أو وصاية أجنبية ، أو رعاية روسية .

لقد دفع – وسيدفع – المسلمون من أموالهم (جزية) لأمريكا وإسرائيل وروسيا والغرب (وهم صاغرون) ، أضعاف ما دفعه أسلاف هؤلاء للمسلمين ، على مر ألف وتلاثمائة من السنين .