23 ديسمبر، 2024 10:28 ص

المسلمون في أمريكا

المسلمون في أمريكا

في عالم اليوم، لا تخلوا دولة من أقليات متعددة ومتنوعة من السكان الذين ينحدرون من مناطق مختلفة ومشارب متنوعة من لون وعرق وطائفة ودين وفكر ومن إيجابيات عصر الانترنت والتكنولوجيا ان ثقافة تقبل الاخر واحترام الاختلاف قد انتشرت بشكل كبير في اغلب دول العالم اليوم (مع بعض الاستثناءات هنا وهناك والتي تشذ في كل شيء وليس في هذا الجانب فقط!) ولكن تقبل الاخرين والسعي الى التعايش السلمي هو احد الأهداف الرئيسية للبشرية اليوم بعد ان ادرك العقلاء في اغلب دول العالم ان الاحتراب بسبب الاختلاف والقتل لتصفية المختلفين قد انهك البشرية لقرون ولم ينتج الا مزيداً من الاختلاف والتنوع وهذه الحقيقة دعت الكثيرين حول العالم الى الدعوة الى تقبل الاخر وتفهمه واستيعابه كلون اخر من الوان الطيف المتنوع والذي يميز البشرية منذ نشأتها ولأن الحقائق اليوم تعددت وتنوعت، اصبح من يدعي انه الحق المطلق والرأي الأفضل بلا منازع شاذاً مستنكراً مستهجناً بل اصبح الجميع يدعي انه يمتلك فقط جزءاً من الحقيقة ويسعى الى المزيد وأصبحت القناعة ان كل الحقائق حولنا نسبية وليست مطلقة وان خلاف وجهات النظر يجب ان لا يؤدي الى الاقتتال وانما الى تلاقح الأفكار والتعاون للوصول الى الأفضل وهذا هو حال ورأي المسلمين في أمريكا (او اغلبهم على الأقل!) وهذا ما يحاول المجتمع الأمريكي عمله مع المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى حيث تحتوي أمريكا بشراً يعتنقون كل ديانات العالم ويمارس “اغلبهم” طقوسهم الدينية بكل حرية وبما لا يخالف القانون ولا يضر بالأمن العام او يخل بالنظام.

من الأسباب التي دعتني الى كتابة هذا المقال هو العجز الكبير في مصداقية الاعلام العابر للقارات حيث يمتلك الغرب صورة مشوهة عن الشرق ويمتلك الشرق صوراً مشوهة عن الغرب والسبب هو الاعتماد على روايات شخصية وتجارب مر بها البعض فكتبوها وحاولوا تعميمها على كل شيء فترى ان مسلماً في بلد ما تعرض الى المضايقة فكتب ان البلد الفلاني كله يحارب الإسلام والمسلمين! متناسياً ان هناك غيره الالاف وربما الملايين من المسلمين الذين يعيشون ويتعايشون مع سكان ذلك البلد بكل حرية واستقرار، ولا ننسى الاعلام الموجه من كل أطراف العالم لأيهام الناس بحقائق مغلوطة لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها. ومن هنا وجدت ان من واجبي ان ابين بعض ما رأيته بأم عيني وسمعته بشكل مباشر من العشرات بل والمئات من المسلمين في أمريكا مما رأوه ويرونه في وضعهم هنا وما يعيشونه من إيجابيات وسلبيات حالهم في ذلك كحال كل البشر في كل مكان في العالم فلا وجود لجو مثالي إيجابي 100% لأي انسان على وجه الأرض الا ما ندر.

بداية وقبل كل شيء يجدر الإشارة الى ان عدد المسلمين في أمريكا اليوم أكثر من 8 ملايين مسلم يتوزعون في كل الولايات الامريكية كلاجئين او مواطنين أمريكيين ولدوا في أمريكا او مبتعثين للدراسة او العمل وغيرها من الأسباب وهم يتوزعون بنسب مختلفة ويتركزون في بعض الولايات أكثر من غيرها ولهم في تلك الولايات مثل مشيغان وتكساس اسواقهم الخاصة ومطاعمهم ومحلاتهم التي تبيع نفس المنتجات التي تباع في أسواق الشرق الأوسط والبلدان الإسلامية ومنها المنتجات الحلال من لحوم ومنتجات حيوانية أخرى ولهم مراكزهم الدينية من مساجد وحسينيات وهي ترفع الاذان (داخل المسجد والحسينية فقط حيث لا يجوز رفع صوت الاذان في أمريكا خارج مراكز العبادة بعكس الكنائس!) وتقام فيها الصلوات وتُحيا فيها المناسبات الدينية من رمضان وعيد وغيرها. يمارس المسلمون حريتهم في هذه المراكز بشكل كبير وتتفرع من هذه المراكز الدينية

مؤسسات اجتماعية وتعليمية لتعليم اللغة العربية للأطفال الصغار الذين يولدون في أمريكا لكي لا ينسوا لغتهم الاصلية ولا ينقطعوا عن اصولهم واللغة الإنكليزية للقادمين الجدد لتسهيل عملية انتقالهم واندماجهم في هذا المجتمع الكبير كما تقدم هذه المؤسسات الدينية والاجتماعية خدمات كثيرة للجالية المسلمة هنا وفي اغلب الولايات من مساعدات مالية وعينية للأسر الفقيرة ويتعاضد المسلمون هنا بشكل غير موجود حتى في بلدانهم الاصلية حيث تكاد الفوارق والاختلافات بينهم تتلاشى هنا ولا يعود المذهب والطائفة والبلد اساساً لتعاملهم فيما بينهم بل يجمعهم دين واحد ولغة واحدة (على الاغلب) ويغلفهم جميعاً غطاء القانون الصارم القوي الذي لا يسمح لأحد بالتجاوز على احد (الى حد كبير طبعاً وليس مطلقاً) فترى المسلمين هنا يبحثون عما يجمعهم وينسون او يتناسون ما يفرقهم.

كل هذه الأشياء جميلة ومشجعة ولكن للأسف مع كل إيجابيات هناك سلبيات ترافقها دوماً. حيث سعى الكثير من المسلمين وكوسيلة للتأقلم مع المجتمع الجديد الى التضحية بالكثير من عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية (وحتى الدينية منها!) ومنها التساهل في مسألة الاكل الحلال واللحم للحيوانات المذبوحة على الطريقة الإسلامية حتى شاع بين الكثير منهم (سمي وكل) أي بمعنى فقط قل (بسم الله الرحمن الرحيم) وكل من اكل المطاعم والبيوت مدعين ان لهم في ذلك فتاوى من علمائهم وان هؤلاء (اهل كتاب) وطعام اهل الكتاب حلال لهم! والكل يعلم ان المقصود بطعام اهل الكتاب هو القمح والشعير وغيرها وليس (ما اهل لغير الله به) فالمذبوح على الطريقة الإسلامية معروف الشروط والمواصفات ولكن الكثيرين يغالطون أنفسهم او يخدعون أنفسهم او لا يعرفون كفاية عن دينهم ليفعلوا ذلك او ربما ببساطة يحاولون ان يبدون للأخرين على انهم منفتحين او مشابهين لهم والله اعلم.

من السلبيات الأخرى هنا في أمريكا هي مشاعر الكراهية المتبادلة بين متطرفي المسلمين ومتطرفي الأمريكيين حيث تشهد أمريكا حالات قتل متبادل يقوم فيها مسلمون متطرفون متعصبون متأثرون بأفكار داعش والقاعدة بالهجوم على أناس عزل او جنود في قواعدهم العسكرية هنا وقتلهم مستغلين قوانين حيازة السلاح هنا وبنفس الوقت يقوم متعصبون ومتطرفون امريكان بالهجوم على مسلمين وقتلهم في بيوتهم او مراكز عبادتهم وهو امر لا يختص بالمسلمين فقط فالسود والاسيويون واللاتينيون وكل الاجناس الأخرى تتعرض بين فترة وأخرى الى جرائم كراهية وعنصرية ويذهب ضحية هذه الجرائم أناس أبرياء من كل الأطراف ولكن الجميل في الامر ان القانون لا يحمي احداً بل الكل يتعرض الى العقوبة على جرائمه ويستقبل المجتمع هذه الجرائم من كل الأطراف على انها تصرفات شخصية لا تعكس المجتمع المسلم كله ولا المجتمع الأمريكي كله بل ويتعاطف الجميع مع عوائل الضحايا ويجمعون لهم التبرعات ويساعدونهم قدر الإمكان.

من الأمور المثيرة للاهتمام ايضاً ان هناك جمعية او لجنة للعلماء تجتمع لتحدد بداية او نهاية الأشهر الهجرية ورؤية الهلال ويتوحد كل اتباع المذهب الواحد خلفهم وهو امر افضل بكثير مما يحصل في بلداننا الإسلامية حيث يصوم أناس ويفطر اخرون في نفس البلد ونفس المدينة بل ونفس المنطقة احياناً بسبب اختلاف الآراء حول رؤية الهلال وغيرها من الأمور الشرعية الأخرى ولكن هنا وجد علماء الدين طريقة افضل في التجمع كلجنة او مؤسسة تصدر فتاواها موحدة لتوفر الكثير من العناء والمشاحنات والبغضاء بين اتباع فلان او فلان من الناس وهو الحاصل للأسف في بلداننا الإسلامية حتى الان وحين رأيت ما رأيت من فتاوى وبيانات موحدة هنا كم تمنيت ان نرى مثل ذلك في بلداننا ومراكزنا الإسلامية يوماً ما مما سيوفر على الناس الكثير من الجهد والانشغال الذي يأخذ وقتاً وطاقة من حياتهم اليومية للتركيز على أمور يفترض انها مفروغ منها منذ قرون،

وبدل ان ينشغل الناس في متابعة من صام ومن افطر وهل الشيء الفلاني حلال عند العالم الفلاني ولماذا هو حلال عند فلان وحرام عند عالم اخر؟ أقول بدل كل ذلك لو وفر علماؤنا كل ذلك العناء على الناس وسهلوا لهم الطريق الى ربهم واتاحوا لهم المجال للسعي الى العلم والعمل بما ينفع الناس ويعمر الأرض. وكما نجح علماء الإسلام في عمل ذلك في أمريكا فيمكنهم النجاح في عمل نفس الشيء في بلدان الإسلام المترامية الأطراف والله الموفق لكل خير.

اخيراً وليس اخراً اود القول بأن المسلمين في اقاصي الأرض مطالبون اليوم كما كانوا في كل وقت وحين بالدعوة الى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة وان يظهروا أفضل ما في ديننا للناس ليكونوا دعاة الى الله بغير السنتهم او متفجراتهم! فالعالم اليوم أحوج ما يكون الى الكلمة الطيبة والعمل الصالح والعلم النافع والناس عبر العالم ترى وتسمع كل شيء كل يوم وتقدر الصالح وتمقت الطالح وتبحث عن الخير وتبتعد عن الشر والمنكر فلم يعد هناك ما يخفى او يمكن ستره فالله الله في ديننا كونوا زيناً للدين بأخلاقكم واعمالكم وحببوا الناس الى الله ودينه ولا تبغضوهم بالدين بسوء العمل والتصرف واعلموا ان الاخرين يحترمون الملتزم بدينه حتى وان كان مختلفاً عنهم شرط ان لا يؤثر على حياتهم ونظام دولهم فلا تبيعوا دينكم لتشتروا رضا الاخرين والله من وراء القصد وهو يهدى الى الحق وهو على كل شيء قدير.