مفتتح أول
ما أوسع ألأحلام وأقصر العمر، إذا لم يتح لك أن تقول كل ماتملك وبما يكفي،ولم يتح لنا أن نقول فيك كل مانريد، معذرةً ،فلفرط ما تماهينا معا، لانعرف من منا الذي
أرتحل/ 60 ص/ مونتاج شاعر
مفتتح ثان
شعرية العمر هي في ديمومة الدهشة ، وهي الشباب الذي لايشيخ،فليس الشباب زمنا معياريا للعمر تحدده السنوات ،
إنما الشباب حقا رؤية متقدمة للعالم تتجاوز إحباطات السنوات التي تخترقك،ومن هنا،مالم يخضع العمر لقانون
الشعرية، بهذا المعنى،فأن المرء يتشاءب حياته ويصبقها
من الضجر/ 11
وأنا اتأمل في هاتين الشذرتين من الحجر الكريم ..أرى ان العابر الإستثنائي الجميل،المطوّب ثلاثا، محمودنا عبد الوهاب يهبنا درسا شجاعا،في جعل الجهات كلها :أمام..وهكذا يشفينا،محمودنا ، من مرض(تثبيتات السعادة)حيث تقرفص الذاكرة في تكرار زمن نفسي يستعبدها،ويغلق عليها الأبواب ويركسها في هواءات جوانية ومحمودنا،في قاموسه،يحدث إنزياحا (محموديا) في مفردة شجاعة،وهو ينضّدها في تراتبية ذهبية الإنتاج:
*الراتوب ألأول: سعة(دهشة الطفولة في أول العمر)
*الراتوب الثاني: ثورية الرومانسي الجماعية
(الحلم الرومانسي لتغيير العالم وبنائه من جديد،في وسط العمر)
*الراتوب الثالث : (الومضات الشحيحة للسعادة مثل غمزات
النجوم في ليل غائم ..آخر العمر/11)..وتكون مساحة الحلم
لها قوة المركز،تلك القوة المشاعة التي يتضاءل الواقع أمامها
:(في منتصف الخمسينات..في تلك السنوات كانت أحلامنا تتقد، تلاحقنا كما تلاحقنا حقيقة الواقع أيضا،غير ان مساحة
أحلامنا،كانت تتسع حتى لم تبق للواقع سوى هامش ضئيل/49)
أرى ان الوفرة حاضرة بين قوسي: الدهشة——- الومضة
واعني بالوفرة،الثورية الرومانسية الساعية بوعيها في حراك
المتغيرات لتخليص مجتمعها من مؤثرية البؤس..
إذن من شروط الشعرية،على العمر:
*صيانة: دهشة الطفولة..
ولايمكن بث الصيانة، دون تغذية الطفولة بالوعي السعيد،
المشروط بتشغيل المخيلةعلى مدار العمر،وتعني المخيلة
هنا أحداث الإنزياحات القزحية الأقواس لموجودية الوجود
والموجود…ليس المهم من يصل أولا..
الأهم من أسبغت عليه الرحلة..سعةً في فضاءات ذاكرته
والسعة لاتعني ألأرشيف ..السعة :تكمن في القوة الحصانية
للأجنحة بكل مافي مفردة جناح من إنزياحات وهّابة…
-2-
وأنا أعاود التحليق في فضاءات (شعرية العمر)
لماذا أستعيد عنوانا آخر وأدلفه منه الى ذات المغزى،
العنوان هو(حياتنا بعد الستين) للمربي الفذ (سلامة موسى)
قرأتُ كتاب سلامة موسى وانا في نعومة رومانسيتي الثورية،فعاهدتُ سلامة المفكر،سأكون وفيا لتعاليمه،كان
ذلك في أوائل سبعينات القرن الماضي،أي بعد مضي عقد
ونصف العقد على رحيل المربي الكبير سلامة موسى..
وهنا أتساءل اليس المشترك ألإتصالي بين موسى ومحمود
هو الحلم الرومانسي ذاته،الذي لايشيخ،فهو رؤية متقدمة للعالم تتجاوز إحباط السنوات التي تخترقك،وهكذا تقنّون
الشعرية أعمارنا،حتى لانتشاءب حياتنا ونبصقها من الضجر
حسب محمود عبد الوهاب..وعلى نهجه أقول
(السعيد السعيد من يشيخ على نحو جيد/25)..
ولايكتفي العابر الإستثنائي بذلك ..هاهو يمرحل شعريات
العمر/11-12-13
*الشعرية العذراء، هي:
(كنا صغارا نمتطي قصبة لانتخيلها حصانا،إنما نراها حصانا حقا.نرفع أعجازنا عن القصبة حين نسرع ونقعدها
حين نتريث في السير،وبعد جولتنا،نركن القصبة الحصان عند جدار،نشدّ مقدمها بالحبل بحنو بالغ../11 هذه هي الشعرية ألأولى من عمرنا)..
إذن الشعرية الأولى أو الشعرية العذراء،كما اريد تسميتها
هي ذلك البياض الناصع بلثغته، المجبولة من الطفولة بأفقها
التخييلي..حيث تلتقط إستجابة الطفولة،تلقيها ،لمايجري على شاشة السينما،وتحديدا في أفلام الكابوي ..وهذي ألإستجابة من لدن الطفولة..لاتضع فاصلا بين المتخيل / المرئي..فالملموس هنا المتخيل وهو المعيش ،عبر ذاكرة عذراء هي ذاكرة الطفولة..الصافية من شوائب المصدات..
وحين تكتمل هذي الخطوة ألأولى من الشعرية..ينتقل الإنسان
الى شعرية الطريق السالكة بأزدواجها القيمي،فالطريقة الى
التعلم،يمر عبر الطريق الملكي ..للمحبة عبر العيون:
(في المدرسة،كبرنا،إستقامت قاماتنا،غالبا ماكنا نقطع الطريق الى المدرسة بتصنّع،وبوقار رومانسي،وبوجوه صينية بلا
إنفعال،الكتب في اليد اليسرى،ونظراتنا الى الجهة الأخرى من الشارع الضيّق،حيث تمر طالبات المدرسة المجاورة،وهن يترققن في مشيتهن،وترتمي فجأة رقتهن في صدورنا،نحن طلاب المدرسة الإعدادية،وهذه هي الشعرية
الثانية من عمرنا/ 12)..
نلاحظ المسافة بين الشعرية الأولى والشعرية الثانية ليست قصيرة،وثمة مسافة بين الشعريتين..مسافة مكتوبة بالحذف
وعلى القارىء ان يسهم بملئها..وهذا هو الإقتصاد في ألأسلوبية الذي إنماز به إستاذنا العابر ألإستثنائي محمود عبد الوهاب
وحسب مفهوم إجترحه لي مرة (التكتيف)..ومن ترققهن تتشقق (تغافلهن)..حيث يتحول الفضاء المستطيل العام،أعني(الشارع الضيق) في الشعرية الثانية الى فضاء مسيّج بحرية مشروطة..،يستكمل مسارا تعليميا وعشقيا ،ربما
(في الكلية،امتزجنا نحن وهن معا في زمالة متكافئة،أحاديثنا
ودية،لكنها تتستر أحيانا،عن الإعجاب،بدثار حي،وهن يتغافلن القصد. وفي غرفة الصف،يلتمع زجاج النافذة بوهج الشمس،وكنا داخل الصف،نصغي معا الى أساتذتنا الكبار ونزداد كل لحظة علما
ورؤى ووعيا..وهذه هي الشعرية الثالثة/ ص12) ..إنها حقا شعرية العلم والمحبة ثم تأتي شعرية الرجولة في إندراجها عبر القراءة والكتابة المنتجة وعيا متزايدا،يتجاوز فيه الرجل المثقف يقينياته المطلقة عبر التجربة بكدماتها المانحة وعيا في التجاوز:
(أصبحنا رجالا.نقرأ ونكتب،وننشر مانكتبه في الصحف
والمجلات ونصدر الكتب.حماسنا شديد وجدالنا حول ما نعرف وما نجهل حاد غاضب،لانريد أحدا يخطئنا نحن الذين على صواب دائما )..نلاحظ هنا ان هذه الشعرية منشطرة الى شطرين فهي تبدأ ب
(أصبحنا رجالا) وتنتهي ب(لانريد أحد يخطئنا نحن الذين دائما على صواب)..هنا شعرية الأيدلوجية الجمعية بيقينها المطلق..
ثم ينتقل السارد الى الشطر الثاني من هذه الشعرية في قوله
(أصبحت الآن رجلا حصيفا مثل بحر هائج ثم هدأ) نلاحظ هنا الإنتقال من(أصبحنا رجالا)إلى (أصبحت ..رجلا حصيفا)..أعني الإنتقال من الكثرة الهائجة الى الواحد الهادىء..لكن تلك الكثرة الهائجة،لم تحذف ف(آلآخرون من الشباب آلآن،الذين في ما مضى كنت قرينهم،يرتدون ارديتك ويتجادلون بحماقاتك نفسها،إنهم أنت لكن شخصهم غيرك..وهذه هي الشعرية الرابعة/12) في وحدة سردية الشعرية الرابعة،ثمة محذوف هائل،الذي هو بحق المضاد للشعرية برمتها..أعني ماجرى للسارد من جراء 8شباط 1963. من سجن وفصل اداري..وإنكسارات في العمود الفقري للروح، التي اخذ ينتصر عليها بتلك السخرية المهذبة ..المبثوثة شفقا في قصصه وروايتيه (رغوة السحاب) ومخطوطة(رواية بحجم الكف)
وبمحبة التي لاتخلو من صوفية من طراز خاص،كان يتواصل من خلالها مع الوجود والموجود..وتأتي الشعرية الخامسة،عبر توسيع الفضاء بأجنحة السفروزرقة العشق الذي يجعل سطح البحر يكاد أن يتبلل،حسب محمود عبد الوهاب..ويكون هذا العشق الفذ مصحوبا بالغنج وبنظرة عجوز متلكئة متذمرة تنظر اليك كأنها تشتمك..وخلاف لهذي ألإتصالية المتضادة بين العشق والتذمر..تتمأسس الشعرية السادسة،في مدينة السارد، وتكون للسارد وظيفة القناص ،في لحظة برد قارص حيث(شاب بهي الوجهبقامته المستقيمة،وقميصه الخفيف الفضفاض،يتجاوزك بلا مبالاة في تلك اللحظة أمسكت بخفة ملابس الشاب وتكاثف
أرديتك،ذلك فارق الزمن بينك وبينه…………………..
………….في تلك اللحظة والشاب يتحسس موبايله،أدركت
أنك عشت وكنت سعيدا حتى بهذا العمر وهذه هي الشعرية
السادسة.)
-3-
مشيدات الشعرية:
يتمفصل الكتاب من ثلاثة فصول،وذلك معلن في(دليل النصوص)
شخصيا ترى قراءتنا ان الكتاب مشيد من دعامتي رئيسيتين:
*الذات
*الموضوع
والمسافة وهمية مثل الجغرافيا،بين الدعامتين هذا ألأمر
يجهزني بالسؤال التالي:
هل شعرية العمر هي سيرة العمر شعريا؟ أليس هذا
مانراه من خلال(عين الجدار) وهي عملية(تكتيف)*
لسيرة محمود عبد الوهاب..
*مفلات تفكيك الصفير
فجر المعرفة يبدأ بالمسطور،نلتقطه مفتاحا ل(نبحث عن ذواتنا خارجها/65)
*إتصالية شعرية القراءة/ مباهج العمر.
*دهشة الطفولة/ طفولة المعرفة
ثمة تفعيل إتصالي لذيد بين الطفولات ،فنحن ننتقل من دهشة الطفولة في أول العمر ص11 الى طفولة المعرفة في ص65
والطفولة الثانية، هي الصخرة التي ستشيد عليها السيرة الثقافية للقارىء،وحسب تعريف محمود عبد الوهاب
(هي معمار الخبرة الذي سيشيّد كلما كانت الخبرة تراكما
معرفيا،ووعيا بالحياة،وتنظيما لها)..ورافعة القراءات تلك
مزيج رباعي غير متناسق ،حسب قول المؤلف:
*لغطنا بما نقرأ
*إستباقنا ألأقران بما نقرأ
*أدعاؤنا فهم ما نقرأ
*تمثلنا ما نقرأ في سلوك لايخلو من أوهام
نحن هنا أمام تشخيص علمي،لأدوار الإستحالة المعرفية
مررنا بها معظمنا..لكن حقا من هذي الفتائل وحدها
(تتوهج الذات بفتائل المعرفة المبكرة)….
تواضع المعلم محمود،ودقته العلمية الصارمة مع نفسه، تجعله يتراجع قليلا..وهو يعلن(ما أكتبه آلآن،ليس تاريخا منضبطا،لتحولات القراءة ومباهجها)..شخصيا اراه راصدا
امينا لتجربة معرفية جماعية في الأقل ضمن جيله النهم
معرفيا، للكتاب جيل خمسينات القرن الماضي..ضمن
(مجتمعات محلية في المكان،لقطيعة التواصل المعرفي بينها
بسبب صعوبة الإتصال المكاني/175)..لكن عنكبوت ألإتصال،وحده من تسبب في (إنضغاط الزمان/176)..
هذا التطور المعلوماتي المتسارع،أزاحة بشرسة نمر
أنظمة من الرصانة والقصدية..فهناك من يباغتك
و(يسحبك الى عدسة موبايله من دون أن تدري/9)..
أعود لصفحة 65..بعد أن ينفي عن نفسه صفة المؤرخ
يلتقط صورة أداتية لعمله وهي كالتالي
(أنه إستبطان قائم على مقدارما أمسك به من حقيقة الإستذكارات والمعرفة وعلى مقدار ما أعجز عن أمساكه إستبطانا أولغة).هنا يكون الأشتغال على الذاكرة
*دوام المرآة..
العلاقات في شعرية العمر،مشيدة عبر المرايا المتقابلة
وهي ليست مرآة نرسيس، بل مرآة غيرية،كما هي
(مرآة محمود عبد الوهاب )*في روايته رغوة السحاب
وهنا تؤثل الذاكرة حقلا علاماتيا باذخا
*نص الصورة
*عين الجدار
*مكتبة فؤاد التكرلي
*جسر وأقصوصتان
*مقاهي حسين مردان
*عبد الملك نوري والخيال العلمي
*القطار نصا
*المبدع والذئب
فهو يرى مصير مكتبته في محنة فؤاد التكرلي مع مكتبته
(41)..
ومن خلال هذي العينة من العنوانات نرى الشخص معلّم
بقرينة فارقة،تميزه عن سواه ..وفي كل هذي القرائن
يكون مؤلف شعرية العمر تاليا والعلاماتية أولا
الجسر ومهدي عيسى الصقر أولا..ثم محمود
حيرة فؤاد التكرلي مع مكتبته..ثم محمود
أو..يكونان معا..وهكذا يصوغ المؤلف سيرة ذاتية،صياغة عذراء إجناسيا..فهو لايكتب سيرته بالطريقة المألوفة،بل عبر مرآة غيرية يبصر فيها نفسه من خلال غيره ذلك الخير الحميم بالنسبة له، وهكذا وبشعرنة المسرود عبر إقتصاد أسلوبي:
(أتساءل آلآن.كلما ضاقت بي العزلة،واجتاحني إستيحاش مرير مما حولي،يحملني مهزوما بالمزاج المكتئب الى فضاء
الشارع الفسيح الذي أجد فيه خلاصي….أتساءل أأنا أجتماعي بالطبع كما يقول فلاسفة ألإجتماع أم أنا إجتماعي
بالضرورة كما يقول الماركسيون؟أستدرك وأقول أنا إجتماعي بالضرورة،تلك الضرورة التي تأخذني الى الشارع
اليومي المزدحم الضاج وتضعني في خانة لمكتب صديق
أو على تخت مقهى شعبي أو كرسي مجاور لمطعم..
هكذا يبدأ يومي،أنا المسكون بوحدته،تلك الوحدة التي تحملني
الى نوع خاص من الكتب،والى نوع خاص من القراءة تنفتح
على علاقة ألأدباء والفنانين ومجالسهم وسيرهم بعفوية ألإنسان وسماحته،مثل هذه الكتب تنساب متعتها الى داخلي
أتوقف لحظات عن القراءة، أتأمل بلذة وندم معا الخسارات
والمباهج التي أكتنفت حياتي..غالبا ما أتوق الى لقاء تلك الغجرية،وأسألها: هل بألأمكان أن يرجع الزمن حقيقة،وتعود
هي الى تغيير مواضع أحجارها اللئيمة التي فرشتها
على ألأرض ذلك المساء..هل بالأمكان؟)
*محمود عبد الوهاب/ شعرية العمر/ دار المدى /ط1/ 2012
*هذه المقالة /خلاصة بحث مطول عن كتاب شعرية العمر..وهذه الخلاصة محاضرة القيت في اتحاد ادباء البصرة/ اصبوحة السبت /30/6/2012
و منشورة في مجلة إمضاءات /العدد الثاني/ الأول من تشرين الثاني/2012
*عابر أستثنائي/من أجمل قصص محمود عبد الوهاب بالنسبة لي وهي من قصص مجموعته(رائحة الشتاء)/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد/ط1/1997
*مرآة محمود عبد الوهاب/ مقالة لنا منشورة في مجلة الاسبوعية في حزيران/ 2011