وقـــفــة :
إشكاليتنا والتي ربما لم ننتبه إليها جيدا؛ أننا نناقش قضايا مسرحية خارج سياق ما يحيط المسرح العربي من ملابسات فنية / تقنية وإشكالات مفاهيمية ، تجعله بعيدا كل البعد ككينونة حاضرة وفارضة نفسها في البنية المجتمعية العربية والتي لا يمكن الاستغناء عنها ، باعتبار المسرح وجه الحضارة الإنسانية؛ فبانحطاطه تنحط القيم والمعايير؛ وبإشراقاته تنمو جمالية روح الإنسانية في الإنسان؛ طبعا ما أنتجه الغرب شرقا وغربا من مفاهيم فكرية وتصورات تقنية يناقش وعلينا مناقشته في الحدود النسبية وليس في المطلق؛ كما هـوحاصل ( الآن )لأن هنالك مواقـف وقضايا وأولويات في المجال الإبداعي وفنون الآداء عامة علينا طرحها على مائدة الحوار والمناقشة ؛ لأنها لازالت تتحكم في الذهنية العربية منها مسألة – التحـريم – فالمسرح العربي لازال محكوما بمسألته ومقتضياته الفقهية ؛ بحيث هنالك فقهاء ومتفقهين؛ يلاحقون الإبداع بشتى ألوانه (…) عبر الفتاوي والخطب والكتابة والتأليف ؛ إذ الأمر يحتاج لمواجهة تناظرية وحوارية بين المسرحيين والفقهاء ؛ وهذا يحتاج في الحد الأدنى على ثقافة أصولية وفقهية يتسلح بها الفنان العربي؛ وهـذا غير متوفر بالشكل الذي يساهم في البرهنة والحجاجية ؛ من هنا يكمن ضعف [المسرحي] أمام سلطة الفقيه المدعومة بمرجعية دينية ؛ رغم أن المسرح أصول نشأته دينية ؛ ونابع من طبيعة الصراع ?ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين?(1) إذ من الضروري أن تنوجد فئة تقابلها فئة أخرى مضادة أو قوة تقابلها قوة أخرى. وهذه الثنائية منذ صراع قابيل/ هابيل وهي متمظهرة وحاضرة من أجل الاستمرارية والاستقرار في العالم. وفي هذا الباب يقول الإمام الشافعي : لا بأس بالمبارزة ( أي) الصراع . لكن (المسرحيين/ المبدعين) شبه منهزمين أمام (الفقهاء/ العلماء) لأن طغيان الفكر السلفي بتصنيفاته مازال متحكما في دواليب البنى الإجتماعية ؛ رغم ادعائنا بالحَـداثة وخاصة أن المسرح العربي يناقش ما بعد الحداثة أو ما بعْـد الدراما (؟) إنه سياق الوهم لملاحقة الركب؛ ونحن لم نستطع مناقشة الفقهاء نـَدا بندٍ ، أو تفنيدا لطروحاتهم . دفاعا عن الإبداع الذي نؤمن به ؛ لترسيخ المسرح كسلوك ثقافي/ اجتماعي فعليا وعمليا. ودفاعا عن النعوت القدحية التي تم استرسالها كالتالي: يعـدون هذه السفالة والنذالة وصفاقة الوجه والوقاحة من العلوم والفنون، ويسمـون الممثل السفيه الجاهل الأحمق الساقط الفاسق الفاجـر بل الملحد الكافر مفـسد أخلاق المسلمين ودينهم….( 2) ونـدلي بتموقف آخر يذكي ما سبق ويؤطر المسرح (الداء العضال)؟: وأن الغثاء والخونة الذين توافدوا على الغرب هُـم الذين جلبوا هذا الداء العضال ، من جملة الأدواء التي نكبوا بها الإسلام والمسلمين بدل أن يقدموا للأمة العلوم العصرية ، كالصناعات النافعة والاختراعات المفيدة (3) أما أخطر التموقفات تجاه الممثلين/المسرحيين هـو كالتالي: … بدخـول قوافل الفـسقة والفاسقات والمفسدين والمفسدات ، معلمي الرذيلة ، ودعاة الفحشاء والمنكر …. لصوص الفضيلة ، وسراق الشرف والعفاف ، وقاتلي الحياء ، ومعدمي المروءة ، ومدمري الأخلاق، ومخربي الأفكار، ومثيري الغرائز ، ومهيجي الشهوات (4) وما أكثر من هاته النعـوت الجارحة والقذف الجانح الذي يعاقب عليه القانون الجنائي . ولكن ربما أغلب المسرحيين لم ينتبهوا لتلك الكتب الحاملة لعملية تحريم المسرح وخلافه . أو أن السبب المباشر يكمن في غياب أو شبه غياب لثقافة فقهية متنورة لدى أغلب المسرحيين( العرب) لمواجهة الفكر السلفي المحافظ ومقارعة ذهنية التحريم الحجة بالحجة ؛ هنا ليس مطلوبا أن يكون المسرحي المبدع أو الباحث متعمقا أو متخصصا في الأحكام الشرعية والمسائلَ الفقهية ؛ بل على الأقل التمكن بمبادئ عامة لمناهج التفسير والتأويل والتفنن في أساليب الحجاجية، للاستدلال بها على حكم التحريم تجاه المجال المسرحي مع الاستشارة واستقصاء أَهل الاختصاص. لأننا نغالط أنفسنا أن ذهنية التحريم لم تعُـد حاضرة بتلك القوة التي كانت ؛ أو أنها عديمة التأثير بحكم تطورات العصر. بالعكس فهي تتقوى في سياق الإسلام السياسي وتزداد ضراوة في البنية المجتمعية العربية ؛ وتتأسس عنكبوتيا في بوثقـة الجماعات و المنظمات والتنظيمات الحزبية – الإسلاموية – للسيطرة على الجماهير؛ وكذلك كان ولازال والمسرحيون العَـرب شبه غافلين عن تمظهر ذهنية التحريم في عزوف الجمهور عن الحضور؛ فليس هنالك دراسة سوسيولوجية في قطر عربي( ما ) تحـدد لنا الأسباب الجوهرية عن العزوف للحضور للعروض المسرحية .مقارنة بعِـقـد الستينيات والسبعينيات من ( ق, م ) وإن كان فعل التحـريم يتمرر بشكل غـير مباشرفي كثير من الأحيان عبر بعض المدارس والمعاهد وبعْـض المساجد وفي خطب الجمعة ؛ لأننا في مجتمع بنيته فقهية بالأساس . وهذا من المغالطات التي لم يفهمها العَـديد من المسرحيين/ الباحثين الذين تناولوا موضوع: المسرح والإسلام (5) وبناء على ذلك ففي غياب مواجهة فكرية رصينة تجاه ذهنية التحريم التي تتحكم في البنية المجتمعية العَـربية في معْـظمها لاشعـوري بالأساس. رغم إن حاولنا أن يقترن: (( التمثيل )) بـِنيَّة العبادة ، كمـن أقامه يدعو الناس به إلي الله تعالي ، ويرى أنه بذلك فعل قربة يؤجر عليها ، فإن تحريمه أشد والمنع منه آكيـد .فكما أنه معصية لله تعالي – كما سبق شرحه – فهو بهذه النية بدعة منكرة شنيعة ، تضاهي ما كان عليه اليونانيون الوثنيون ،والنصارى الضالون(6) هنا فـذهنية التحريم تسعى لغلق كل المنافـذ ليظل المسرح العربي يتأرجح بين الفعل واللافـعل ؛ فاقـدا جمهوره وفاقدا لصولته الحضارية كيف ذلك ؟
شــيء مــن تاريخ التحــريم :
من الملاحظ أن بعضا ممن ناقش أو تناول قضية تحريم المسرح/ التمثيل، إلا ويستند على معطيات قـديمة جدا ومن مصادر جاهـزة ومتداولة ؛ كأنه ليست هنالك مستجدات. تجعل من ذهنية التحريم منظورا كائن الوجود ومتغلغلا في مجتمع المعلوميات. أم أنه منعَـدم الفعالية والتغلغل. نتيجة حُـدوت قطيعة بما أوتي من جهد للسلفيين في نحـت ومحاولة ترسيخ مفهوم علم تحريم التمثيل تعارضا بتطورات العصر ولاسيما أن الأَحكام الشرعية ، والمسائلَ الفقهية بحاجة بين لحظة وفترة زمنية إِلى تصفية وغربلة. انطلاقا من الميكانزيم المتحكم في الأَحكام والفتـاوى التي تتغير بتغير الأحْـداث والأزمنة ؛ باعتبارنا أمة مسلمة . إذ لازلنا نثير المعْطيات القديمة في العصر الحاضر كأننا شـعْـب لا يتحرك في سياق الإنماء البشري وعبر السيرورة التاريخية ؛ وبما أن الذهنية العربية؛ ذهنية محافظة سلفية بالسليقة .فمن البدهي أن يتم استحضار – سعيد الغبرا- الذي نسيه التاريخ في جوانب معينة ؛ وإن كان أفتى في حق أبي خليل القباني بأن التمثيل منافي للدين والاخلاق. بغية إغلاق مسرحه في (دمشق) وإحْـراقه فيما بعد. فالمسألة أعيدت للمشهد المسرحي بالقول: ولما عرف الشيخ سعيد الغبرا أنّ السلطان عبد الحميد سيصلي الجمعة في جامع أيا صوفيا انتظر موكبه هناك، وما إن هلّ الموكب حتى صاح الغبرا بأعلى صوته: أدركنا يا أمير المؤمنين، فإن الفسق والفجور قد تفشّيا في الشام، فهُتِكت الأعراض وماتت الفضيلة، واختلطت النساء بالرجال، فجاء أمر السلطان بإغلاق مسرح القباني، وما كاد الخبر أن يصل حتى هاجم بعض من العامة مسرح القباني، فأحرقوه… مثقفون ومسرحيون سوريون سيحملون غداً شموعاً ويتوجّهون إلى بيت أبو خليل القباني (1833 ــ 1903) في حي كيوان في دمشق. رائد المسرح العربي توفّي بالطاعون، بعد مكابدات في المنافي وحرق مسرحه في دمشق، إثر صدور فرمان من السلطان العثماني بإغلاقه (7) ولكن هاته البادرة طيبة التي أقدمت عليها أن رئيسة «جمعية النهضة الفنية للمسرح والموسيقى» رجاء بنوت (الجهة المنظمة للتظاهرة) لكن أعيد النظر في قضية الشيخ الغبرا/ القباني من خلال كتاب: وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق(8) الذي يثير معطيات بالغة الأهمية بالسند والوثيقة ؛ بحيث يكشف لنا الصراع الضمني بين الفني والسياسي؛ و استغلال المجال الديني لضرب النشاط الفني وكذلك السياسي إن اقتضى الأمرفي غياب التوافقات والفشل في التحكم في المصالح بحيث :أثارت مسرحية «عطرشان وورد الجنان» ردود فعل غاضبة من قبل بعض رجال الدين، كونها جسّدت شخصية السلطان المملوكي نور الدين الزنكي، الذي كان بمثابة ولي من أولياء الله في عيون بعض متصوفة دمشق. في عام 1878 تسلّم مدحت باشا ولاية سوريا، وطلب من القباني إعادة افتتاح مسرحه (….) إلا أنه في عام 1883 سيُقال مدحت باشا، كما سيقوم بعض الشيوخ المناوئين للقباني بإرسال عريضة إلى نقيب الأشراف في إسطنبول أحمد العجلاني يطالبونه فيها بإغلاق مسرح القباني. وخلافاً للرواية التي تقول بأن قـدوم السلطان عبد الحميد الثاني كان بمثابة نهاية الحريات وأفكار التنوير، وبداية تحالف بين الاستبداد ورجال الدين المحافظين(…) وأن موقف سعيد الغبرا لم يكن هو الموقف الطاغي في المدينة / ففي مقابل رؤية الأخير نعثر على رؤية مقابلة للشيخ طاهر الجزائري، الذي كان يعَـد من ألمع علماء دمشق وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً(9) وهذا يبين أن هنالك أصوات متعددة من الماضي مارست ترسيخ قضية تحريم الفن والإبداع من الشرق ليمتد عبر الجغرافيا العربية ؛ وبالتالي ما ألفه الحافظ أبي ال أحمد بن محمد بن الصديق ” إقامة الدليل على حرمة التمثيل” وكذا أبو الفضل عبد الله محمد الصديق ـ [ إزالة الالتباس عما أخطا فيه كثير من الناس] تحصيل حاصل لما كان سائدا؛ وما إقامة الدليل إلا بذرة انغرست في المغـرب بتأثير الشرق طبعا؛ وتم أينعت ليتم إعادة إنتاج ذهنية التحريم للمسرح ؛ بخلاف بعض ممن جزم بالقول: لا يبدو أن معركة الفقيه ( يقصد أحمد بن الصديق) كان لها من الأنصار أكثر مما نسبه هو إليها في مقدمة كتابه، فتأثيرها ظل هامشيا، بل إننا لم نكد نقف على أي رد فعل مذكور، إذ سرعان ما نسيت وأهملت بل إن أنصار الاتجاهات الإسلامية المعاصرة ودعاتها أضحوا منشغلين بتطوير المسرح كأداة للتوعية ونشر الدعوة (10) كلام هكذا ينطلق دونما تحليل دقيق وبدون سند مرجعي لقضية التحريم التي أطلقها – أحمد بن الصديق – ومدى اختراقها صفوف الجماهير. ولقد أغفل الباحث أن هنالك إخوته الثلاث وتلامذته وأتباعه على شاكلته من معاصريه وعلى سبيل المثال هناك عبدالله التليدي وهذا ( يعتبر وارث سره) محمد زاهد الكوثري / محمد بوخبزة /عبدالعزيز الكوثري /عبد الغني النابلسي / …/ والشيء بالشيء يذكر: فكتبه ما زالت منتشرة في كثير من بلدان العالم الإسلامي؛ ونحن نكشف ما في كتبه وأراءه من ضلال وانحراف…. فلا يهمنا شخصه بقدرما تهمنا أقواله الفاسدة التي مازالت مسطرة في كتبه ويتسمم بها المسلمون ؛ وخاصة أن بعض الناس نشطوا في إحياء خرافاته وضلالاته وذلك بنشر كتبه والدعاية الفارغة لها (11) للعلم أن كتاب (إقامة الدليل على حرمة التمثيل) وصل للطبعة (الرابعة ) ورقيا عن مكتبة القاهرة 2009 ويباع في الأسواق الإلكترونية (( كذلك)) حتى أن [علي جمعة ] قال : إن بعْـض المشايخ حرموا التمثيل ذاته لأنه كان عندهم هو نوع من الهزل والكذب، لدرجة أن الشيخ أحمد بن الصديق ألف كتابا أسماه “إقامة الدليل على حرمة التمثيل” (12) فـَلو لم يكن هنالك تأثير وترسيخ لذهنية التحريم في الذهنية العربية / الإسلامية . لما أثاره “مفتي الجمهورية السابق” وفي سياق كل هذا فالباحث الذي جزم [[…فتأثيرها ظل هامشيا، بل إننا لم نكـد نقف على أي رد فعل مذكور]] ربما لم يطلع على الكتب التي تحمل ذهنية التحريم للتمثيل/ المسرح ؛ وهي عَـديدة .
إذ سنحاول سردها فيما بعْـد؛ وأكيد أنه لم يطلع على إقامة الدليل في حرمة التمثيل ؛ الذي يقول : وأعجب من ذلك ؛ أنه لما كتب شقيقنا العلامة الواعية المطلع الغيور على الدين السيد عبدالله مقالا في مجلة الإسلام نبه فيه على عظيم منكر ما فعلوه فأقاموا لذلك المقال وقعدوا وأبرقوا له وأرعَـدوا وما آلو جهدا في سبِّه والاستهزاء به والسعي في أذيته….. (13)
الإحــــالات :
1) من سورة البقرة الآية 251
2) إقامة الدليل على حرمة التمثيل للحافظ أبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري – ص11/ ط – 3/2004 الناشر مكتبة
القاهرة – علي يوسف سليمان
3) إيقاف النبيل علي حكم التمثيل : لعبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم تقديم :الشيخ العلامة صالح بن فوزان
الفوزان والشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي – ص السعودية / 1992( المطبعة مجهولة)
4) طـوفـان البلاء .. التمثيل والغناء إعداد : شريف بن علي الراجحي ص2/3 بدون تاريخ ولا مطبعة مذكورة
5) انظر الإسلام والمسرح لمحمد عزيزة (و) الإسلام والفنون لأحمد شوقي الفنجري.
6) إيقاف النبيل علي حكم التمثيل : لعبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم تقديم :الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان والشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي – ص/50- السعودية /1992 ( المطبعة مجهولة)
7) مسيرة شموع «معارضة» إلى بيت أبي خليل القباني بقلم سامر إسماعيل – صحيفة الأخبار بتاريخ 27/03/2009
8) وقائع مسرح أبي خليل القباني في دمشق للكاتب الفلسطيني السوري تيسير خلف عن منشورات المتوسط – إيطاليا
ونفس الكتاب نشرته الهيئة العربية للمسرح تحت عنوان” «نشأة المسرح في بلاد الشام»
9) استندت على مقالة تحليلية لمحمّد تركي الربيعو بعنوان ( أبوخليل القباني وصراع علماء دمشق على لباس الممثلين
“الافرنجي” في القدس العربي بتاريخ 26/10/2018
10) ملامح من تاريخ الخطاب التنظيري في المسرح المغربي. لعز الدين بونيت في الثقافة المغربية ص 47 /عدد 08 /1999
11) تنبيه القارئ إلى فضائح أحمد بن الصديق الغماري : جمعه ورتبه – مصطفى اليوسفي. تقديم محمد بن عبدالرحمان المغراوي ص 15/16 مراكش المحروسة بتاريخ 20/ يوليوز1996( المطبعة مجهولة)
12) علي جمعة للممثلين: اتقوا الله وكونوا ملتزمين : بقلم محمد شحته – في صدى البلد بتاريخ 16/05/2017
13) إقامة الدليل على حرمة التمثيل للحافظ أبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري – ص20/ ط – 3
/2004 الناشر مكتبة القاهرة – علي يوسف سليمان