24 ديسمبر، 2024 3:03 ص

المسرح العراقي .. مواقف وعثرات

المسرح العراقي .. مواقف وعثرات

الظلم الاجتماعي وانتشال البلاد مما كانت تعانيه من مخلفات الاستعمار واقامة الديمقراطية ، واذن .. فقد استمد المسرح العراقي ملامحه وتوجهاته وموضوعاته من ذلك الواقع الاجتماعي – السياسي . ونستطيع ان نجد انعكاسات ذلك الواقع مثلا في المسرحية العراقية الاولى : (وحيدة) 1926م لموسى الشبندر .
   ان الظروف السياسية والاجتماعية التي سادت العراق منذ ما بعد الحرب العالمية الاولى والتي ادت الى تعميق الوعي الوطني والى الاستقلال والعدالة الاجتماعية ، حددت منذ البداية المسار الذي سيتخذه المسرح العراقي الذي سيبدأ ، في فترة ما بعد الحرب  الثانية ، في ان يحقق له وجودا واضحا ، ببروز عدد من المسرحيين العراقيين ، وظهور عدد متزايد من المسرحيات العراقية ، وهكذا نجد عامة تدخل عموما في اطار الموقف السياسي – الاجتماعي ، سواء جاء ذلك في صيغة مباشرة او من  خلال اسقاطات سياسية عبر معالجات اجتماعية .
  وفي هذا البحث السريع سنحاول اجتلاء جانب من المواقف والمعالجات التي تشكل ملمحا رئيسا من ملامح المسرح في العراق . 
  ثمة حقيقة لا يمكن اغفالها عند البحث في توجهات المسرح العراقي . تلك هي ان بداية نشوء مسرح عراقي – بمعنى ظهور مسرحيات مؤلفة من قبل كتاب عراقيين – وكحركة ذات فعل وتأثير  مستمرين وليس كارهاصات متباعدة ، كانت في فترة ما بين الحربين . تلك البداية كانت بحق بداية بكل ما تعنيه هذه الكلمة . فالمسرح في العراق لم تكن له جذور تاريخية راسخة ، او تقاليد عريقة تستطيع ان تمده بما يقومه فيجنبه ما ينهض في طريقه من عثرات ، ويمنحه قوة دافعة تحث مسيرته الى امام . وانما كان نمطا جديدا تماما من الاشكال التعبيرية الفنية ، نشأ بفعل المؤثرات التي كان للمسرح العربي (في مصر على وجه الخصوص ، وكان بدوره ظاهرة ثقافية حديثة) ان يمارسها ببطيء ظاهر على عموم الوطن العربي .
   لقد ولد المسرح العراقي في اطار الواقع الاجتماعي الذي كان قائما انذاك بما كان يكتنف ذلك الواقع من ظروف سياسية واقتصادية طاغية ، وثقافية عامة . وايجازا نستطيع ان نحدد تلك الظروف بانتهاء السيطرة العثمانية وبداية السيطرة الاستعمارية البريطانية ، ثورة العشرين ، الحكم الوطني مرتكزا بصورة اساسية الى الاقطاع ، النضال من اجل انهاء السيطرة الاستعمارية واقامة سلطة وطنية حقة .
   ولتكن وقفنا الاولى مع (يوسف العاني) و(رأس الشليلة – 1951م) التي تشابكت خيوطها في الجهاز الاداري ، وما عاد بمستطاع احد ان يجد اين رأس الخيط الضائع .. المسرحية تقدم لنا عبوة مضغوطة مما كان يتميز به هذا الجهاز من سمات تعكس مدى التفسخ الاجتماعي الذي استشرى في مختلف جوانب الحياة العامة ، ومنها الجهاز الاداري ، الذي انشيء اساسا من اجل انجاز وتطمين مصالح واحتياجات السلطة الاجنبية – العثمانية ، فالانتداب ثم : الطبقة المتنفذة في المجتمع .. المسرحية تسلط اضواء جريئة على ما كان ينخر ذلك الجهاز : جهل الموظفين .. الانحطاط الاخلاقي .. انعدام الشعور بالمسؤولية تجاه المصلحة العامة وتجاه المواطنين البسطاء .. استشراء الرشوة والوساطات .. التزلف للرؤساء واقاربهم .. انها ببساطة (ولاية ضايعة) (*) (42). وفي هذه (الولاية الضايعة) لن يجد المواطنون البسطاء غير الاهمال وسوء المعاملة والطرد .. بل وحتى التهديد : ” اخرجه من هنا والا سفكت دمه ” .. (35) .
   لكن .. اي دم يمكن ان يسفك ؟ فحتى الدم الذي يجري في عروق المراجع المسكين قد امتص .. لم تبق هناك قطرة اخرى يمكن ان تسفك .. انه يعيش في الجحيم بعينه .. وكل ما هناك اصابة العطن .. ولا وسيلة هناك للقضاء عليه (35) .
  والموظف الذي يريد ان يسفك دم المواطن ، يستطيع ان يفعل ذلك لانه (لا يعيش في بلد ديكتاتوري . نحن في بلد ديمقراطي) (34) (35) حقا … انها ديمقراطية .. لكنها ديمقراطية هذه الخاصة تتيح لها ان تنهال ضربا على المراجع الفقير (42) وتتيح لها ان تتقاضى الرشاوي.. وان تمنع عن تمشية معاملات الناس البسطاء الذين لا يسعفهم الحظ على العثور على جواز مرور ..  كارت .
  ان المسرحية لا تعكس واقع الجهاز الاداري المتفسخ فقط ، وانما تعرض ايضا العلاقات الاجتماعية ضمن اطار طبقي . فهي تصور شرائح وانماط اجتماعية معينة تنال حقوقها ، بل واكثر من حقوقها ، طبقا لتسلسلها الهرمي . فهناك القمة حيث يقبع الرؤساء واقربائهم وما تمنحه القمة من امتيازات (سعادة المدير يقول انجزوا هذه المعاملة على الفور ..) (36) ، انها معاملة اخ زوجة المدير .. صاحب السيارة الكاديلاك . ومن امتيازات القمة .. ان ينام المدير في الدائرة (40) ويسخر الموظفين والفراشين لخدمة اغراضه المنزلية ..(42) الخ ، وهناك ما دون القمة ، طبقة الموظفين المنتفعين هم ايضا من مؤسسات الجهاز الاداري ، ثم الموظفون الذين يتحركون في الدائرة الهامشية التي تحيط بالقلب الطبقي ، وفيهم حاملوا الكارتات او القادرون على دفع الرشاوي والمتزلفون واخيرا .. هناك عباد الله الفقراء والبسطاء من الناس الذين لا حول لهم ولا قوة ولا يمكن ان ينالوا حقهم في الحياة ما لم يعثروا بطريق  الصدفة او الخطأ على رأس الشليلة : كارت او توصيلة ..
   هذا الواقع الاجتماعي السقيم ينعكس في (فلوس الدواء- 1952م ) ، في جانب آخر من حياة المجتمع : المرض والموت وحلقة الوصل التي تربط ما بين الطرفين : الفقر . فانت ، ان اصابك مرض ، تفقد حقك في الحياة ان كنت فقيرا . وحتى لو حدث ووجد طبيب انساني يستطيع ان يستغني عن اجوره ، فان ذلك لن يبدل تلك المعادلة القاتلة .
   في هذه المسرحية يكشف (يوسف العاني) عن مكمن الاصابة الحقيقية في المجتمع .. انه الاساس الطبقي الذي ينهض عليه الظلم الاجتماعي . فمالك الدار التي تقيم فيها اسرة المريض ، لا يمتنع عن تقديم اية مساعدة للاسرة لانقاذ مريضها من الموت ، وانما يلح في المطالبة بالايجار حتى قبل موعده .. ومدير المعمل الذي كان يعمل فيه المريض يرفض ان يمنحه الاجور التي يستحقها .. وحين يذهب شقيقه الى المعمل ليستدين من العمال نقودا يشتري بها دواء لشقيقه المحتضر ، يتهم بتحريض العمال .. ويطرد من العمل .. وتكتمل فصول المأساة ، بسوقه الى السجن .
   في مسرحية اخرى (ستة دراهم – 1954م) يطرح العاني موضوعة المرض ايضا . لكننا هنا امام طبيب من نمط ثاني ، اجور الفحص عنده قبل كل شيء ، حتى قبل حياة الانسان ، انه طبيب ينتمي الى تلك الطبقة التي تشغل نفسها بالحفلات وتطعم حديثها بمفردات اجنبية وتهتم بالكلاب .
   في خضم نضال الخمسينات ينتقل مسرح العاني من المعالجة غير المباشرة للواقع السياسي في البلاد ، وذلك عن طريق تناول آثار ذلك الواقع على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي ، الى المعالجة الصريحة بتوجيه السهام نحو الهدف مباشرة : الجانب السياسي ، حيث يستقطب الصراع السياسي في مسرحية (انا امك يا شاكر – 1955م) الشعب وقواه الوطنية في طرف ، والسلطة الحاكمة واجهزتها القمعية في الطرف الاخر .. وتزدحم المعتقلات والسجون بأبناء الشعب ويقدم الموت للمناضلين بدون مقابل .. فشاكر يقتل ، لكنه يظل حيا في ضمير الشعب ، وتظل اه تكنى به ، فهي ام شاكر ، وشقيقته كوثر تعتقل وتفصل من وظيفتها ، ونقيب المحامين يعتقل ، ويشد المرض من ازر البطش السياسي ، فينهش صدر ام شاكر ، والطبيب الذي ينتمي الى القوى الوطنية يفصل .. ويكتمل ثلاثي الازمنة المرة بمحاربة الفكر والثقافة ، فتختفي الكتب التي يمكن ان تتحول الى مفتاح يفتح باب السجن امام مقتنيها ، وتنتهي فصول المسرحية بموت سعدي شقيق شاكر ، بعد ان اضرب عن الطعام ، لكن سعدي ايضا لم يمت .. فأمه وكل الامهات ينادين ان ناره لن تنطفيء .. والشعب سيثأر له .
   في (اهلا بالحياة) ” 1957 – 1958م ” يعود بنا يوسف العاني الى المعالجات الاجتماعية المتشابكة بما يسقطه الواقع السياسي من ظلال قاتمة ومؤثرات على الحياة الانسانية في جوانبها الاشد بساطة وخصوصية : العلاقات الانسانية الصميمة . فـ(عطا) الذي ترفض ابنة عمه الزواج منه لسقوطه اخلاقيا ،  يستغل ظروف التعفن السياسي واستعداد السلطة لاصطياد الوشايات والتهم ، ويفبرك تهمة سياسية ضد شقيق (فوزية) ابنة عمه ، مستفيدا من ظروف الانتخابات النيابية ، ويعتقل فوزي ، وتمضي الايام لتكشف ان الظلام لا بد ان ينجلي ، ومع انفجار ثورة 14 تموز تستقبل المواقع حيث يخرج فوزي ، الانسان من السجن ، ليحل فيه الانسان السيء .. (عطا) . 
   في (المفتاح) ” 1967-1968م” يحقق يوسف العاني انتقالة جديدة الى مستوى جديد مغاير في عمله المسرحي ، فهو هنا يعود الى التراث الشعبي .. الى الانشودة الشعبية التي طالما تغنينا بها ونحن اطفال . يوسف هنا يحيي زمن الطفولة وبراءتها وسذاجتها ليطرحه في صورة مسرحية غنائية شفافة .. ولعله يحيي ، من هنا الوهم الطفولي الذي يمكن ان يمنح الامل ويعد بالسعادة .. لكن ذاك الامل وهذه السعادة يظلان مجرد وهم .. سراب ، اذ ان النتيجة لن تكون غير الخيبة ، فبغير عمل انساني واع وعقلاني ، لن يكون للانسان ان ينال مبتغاه .
   في هذا العمل يطرح (يوسف العاني) ثنائية الخير والشر معبرا عنها بصيغ ومعادلات متباينة . لكن هذه الثنائية تفقد قابلية التعادل لو ان طرفها الاول قام على اساس من الجهد الانساني الواعي مع وضوح الهدف . فالعالم فيه ما هو سيء وفيه ما هو خير .. وفي جوانب ومراحل معينة يمكن للسوء الذي فيه ان يكون اثقل وزنا واشد طغيانا . بيد ان هذا لا يعني ان هذا الوضع هو الوضع الممكن الوحيد ، وانما هناك الوضع النقيض الذي ينبغي ان نكتشفه ونعمل من اجل تحقيقه ، والغاء تلك المقاييس والمفاهيم والمعتقدات التي تقود الى سيادة القوى الشريرة .. هذه القدرة .. القدرة على اكتشاف ما ينبغي ان ينفعل ، ومن ثم الانتقال الى مرحلة اعلى – مرحلة التطبيق والفعل ، هي التي يمكن ان تدفع البشر الى الخيرة .. وهو ما حصل حقا على نطاق معين في العالم .. فخلال عقد واحد من السنين تحرر واحد وثلاثون قطرا افريقيا ” واستطاع ان يثبت وجوده ، وتسعة اقطار اخرى من مختلف انحاء العالم دخلت المنظمة الدولية كذلك .. المجموع 40 دولة خلال عشر سنين فقط ” ( من 327) . و” هيئة الامم تأسست عام 1945م بخمسين عضوا والان تضم 124 عضوا . يعني ان الفرق الان بين ما كان وما هو كائن (74) عضوا .. وهذا دليل على ان حق الشعوب لا بد  ان ينتصر .
  ان انتصار الشعوب هذا لم يتحقق الا بما بذلته الشعوب نفسها ع جهد واع .. لكن الجهد وحده لا يمكن ان يصل بالمرء الى ما يبغي وانما هناك عنصر فعال واساسي يمكن ان يحول دون ان يتحول الجهد الى عبث .. ذلكم هو وضوح الهدف .. (388) فالسيف مثلا ” يستعمله انسان ظالم ، للغزو ، للاعتداء ، يستعمله بنية سوداء , ويستعمله انسان آخر للخلاص من الظلم . ليدفع الاعتداء عنه ، يستعمله بنية صافية نقية ” (340) . و” المفتاح الذي يفتح الابواب ليدخل منها النور وضوء الشمس .. هو نفسه الذي يسد الابواب ، يحبس النور ويخنقه ” (341) . واذن فان الجهد والهدف هما اللذان يحددان قيمة الشيء الغائية ، ويلغيان ، ومن ثم حيادية الاشياء (في مقال مستقل سأتناول هذا  العمل ” المفتاح” من موقع التعامل مع التراث) .
    الاختيار بين الخير والشر اذن .. ممكن لكن الذين في نفوسهم عوج .. ساكني (الخرابة – 1970م) هذا العالم الخرب ونظامه الآيل للسقوط بسبب ما فيه من سوءات واعوجاج – لا يريدون ان يروا الافكار الخيرة الموجودة في هذا العالم منذ سنين (404) . انه عالم الاستغلال والظلم والكذب .. الخ ، لكن هذا العالم يقابله عالم آخر .. عالم يضم كل القوى المحبة للانسانية والمناضلة من اجل مستقبل انساني لا مكان فيه للظلم والاستغلال .. هذه القوى تجد ما يفصح عما في اعماقها في اشعار بوشكين وكوران والرصافي ونيرودا وفي موسيقى بيتهوفن وغناء بول روبسون .. وتجد نفسها ايضا في بروتس وفي الفدائيين الفلسطينيين وفي ثوار فيتنام .. الخ . 
    واذا استطاع ذلك العالم الاخر .. عالم الاشرار الذي يضم كل المعادين للخير والانسانية .. المستعمرين والمستغلين .. والنازية ، والصهيونية التي احتلت بساتين الزيتون والبرتقال (412) ، ان يزرع ” الوباء والطاعون والموت ” (473) فان ذلك لن يدوم .. انه ” عالم مهزوم ، منهار” (475) . وامام وحدة وتصاعد نضال القوى الخيرة ، لا بد للايدي التي تضغط على رقاب الشعوب ان تكف عن الحركة ، ولا بد للدمى التي تنفذ ارادة تلك الايدي ان تصاب بالعجز (475) .
  هذا الايمان بانتصار قوى الخير يعرضه لنا ايضا عبدالملك نوري في مسرحيته (خشب ومخمل – 1965م ) (*) . المسرحية تدور في البلاط الايراني . فالملك يريد الحفاظ على العرش الامبراطوري بأي ثمن ولا وريث له . ويضطر الى الانفصال من زوجته ياسمين التي تهاجر الى اوربا ، ليتزوج ثانية بأمل ان تعطيه الزوجة الثانية وردة شاه وريثا للعرش . وهي تفعل ذلك حقا لكن الوريث ابن غير شرعي .. فالملك عقيم . وفيما ينشغل الملك بأمور حياته الخاصة وينفق المعونات المالية التي تقدمها الحليفة الكبرى ، باسراف بالغ ، تضطرم الثورة في البلاد . وتلغى احزاب المعارضة وتغلق صحفها . ويعدم قائد الفلاحين (كاوة) وكذلك زعيم الحزب الجمهوري (هامان) . وتحتشد الجماهير الثائرة حول القصر الملكي تريد احراقه .. وفيما تستمر الثورة بالتصاعد ، نفاجأ بتحول جذري في موقف الملك الذي يصل بصورة مباغتة تماما الى قناعة جديدة بالحياة وبشخصه وبمكانته وبالعرش وعلاقته بالشعب . ان حياته كانت ضياعا لانه لا يستطيع ان يعيش وفق ارادته (103) والحياة تمثيلية (101). ويتمنى لو كان مجرد خادم صغير يخدم ” باخلاص هدفا ما .. هدفا يبدو لنا ساميا في الحياة . اما ان يفني المرء كل حياته في خدمة خشب ومخمل فذلك هو الضياع .. هو العدم ” (102) .
   وتحاول الحاشية والملكة الجديدة ان يحثوا الملك على الفرار دون جدوى , فقد قرر ان ينهي كل شيء . ويعلن انه يريد التحدث الى الشعب مباشرة : ” انه شعبي انا منه وهو مني وكل رجل يسقط هو انا ” (114) ! ويخرج الملك الى الشرفة كي يتحدث الى الشعب الثائر .. لكن سرعان ما تعلو لعلعة الرصاص ويسقط الملك قتيلا . وتشعل النار في القصر حيث تلتهم النيران الملكة السابقة ياسمين التي كانت قد دعيت لحضور احتفالات عيد الجلوس ، وكذلك ولي العهد غير الشرعي .
   المسرحية تتناول موضوعها تناولا فوتوغرافيا مباشرا باستثناء الخاتمة ولا شرعية ولي العهد . انها لا تدع المشاهد ان يكشف شيئا .. فهي تقول كل شيء ، وهذه نقطة ضعف اساسية في المسرحية (لكن ينبغي ان تقول ان هذه سمة تكاد تكون عامة في المسرح العراقي) .
   الشيء المهم الذي اود الوقوف عنده هو هذا التحول الروحي – الاخلاقي – الفكري المفاجيء الذي يلغي موقف الملك السابق ، ليحل محله موقفا نقيضا تماما وقناعة جديدة بعبثية كل شيء . فهذا التحول غير مبرر ولا يملك اساسا ماديا يستند اليه او سببا روحيا يفسره . والاكتشافات الصغيرة التي يتصور الملك انه اكتشفها  والتي كانت تتعلق بحياته الخاصة : فالزوجة الاولى التي كانت كل شيء في حياته ” ارادت ان تصنع اسطورة بجسدها البارد ” والثانية تريد ايصال ابنها غير الشرعي الى العرش (96) – هذه الاكتشافات لا تبرر مثل هذا التحول ، خاصة اذا تذكرنا مدى القلق الذي سيطر على الملك حين اصيب الطفل بمرض عابر ” كدت تغيب عن وعيك ، عندما علمت بعرضه .. ” (75) ، وحرصه على ان يرث العرش بعده برغم علمه انه ليس ابنه ، بل وحتى انه قام باعدام والده الحقيقي : ” انه تجسيد لارادتي على مدى الاعوام .. ليس المهم ان ينزل من صلبي .. انه ولي عهد هذه المملكة ، وكفى .. يجب صيانته بأي ثمن ” (80) . ان هذه الاكتشافات تفقد كل ما يمكن ان تمارسه من تأثيرات في اعماقه حين نجد ان الملك يسمح باذلال مواطنيه امام ضيوفه الاجانب الذين حضروا حفل عيد الجلوس على العرش . فالضيوف يصافحون الملك والملكة .. ان كانوا من المواطنين (101) . ان تحولا عميقا كهذا يمكن ان يحدث لشخصية مرهفة الحساسية عميقة التفكير .. اما بالنسبة لشخص تقول له زوجته انه لم يفكر بغير العرش … ولم يقم بأي واجب غير واجبه ازاء العرش .. هذه الكتلة من (الخشب المخمل) التي تقبع في القاعة المظلمة ، وكأنها اله اخر يحكم البلد . هل فكرت يوما بواجبك تجاهي . بواجبك تجاه شعبك ؟ هل فكرت بغير عرشك ونفسك وولي عهدك يوما من الايام ؟ (79) ، ويستطيع ان يتخلي عن الزوجة التي يحبها ، ويصر على تنفيذ احكام الاعدام بقادة الثوار معلنا ” لم اتعود الرجوع عن قرار اتخذته .. لم افعل ذلك في حياتي قط ” (ص/91) ، ويسمي الشعب ” اوغاد” (76) ، ويرفض ان يترك عرش آبائه واجداده “للاوباش يدنسونه بأقدامهم القذرة ” (76) – اقول بالنسبة لشخص كهذا ، فأن تحولا مفاجئا امر بعيد الاحتمال وغير مقنع .
  ان هذا التحول الذي اختاره المؤلف ليكون خاتمة للمسرحية ، هو ليس الحل الذي كان يمكن ان يفرضه مسار احداث المسرحية . انه حل المؤلف وليس حل المسرحية ، وهو ايضا ليس الحل الواقعي الذي انتهت اليه الاحداث في هذا البلد بعد تسع سنوات تقريبا من تاريخ صدور المسرحية . انا لا افترض بالطبع ان يكون المؤلف نبيا . لكن الذي اتوقعه هو ان يقدم لنا رؤية تتميز بالقدرة على استنباط النتائج المحتملة من مسرى الاحداث والوقائع الفعلية التي بنيت عليها المسرحية التي تتناول تلك الوقائع بكل تفصيلاتها – باستثناء الخاتمة – بشكل لا يبتعد كثيرا عن التقرير الصحفي ، زد على ذلك ان المؤلف كان يمكن ان يستفيد من تجربة مصدق ، في بداية الخمسينات ، طالما كان يعالج احداثا واقعية حدثت حقا . انني لا اقصد بهذا بالطبع دعوة الى المسرح الفوتوغرافي ، وانما فقط التأكيد على ان الاختيار الطوبائي لن يفلح في يوم من الايام في تحقيق اية غاية فيما لو كان يقصد به ان يكون (موعظة) .
  هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فان هذا الوعي الزائف لا يخدم ، كما اعتقد اغراض المسرحية . فالمفروض في المسرح السياسي ، ان يحمل رسالة معينة وتوجها محددا نحو هدف محدد . والقناعة الجديدة التي يصل اليها الملك بصدد قيمة العرش الحقيقية : ” ان يفني المرء كل حياته في خدمة خشب مخمل ، فذلك هو الضياع هو العدم . ولا شيء وراء العدم ” (102) – هذه القناعة الجديدة قد احدثت ثلمة عميقة ليس فقط في بناء المسرحية وحبكتها ومسارها ، وانما ايضا وما هو اهم بتقديري في الجانب الفكري منها . فالتحول ن موقف احتقار الشعب واذلاله واعدام قادته الثوريين الى تبجيله والاحساس بالانتماء الوثيق اليه ، بل وحتى التفكير بالانتحار تحديا لارادة الله ، قد ادى الى خلخلة الاساس الفكري للمسرحية وبالتالي انحرافها عن هدفها ، الامر الذي يمكن ان يمارس تأثيرا سلبيا في ” الموقف ” الذي يراد ايضا المتلقي اليه من خلال هذه المسرحية . وكما اسلفت فالمفروض ان يحمل المسرح السياسي ، رسالة معينة ، تستهدف من بين امور اخرى التعبئة والتحريض في المسرح الثوري ، والتهدئة والتضليل في المسرح المحافظ . وهذه المسرحية بالتأكيد تنتمي الى الصنف الاول : المسرح الثوري او التقدمي ، الذي يستهدف التحريض ضد النظام الرجعي المتردي القائم بوصفه نظاما معاديا للشعب ولمصالحه . وتحويل موقف الملك بهذا الشكل لا يمكن ان يدع المسرحية تأخذ مجراها الطبيعي لتصل الى خاتمة طبيعية تؤكد استمرار الثورة او انتصارها ، دون ان ينال من كمال ذلك الانتصار ، ذلك التحول الاخلاقي في موقف الملك . واذا كان الجنرال دارا ، مدير الشرطة الخاصة قد اعلن في ختام المسرحية ، ان الملك كان شجاعا (ص/115) ، فانه لا يسعنا نحن ايضا – برغم رفضنا للرجعية بكل فصائلها ، وادانتنا للملكية – لا يسعنا الا ان نوافق على هذا الاعلان ، لو شئنا ان نكون موضوعيين ، ولا اظنني مبالغة لو قلت ان هذه نقطة في صالح الملك .
     ثمة خطأ فكري – اخلاقي فادح اخر تعاني منه الخاتمة مما يؤكد ثانية جنوحها عن هدفها . لماذا احال المؤلف ، زوجة الملك الاولى ياسمين ، التي ارتضت قبل عودتها ، ان تظهر شبه عارية في الحمام (62) ، في فيلم سينمائي ، الى (قديسة) بجعلها تصر على البقاء في القاعة التي كانت النيران تقترب منها ، وتصر على ان تحترق ؟؟ ولماذا خطط للطفل (ولي العهد) ان يحترق ؟ ان انهاء السلالة الملكية – علما ان ولي العهد ليس من هذه السلالة – وبالتالي انهاء النظام الملكي مرة والى الابد ، كان يمكن ان يتحقق بطريقة اخرى دون وضع الشعب الثائر في مأزق اخلاقي ، بتسببه بحرق امرأة وطفل بريء ، حتى وان كان ظاهريا وليا للعهد . ان هذه الخاتمة لطفل لا يفقه شئا من امور الدنيا ، ولامرأة لم يعد يربطها بالعرش شيء ، برغم انها كانت قد لعبت دورا ايجابيا فعالا بالنسبة لشؤون المملكة قبل انفصالها عن الملك ، حيث كانت القلب الملهم له في عدد من المشاريع التي كانت تقدم للبلاد كجرعة مسكنة ، كالاصلاح الزراعي الذي ادى الى اخماد اضطرابات الفلاحين ، وتشكيل حكومة ائتلافية شارك فيها زعماء المعارضة ، مما ادى الى  تهدئة الامور نسبيا في البلاد (ص/36) – اقول ان هذه الخاتمة ،  لا يمكن الا ان تثير احساسا بالشفقة وربما بالتعاطف ايضا . وهذه نقطة اخرى ليست في صالح المسرح السياسي الثوري وقد يكون من المفيد هنا ان نقارن بين موقف كالياليف ودورا في “العادلون” (*) ، لالبير كامو ، وبين اختيار عبدالملك نوري ، حرق طفل . في ” العادلون” حيث تخطط منظمة سرية لاغتيال الدوق الكبير ، يمتنع كالياليف ، في اللحظة الاخيرة وبعد شهور طوال من الاعداد السري والمراقبة والجهود المضنية ، عن القاء قنبلته على عربة الدوق ، خارجا بذلك على اوامر المنظمة ، برغم انه كان يتحرق للقيام بهذه المهمة لوضع نهاية للظلم والطغيان ومن اجل العدالة . ولم يكن امتناعه ذاك خوفا .. وانما كان لسبب آخر هو انه في اللحظة  التي هم فيها بألقاء القنبلة رأى طفلين في العربة بجانب الدوق ، فلم يشأ ان يلوث سمعة المنظمة الى الابد بتفجير القنبلة وقتل الطفلين ، وحين تناقش المنظمة الموقف الجديد نسمع (دورا) عضو المنظمة الثورية تقول : (ان المنظمة تفقد قوتها وتأثيرها لو انها اجازت ، لحظة واحدة ، فكرة ان يمزق اطفالنا بقنابلنا) . ولو ان كالياليف كان قد فجر قنبلته وقتل الطفلين ففي ذلك ” اليوم يمقت الجنس البشري بكامله ثورتنا ” (140) ، بل ان (دورا) تحدد بوضوح ان ذلك هو” العار”(141) .
   ان كامو باختياره هذا الموقف لم يخذل الثورة . وانما فعل العكس تماما ، فما من احد يستسيغ قتل الاطفال حتى لو حدث ذلك دون تصميم مسبق . اذ ان ما يتمخض عن حدث كهذا من ردود فعل ومشاعر ، يمكن ان يكون في سلبياته اكبر منه في ايجابياته بالنسبة لقضية الثورة . فالثورة ، بعد كل شيء ، تقوم اساسا من اجل اهداف وقيم ومثل انسانية . ومن اجل ان تقيم العدالة الاجتماعية ، وتنهي الظلم ، فلا يمكن ان يتم تحقيق ذلك عن طريق قتل الاطفال . هذا في ما يخص الموقف السياسي والمبدئي العام . وهو كما يبدو لي اختيار المؤلف نفسه (كامو) .
   ومن  ناحية اخرى فان هناك الجانب الاخر الذي قد لا يقل في تأثيره على توجيه مجرى الاحداث عن هذا الجانب : الا وهو الموقف الشخصي في لحظة تنفيذ الفعل الثوري . ان المرء حين يجد نفسه بمواجهة موقف كهذا ، موقف مفعهم بالرهبة والمهابة ، حين يكون عليه ان يتخذ – خلال ثوان فحسب ، بل ربما خلال ثانية واحدة او اقل منها ، قرارا يقضي به بالموت او الحياة على طفلين بريئين ، فان كل الدوافع الخارجية التي توجه حركته وسلوكه وقراراته تنحسر حتى تبلغ نقطة التلاشي , ولا يظل هناك سوى نازع واحد : النازع الانساني الصميم الذي يجعله يقرر حكم  الموت او الحياة . والقرار الذي اتخذه كالياليف في جزء من ثانية ، انما جاء نتيجة لسيادة النازع الانساني الصميم وانتصاره على اي دافع اخر . وهو لم يكن ، في الوقت نفسه اختيارا مفروضا بصورة قسرية من قبل المؤلف . انه اختيار فرضته الطبيعة الجوهرية لشخصية كالياليف وخصائصها الذاتية : فهو شاعر .. وربما من الافضل ان اقول انه شخصية مفعمة بالشعر وحب الحياة والصفاء والتفاؤل والعدل .
– لنقف لحظة عند هذا المقطع :
  ” كالياليف (وكانه مصاب بالدوار) : لم افكر ابدا ان الامر سيكون كذلك .. طفل .. كلا .. ليس اطفال ! هل رأيتم اطلاقا طفلا وشاهدتم تلك العيون الحزينة المركزة ؟ انني لا استطيع ابدا ، بشكل ما ، مواجهتها .. ان افكر انني ، قبل لحظة واحدة فقط ، كنت اشعر بسعادة عظيمة .. وانا اقف عند زاوية ذلك الشارع الجانبي الصغير .. في بقعة من الظل .. وفي اللحظة التي رأيت فيها اضواء العربة وهي تلتمع من بعيد ، بدا قلبي يخفق جدلا .. اجل جدلا .. كان يدق  اسرع فأسرع كلما اقتربت قعقعة العجلات .. كنت  اضحك .. ومضيت اقول : ” أجل .. أجل ! ” اتفهمون (ينظر بعيدا عن ستيبان ثم  يغرق في الكآبة) ركضت الى امام .. وفي تلك اللحظة رأيت الطفلين (وقفة)  لم  يكونا يضحكان .. فقط كانا يحدقان الى امام وقد جلسا باستقامة كلية .. كم كانا يبدوان حزينين .. وهما يغرقان في افضل ملابسهما وايديهما ترقد فوق افخاذهما .. كتمثالين صغيرين في نافذتي البابين من كل جانب .. انني لم ارى الدوقة الكبيرة .. فقط رأيتهما ، لو انهما تطلعا في ، اظن انني كنت سألقي القنبلة ، فقط  لأطفيء تلك النظرة الحزينة في عيونهما .. ولكنهما ظلا يحدقان الى امام . (ينظر كل واحد بالتتابع . صمت .. ثم بصوت خفيض منكسر) انني لا استطيع ان اشرح مالذي حدث لي آنذاك . لقد اضطربت يداي .. واخذت ساقاي ترتجفان .. وبعد دقيقة واحدة كان الاوان قد فات (صمت .. يتطلع في الارض) دورا ؟! اكنت أحلم .. ام انني سمعت اجراسا تدق؟!” (138) .
   واذن .. فهناك منبعان اساسيان لهذا الاختيار : موقف المؤلف نفسه اولا ، وطبيعة الشخصية المسرحية ثانيا ، وهنا نلاحظ مسألة في غاية الاهمية هي انه لا يوجد هناك تضارب بين موقف المؤلف وموقف الشخصية المعنية ، مما يستبعد المواقف القسرية والاحداث المقحمة ، ويقود الى انسجام وتوافق كليين بين المؤلف وشخوصه . بتعبير آخر ، بين رؤية المؤلف لقضية الثورة على صعيد الموقف العام ، ووعيه الكلي بالهدف الاساسي للمسرحية والذي نستطيع ان نوجزه بكلمتين ” العدالة الثورية ”  وبين الموقف الانساني الصميم او الاختيار الذاتي الذي لابد ان تتخذه شخصية تتميز بالخصائص التي اوجزتها اعلاه ، في ظرف كالظرف الذي أطر ذلك المنعطف في احداث المسرحية .
   ان هذا العميق للقيم الانسانية التي تشكل الارضية الاساسية التي يرتكز اليها العمل الثوري في (العادلون) لا يمكن  الا ان يثير استجابة راضية وتعاطفا وتأييدا كليين من جانب المتلقي . فـ (كامو) هنا لا يقدم لنا شعارات سياسية ممسرحة ، مجردة من ارتباطاتها بالدوافع الانسانية ، وانما يحاول التركيز على (المضمون الانساني) العميق الكامن في قلب الفعل الثوري ، وعلى نقاء الثورة وصفائها . ونستطيع ان نلمس اهتمامه بهذه المسألة من خلال لقطات ثانوية لا تشكل في الواقع جزءا اساسيا من بنية المسرحية ، ولكنها توحي بقوة ، بما تنطوي عليه من دلالات تؤشر نقاء الثورة وتساميها . وقد يكون من الممتع (وارجو المعذرة ان ابتعدت قليلا عن جوهر الموضوع) ان اشير الى واحدة من تلك اللقطات الثانوية المؤثرة ، التي تحمل برغم بساطتها المتناهية ، دلالة عميقة المغزى كمثال مشهد تنفيذ حكم الاعدام بكالياليف بعد ان القى القنبلة في يوم اخر ، وقتل الدوق الكبير : فحين لم تكن هناك سوى ثوان معدودات بين كالياليف وبين موته ، حين كان قرار الاعدام يتلى عليه وهو يقف امام جلاده ، لم يكن كالياليف يشعر بالخوف .. ولم ينهار .. وانما كان يشعر بفرح رومانتيكي . واذ كان يمارس الحياة بأصفى تجلياتها في تلك اللحظات النهائية ، ينفض كالياليف ساقه مرة واحدة ليتخلص من نتفة صغيرة  من الوحل علقت بحذائه .. اجل .. نتفة من الوحل ! فأي شيء يمكن ان يعبر اكثر من هذه اللقطة الصغيرة العابرة ، في تلك اللحظة القدرية ، عن صفاء الثورة ونقائها !!
   ثمة نقطة اخرى تجسد تسامي الثورة .. فـ (كامو) ، حين يتلى قرار تنفيذ حكم الاعدام في كالياليف ، لا يقدم لنا لوحة بكائية تثير المناحة او الاحساس بالاشفاق . وانما يقدم لنا صورة مشحونة بالجلال والمهابة .. صورة لا تهبط معها العيون الى حفرة القبر ، وانما ترتقي الى السماء : ” ارتقى الدرجات وابتلعه الظلام ” (177) . الا توحي هذه الصورة ، بصلب المسيح (عليه السلام) ؟
   ان هذا النازع الانساني الصميم ، او موقف الشخصية المسرحية ، الذي يمكن ان يحدث انعطافا في مجرى الاحداث المسرحية نستطيع ان تلمسه ايضا في القرار الذي اتخذه (بروتس) لانهاء ظلم القيصر ، بقيامه بالمساهمة في الاجهاز على يوليوس قيصر برغم حبه له .
   ان هذه المقارنات تقودنا الى نقطة جوهرية واحدة : تلكم هي الحلول والمواقف المطروحة في ايما عمل مسرحي ينبغي ، بالضرورة ، الا تكون حلول ومواقف المؤلف . وانما الحلول والمواقف التي يفرضها منطق الاشياء المستمد من المواصفات النوعية ، التي تحدد العمل المسرحي ككل ، سواء كان ذلك في ما يخص اجواء المسرحية والاطار الاجتماعي العام الذي تتحرك فيه ، او مواصفات الشخصيات وخلفياتها الاجتماعية والفكرية والثقافية .
  واذا كنا نجد مثل هذه الثغرات السلبية في البناء الفكري والسياسي لمسرحية ” خشب ومخمل ” فاننا نجد في بعض مسرحيات (جليل القيسي) تفهما اكثر واقعية لمواقف الرموز المتصارعة في مسرح القيسي ، ومواقفها الفكرية التي تحدد مسلكية تلك الرموز وتفرض المسار الذي ينبغي ان نأخذه الاحداث ، لا طبقا لما يريده الكاتب ، وانما للمنحى العام الذي تحدده تلك المواقف . في ” هي حرب طروادة أخرى – 1967م ” (*) التي كتبت ، كما يشير المؤلف ، اثر الانقلاب العسكري في اليونان ، نجد ذلك الاستقطاب الطبيعي الذي تأخذه القوى المتناقضة المتصارعة على حلبة الاحداث . فهناك القوى الرجعية اليونانية يتزعمها العسكر : (العقداء السود) ، يدعمهم جنود يونانيون وامريكيون والمان نازيون .. فيما نجد في القطب الاخر كل قوى التحرر والتقدم ليس في اليونان حسب ، وانما على نطاق العالم .. فعالمنا لم يعد ذلك العالم المتباعد الاجزاء الذي كان قبل قرون .. وانما اصبح وحدة جيوبوليتيكية  (جغرافية – سياسية) ، واحدة ، تتحرك على مسرحها جميع القوى المتصارعة في العالم ،  بعد ان سقطت المسافات من الحساب .. في هذا القطب نجد السجناء والسجينات اليونانيين وغيفارا  وفيتنام والفنان الاسباني غوبا ممثلا بلوحته الشهيرة الحرب الاهلية .. ونجد ايضا الموسيقي اليوناني الشهير ثيودوراكيس ..
   لقد استطاع (جليل القيسي) في هذه المسرحية ان يكشف لنا بمقدرة فنية متميزة ، ليس فقط البعد السياسي الاساسي الذي يكتنف الانقلاب العسكري ، وانما ايضا الابعاد الاخرى التي ينطوي عليها الانقلاب ، والتي ترتبط وتتغلغل في صميم حياة الشعب اليوناني : الابعاد الحياتية ، الثقافية ، الحضارية ، والاجتماعية .. فالسجناء يضمون رساما وراقصي باليه وشخصية تعني بالتاريخ وشاعرة .. بل وحتى اطفالا سجنوا مع امهاتهم . واذا تذكرنا ماذا تعني هذه الرموز في حياة امة من الامم ، لادركنا بالنتيجة ماذا يعني الانقلاب العسكري  اضافة الى  مغزاه السياسي . انه ببساطة لا يعني غير محاولة اغتيال حضارة الامة وثقافتها وخنق تاريخها الذي كان والذي سيكون .. فسجن الادباء والنساء والاطفال ، الذين هم ضمير الامة وحاضرها ومستقبلها يعني ببساطة خنق الامة نفسها ووقف عملية الخلق والتطور … بكلمة اخرى وقف الزمن !
   صانعوا الحضارة والمستقبل هم الذين نراهم في الزنزانات حيث تجري احداث المسرحية .. فما الذي بقي خارج السجن ؟ لم تبق غير صورة مأتم الحضارة اليونانية العريقة . لقد استطاع الكاتب ، باستخدامه شاشة تلفزيونية ان يقدم لنا مقطعا عرضيا يمكننا من رؤية ما يجري داخل السجن وخارجه في آن واحد .. فبينما كان الرصاص يمزق صدور حملة وممثلي الثقافة اليونانية ، نرى صباغي الاحذية والشحاذين يهرولون وراء السواح الامريكيين في الاكروبولس .. وتقف فلاحات يونانيات في انتظار من يشتري حاجياتهن الخشبية .. ويعزف راعي على نايه  .. ثم لقطة لقائد الانقلاب مكشرا عن اسنانه وملوحا بقبضة يده كما كان يفعل سيء الذكر .. الفوهرر .
    ومن  اليونان ينتقل بنا جليل القيسي في مسرحية ” في انتظار الابناء الذين لن يعودوا ابدا ” (1964م) الى امريكا . في قاعة انتظار احد المطارات ينتظر زوجان كهلان ابنهما الذي اسر في فيتنام . سبع سنوات وهما ينتظران عودته .. والطائرة القادمة تحمل (الشحنة) الاخيرة من الأسرى .. واذن .. فها هي قادمة نهاية  الانتظار ونهاية الامل ايضا ، فهو اما سيعود وتبدأ الحياة معه  من جديد .. او لا يعود ابدا فيبدأ الحزن والدموع … ويختار القدر البدل الثاني . فالابن مات منذ سنين في خي سانة ، وكان الاب يعلم ذلك ، ومنذ سنين كان يكذب ، وتهبط المجموعة الاخيرة من الاسرى ، بقايا انسانية محطمة ، لقد عادوا وهم يحملون الموت في اعماقهم برغم الاوسمة التي تزين صدورهم ، ومع الموت الذي استوطن اعماق من بقي حيا يأتي زمن الصدق ، ان الابن اذن .. قد مات ، ولا تجد الام الثكلى عندها شيئا غير الدموع .
   في هذه المسرحية ، برغم جدية ومأساوية الموضوع الذي تتناوله ، لم يستطع الكاتب ان يحقق النجاح الذي حققه في مسرحية (هي حرب طروادة اخرى) . فمنذ البداية ، بل منذ العنوان تماما ، بدا ان المسرحية ستسير في طريق ملآى بالشرك ، والشرك الذي اختارت ان تتحداه (؟)  ليس سهلا … انه شرك صاموئيل بيكيت ، واذن .. فالنزال لن يكون يسيرا ، ولن يكون بمقدور المسرحية ان تتلخص مما استطيع ان اصفه بمطبات سلبية . ولعل اخطر هذه المطبات ، ذاك الذي يفضح نفسه في عنوان المسرحية نفسها .. فانت لا يمكن ان تقرأ ” في انتظار الابناء الذين لن يعودوا ” دون ان يستثير هذا العنوان في ذهنك ” في انتظار غودو ” !
    المطب الثاني ، هو ان المسرحية لم تستطع ان تتفادى تأثيرات مسرحية بيكيت وبالتالي لم تستطع ان تتجنب السقوط في شرط المحاكاة والتقليد ، مما حرم المسرحية من أية خصوصية وأصالة .
   وعبثا يحاول من قرأ النص الانكليزي لمسرحية بيكيت ان يتفادى سماع اصداء متقطعة من حوارية غوغو – ديدي تتقافز هنا وهناك في مسرحية القيسي ، وحتى ان ايقاع هذه الحوارية يتسلل احيانا الى حوارية هيلينا وروبرت ، بل وحتى اننا نجد لعملية تحطيم اللغة التي قام بها بيكيت في ما تتفوه به شخصية ” لاكي” وما يبدو وكأنه هذيان مهووس ، اصداء في ما يردده صوت فتاة (2) على صفحة (41) ، برغم تباين الاغراض الكامنة وراء هذه العملية ، وبرغم الاختلاف الظاهر في الطريقة التي تم بها تحقيق هذه العملية في المسرحيتين . فبينما يتجه بيكيت الى تحطيم فعلي للغة عبر تحطيم بنية المفردة ذاتها حتى بها تبدر وكأنها وعاء زجاجي مهشم ما يكاد كسر منه يشي بمعنى معين حتى بهذا المعنى يتحطم قبل ان يكتمل ، مما يقود بالتالي الى ضياع المعنى والترابط المنطقي والعقلي والتسلسل اللغوي بين المفردات وكذلك فقدان التوازن اللغوي – بينما يفعل هذا بقدرة فنية عالية ، نرى القيسي يلجأ الى خلخلة الترابط  والتوازن اللغوي عن طريق خلخلة بنية العبارة الواحدة ، وان احتفظ ببنية المفردة كما هي مع ما تحمله من معان وايحاءات ، مستعينا لبلوغ غايته بالمعالجة التكنيكية التي يقترح استخدامها في اخراج هذا المقطع حيث ” الصوت راعش .. تختلط الاصوات ببعضها .. ويمكن اخراج هذه الاصوات من مكبر للصوت تارة بشكل قوي ، واخراج بخفوت مع صدى ” مع موسيقى قوية وسريعة .. الخ (ص 41) .
    ومع ان بيكيت يهدف من وراء تحطيم اللغة اظهار انعدام التواصل الانساني عبر اللغة كوسيلة – وهذه موضوعة اساسية في رؤية بيكيت الفلسفية للعالم – فان الذي يبدو لي ان القيسي يحاول عبر خلخلة اللغة وتشويشها عن طريق التدخل التكنيكي ، تقديم صورة انطباعية (تنقيطية) تعبر عن فقدان الترابط الذهني والتوازن النفسي لدى الامريكيين الذين ينتظرون عودة الاسرى ، وتعبر كذلك عن المأساة التي جرتها الحرب الفيتنامية على الشعب الامريكي .
   ثمة مطب اخر لا يدخل في الواقع في المسرحية نفسها كنص ، وانما ينعكس في المعالجة المسرحية . ونستطيع ان نطرح هذا المطب في السؤال التالي : هل يستطيع كاتب ان يعبر عن احاسيس ومشاعر وتصرفات نماذج تنتمي لمجتمع يتباين حضاريا وثقافيا ومجتمع الكاتب ؟ هل تكون العملية الادبية عملية ابداعية يقف ورائها صدق التجربة والمعاناة ام انها يمكن ان تكون اقرب الى عملية ميكانيكية ذات هدف محدد : التعبير عن فكرة او قضية معينة ؟ انا لا اريد ان اغلق الحدود . وانما الذي يعنيني هنا مسألة نجاح المسرحية حسب . ففي حالة وجود تقارب حضاري – ثقافي ، وفي حالة وجود ظروف متماثلة ضمن هذا التحديد . فانني لا اظن ان هناك ما يشكل حواجز صعبة الاجتياز . وليس نادرا ان نجد كتابا يتناولون قضايا تتعلق ببلدان اخرى معبرين بنجاح  عما يخالج الشخوص الذين يعيشون تلك القضايا . ومسرحية هي طروادة يمكن ان تقدم مثالا حسنا كما اظن , فالتقارب الحضاري – الثقافي والتماثل الظرفي بين احداث وزمن المسرحية والظروف التي سبق ان عاشها الوطن العربي ، يمكن ان تسهم في تجنيب هذا العمل المسرحي ، عديدا من الثغرات المحتملة . غير ان مسرحية ” في انتظار الابناء الذين لن يعودوا ابدا ” تقف خارج اطار التماثل ، او التقارب الحضاري ، مما يجعل امكانية استجلاء اعماق شخوص المسرحية او بعض شخوصها ، مسألة غير يسيرة . وينطبق هذا على وجه الخصوص على شخصية هيلينا ، الامريكية العجوز التي تنتظر ابنها الاسير .
   هل استطاع جليل القيسي ان يجسد هذه الشخصية بصدق ويعبر عن احاسيسها الباطنية بشكل ناجح ؟ اخشى ان يكون السرد نفيا .
   ان انتظار سبع سنين لابن ذهب الى الحرب ليس مزحة ، وهو لا يمكن ان يجر بمعيته غير القلق والخوف والترقب الوجل ، بل ان تلك الصلة بين ام وابن ذهب الى الحرب تزداد شدة وتكتفا . وكلما طال الانتظار ، كلما ازدادت سحب القلق قتامة . لكن هيلينا ، كما تصور هنا في هذه المسرحية ، تنتظر عودة ابنها سبع سنين .. وفي السنة السابعة تواصل الانتظار ، ومع ذلك فانها تحس بفرح .. برغم ما كتبه ابنها عن رعب الموت اختناقا في المستنقعات الطينية وتحت ستار كثيف من الرصاص ! ففي ستة مواقع يصف الكاتب  حالتها النفسية بانها ” فرحة ” واحيانا بشدة .. والمرأة العجوز الاخرى التي تنتظر حفيدها والتي  ماتت ابنتها بسبب اصابتها بالسرطان ، ايضا كانت فرحة .. بل ان هيلينا تقول لنا في موضع اخر ان ” كل واحد هنا سعيد ، يضحك ويفرح الان ” (ص 51) مع ان الجميع كانوا ينتظرون ابنائهم الذين ذهبوا الى فيتنام وليس لقضاء شعر العسل !! هنا يكمن ، كما اظن شرك التباين الحضاري – الثقافي . فالذي يبدو ان هذه الحقيقة ، قد اتاحت المجال لتصور خاطيء عن الاحساسيس والمشاعر الباطنية  ، وما يترتب عليها من ردود فعل، والتي يمكن ان تعاني منها نماذج تنتمي لذلك الاطار الثقافي – الحضاري . ان كون النماذج الممسرحة تنتمي الى مثل هذا الاطار ، واختلاف التكوين النفسي والذهني لتلك النماذج ، لا يعني ان مشاعر الامومة قد تحولت الى احجار صلدة .. هذه حقيقة انسانية عامة ، بصرف النظر عن الانتماءات القومية والثقافية . والقلق الذي يمزق قلب ام فيتنامية ، هو نفس القلق الذي يمزق ام امريكية ، والاختلاف الوحيد هو مظاهر التعبير عن تلك المشاعر . ولعلل هذه الحقيقة كانت واحدة من الحقائق التي ارغمت الادارة الامريكية على انهاء الحرب الفيتنامية .
   هذه مسألة . ومسألة اخرى لابد ان نقف عندها قبل ان يكون بمقدورنا ان نصدر حكمنا بنجاح المسرحية او فشلها ، تلك هي تحديد موقف المؤلف من الشخصيات المسرحية على ضوء مواقف هذه الشخصيات من هذه او تلك من القضايا السياسية التي يثيرها المسرح السياسي  . ان هذه مسألة  في غاية الاهمية كما اعتقد ، من حيث ان هذا التحديد ، يستطيع ان يكشف لنا مدى وضوح رؤية المؤلف للقضية التي يبحثها اولا ، وللقوى المتفاعلة والمتصارعة ضمن اطار هذه القضية  ثانيا ، وثالثا . وبالتالي مدى نجاح المؤلف في عرض الرسالة التي تحملها مسرحيته . واخيرا وما لا يقل اهمية عن هذا ، تحقيق الهدف النهائي لهذه الرسالة والذي يتمثل في الحث على قبول او رفض القضية المطروحة ، فما مدى انطباق هذه المسألة على موقف المؤلف من شخصيات مسرحيته ؟
   من مجمل ما يرد على السنة الشخوص ، ومن المناخ السائد الذي يخيم على جو المطار ، نستطيع ان نتوصل الى ان جمهور المنتظرين ليس من مؤيدي الحرب . اذ تهبط طائرة وهي تحمل ” شحنة ” من الجرحى : جندي مبتور الذراع .. اخر مقطوع الساق .. شاب معصوب الرأس .. جثة فوق نقالة .. جرحى آخرون يسيرون بخطوات مشلولة .. جندي معصوب العين يهذي ..  فتاة تنحب : فلورنس ليس بين العائدين (41) . ولا نحتاج الى كبير جهد كي نتوصل الى ان الجمع لا يتعاطف مع الحرب .. وينعكس هذا بقوة في موقف روبرت ، زوج هيلينا ، وهو شخصية رئيسية في المسرحية . وليس ثمة ضرورة لحفر اعماقه  كي نتوصل الى حقيقة مشاعره وموقفه من مشعلي نار الحرب .. انها تطفح على لسانه وتتدفق كالسيل .. ” رأيناهم حتى التخمة في التلفزيون ، كلاب من سبع سنوات يستجدون عطفنا وتأييدنا بهذه البهلوانيات المضحكة ” (ص 39) ، ثم : ” دفعنا بخيرة شبابنا الى فيتنام … (بغضب) ما معنى  استعراض هؤلاء البؤساء ، والمشبوهين في الساحة بعد ان خسرنا كل شيء ” (ص 40) .
   ثم صوت فتاة تسكب حزنها بصوت راعش .. وهي تتحدث عن الموت في خي سانة .. وقصف الطائرات … الخ .
   واذن .. الا يبدو ان ثمة خطأ يكمن في وصف الشخصية الثانية في المسرحية – هيلينا – بانها كانت فرحة ؟ مما يبين ان الكاتب قد اخفق في استجلاء الوضع السايكولوجي الحقيقي  ومشاعر ام تنتظر  ابنها ذهب منذ سبع سنين للحرب ؟ ثم .. لماذا ينبغي ان يضاعف الكاتب  هذا الخطأ بايراد العبارة التالية  على لسان الام : ” لم لم يكتب لنا هذا الكلب ؟ ” (ص 43) وعموما .. لم حاول المؤلف ان يرسم صورة تافهة لهذه الام العجوز التي تقف في الجانب غير التعاطف مع الحرب ؟ لقد كان حريا به به ان يصور ، من خلال هذه الشخصية ، اما ملتاعة مزقها انتظار  سبع سنوات ، لامرأة مهزوزة حمقاء .. تفكر بأوسمة ابنها اكثر مما تفكر بالابن وهل سيعود ام لا يعود .. وتتحدث بفرح ! ان الصورة المقترحة تبدو اكثر اقناعا وصدقا من الصورة المقدمة فعلا ، خاصة وان الكاتب يخبرنا بأن هيلينا ما تزال قروية في عواطفها ، برغم انها عاشت في المدينة ثلاثين سنة . اي انها قضت الثلاثين سنة الاولى من عمرها في الريف ،  مما يصعب على هيلينا الحضرية ، ان تمحي هيلينا القروية . هذا الى جانب ان الصورة المقترحة للام .. الام التي يسكن قلبها القلق والخوف ، تستطيع ان تقوم بشكل افضل بجانب من مهمة ايصال رسالة المسرحية الى المتلقي ، وذلك عبر تعبئة عواطف المشاهدين الى جانبها وضد مشعلي نيران الحروب .
   ان من الصعب ان نجد مبررا لرغبة الكاتب في ان يقدم مثل هذه الصورة الهزيلة في مثل هذا الموقف الانساني الصميم المليء بالحزن والاسى ، في حين كان يتعين  عليه ان يمنح هذه الشخصية بعدها الحقيقي  ويغوص في اعماقها لالتقاط تلك المشاعر الرقيقة التي تدفن اعتياديا تحت ثقل وضجيج التفاهات اليومية وتحت سطح العلاقات المشوهة  التي تطبع المجتمع الامريكي ، خاصة وان الوجبة القادمة من الاسرى هي الوجبة الاخيرة .. بمعنى : انها النهاية .. فهو اما سياتي او لن  يأتي ابدا .. حقا ان الام قد بكت اخيرا .. غير ان دموعها تلك لم تستطع ان تمحي ذلك التضاد الحاد بين تفاهة المشاعر ومأساوية انتظار الموتى !
   في ” ايها المشاهد جد عنوانا لهذه المسرحية ” (1975م) يقدم جليل القيسي في عشرة لوحات متتابعة محاكمة وادانة للقيادة السياسية العليا في مصر ، التي قررت وقف اطلاق النار في حرب تشرين 1973م . انه في الواقع لا يقوم بمحاكمة  هذه القيادة مباشرة .. فهو  يقدمها لنا وهي في غمرة انتشائها مما حاولت ان تصوره نصرا وما هو بنصر . وانما الذي يحاكم ، من قبل القيادة نفسها ، هو واحد من ابناء الجيش البررة .. العقيد احمد محمود ، الذي رفض الانصياع لامر وقف اطلاق النار . فهو ما كان قادرا ان يفعل ذلك ابدا .. لقد كان عند صدور الامر بوقف القتال ،  يطوق كتيبة دبابات كاملة .. على مشارف موقع ستراتيجي … ثم انه تعرض لهجوم معاكس وما كان بوسعه الا ان يرد ذلك الهجوم .. فالعدو ” لم يتوقف ابدا .. ظل يتقدم ، ويراوغ . كان بجنون يحاول ان يكسب اشبارا من الأرض ” (ص 14) فكيف  يستطيع ان يوقف القتال في ظرف كهذا ؟ وهو لو فعل ، فانه سيوصم بالخيانة الى الابد .. لانه سيمكن العدو من الاستيلاء على مزيد من أرض الوطن .. ولو انه كان قد امر جنوده وضباطه بالتوقف عن القتال .. لادانة هؤلاء فورا ووجهوا نيرانهم الى صدره (ص 15) .. اجل .. كان كل شيء ممكنا الا وقف اطلاق النار ، (ص 15) واذن .. فانها ادانة صريحة للقيادة العليا ..
   وتتأكد ادانة القيادة العليا مرة ثانية من خلال رفض الجنود الشهداء الاوسمة التي قررت القيادة منحها لهم … لكن الجنود الشهداء لم يكونوا الوحيدين الذين ادانوا القيادة العليا .. ان مصر كلها تشاركهم في الادانة  ، مجسدة بصوت الحضارة  المصرية العريقة .. الذي يعلن : ان ” الجنود يرفضون استلام اي  شيء ” (ص 21) . ويعلن ايضا ان مصر بكل امتدادها التاريخي رفضت التساوم على ارض الوطن او التفريط بشبر من ارض الوطن ” كنا نحب السلام ، لكن عندما كان الاعداء يأخذون ارضنا او يفرضون علينا الحرب ، كنا نقاتل ” (22) ، ومصر لم تقاتل من اجل  مصر حسب وانما قاتلت ايضا من اجل تحرير بيت المقدس بقيادة القائد شيشنق (ص 24) .
   انها اذن .. ليست محاكمة يعقدها الجيل  الحاضر فقط .. وانما هي ايضا محاكمة التاريخ والحضارة للقيادة العليا .
   ومرة اخرى يدين الكاتب القيادة العليا من خلال محاكمة لانجري في مصر هذه  المرة ، وانما في محكمة عسكرية اسرائيلية ، لطيار اسرائيلي ، جوزيف شمعون ، لانه لم يستطع تنفيذ المهمة التي انيطت به لقصف مواقع العدو .. ويدان الطيار ويحكم عليه بالموت لانه لم يصب نيران قذائفه على العرب .
   ان ادانة القيادة العليا المتجسدة عبر هذين الموقفين النقيضين للسلطة العسكرية المصرية والاسرائيلية ،  وفي رفض الجنود الشهداء للاوسمة ، تبلغ في الواقع ، اقصى ذروة دراماتيكية في مقدمة هذا العمل المسرحي ، حيث يقدم الراوي صدمة كافكوية عنيفة ، برغم الصمت المقبري الذي يكتنف جو المقدمة . فالراوي يخبرنا ان اللواء عبدالمنعم  رياض اعتاد ان ينهض من قبره كل شهر .. ويذهب الى الشوارع .. ويتأمل وجوه الناس . وفي المرة الاخيرة .. يذهب ” الى المكان الاثير جدا على قلبه .. الى القناة ” ويفاجأ شبح عبدالمنعم رياض  حين يرى جسورا على القناة .. وتزمجر المجنزرات .. وينطلق الرصاص .. وتئز الطائرات .. انه العبور اذن .. ويعود ليرقد في قبره بعد ان يعلن حجز المقبرة  لمزيد من الشهداء . لكن القيادة العليا لم تصن حرمة الشهداء .. فالصمت عاد ليخيم على القناة .. والمدافع سكتت ونيران حرب تحرير ارض سيناء المقدسة انطفأت حين امتدت السنة لهبها لتدك اعتى حصن بناء العدو في ارض الوطن .. عندها بكى عبدالمنعم رياض بصمت .. وعاد الى المقبرة ، وكتب على ورقة اخرى : ” هل كنتم في جوع الى نكسة اخرى ” (ص 8) هكذا … تمزق الخيانة حتى قلوب الموتى .
   ان جليل القيسي اكد في هذا العمل قدرة متميزة على تحقيق حبكة مسرحية تتلاحم عناصرها الدراماتيكية تلاحما طبيعيا بغيرما افتعال او تعسف . فبرغم ان هناك  ما يقارب  عشر لوحات تتحرك على مدى زمني يمتد من الزمن الحاضر حتى عصر الفراعنة ، الا ان عناصر هذا العمل جاءت متناسقة ومنسجمة ،  برغم انه تظل هناك امنية لو ان الكاتب استغل الشحنة الدراماتيكية العالية التي تطلقها المقدمة ليتيح لشخصية عبدالمنعم رياض حضورا اكبر  وفاعلية اشد عمقا من ذاك الذي اخمدته بقسوة عبارة : ” هل كنتم في جوع  الى نكسة اخرى ” !
   ثمة سؤال يطرح نفسه هنا ، بخصوص هذا العمل وكذلك بخصوص مسرحيات اخرى للكاتب نفسه . ففي اكثر من عمل مسرحي ، ومنها هذا يدخل الكاتب عنصر الشعر . وبالطبع فان مثل هذه الخطوة يمكن ان تغني العمل المسرحي وتعمق ابعاده او تمنحه ابعادا جديدة ، وذلك اذا ما استطاع الكاتب ان ينفذ هذه الخطوة بنجاح ، اعني .. اذا ما كان الشعر المختار منسجما مع المسرحية المعنية ، ليس فقط من ناحية المضمون والافكار والمواقف التي يطرحها ،وانما ايضا من ناحية الترابط العاطفي المفترض بين الشخصية او الشخصيات التي يرد الشعر على لسانها ، وبين الشعر نفسه وقائله . فالمرء حين  يفجر ما يختلج في اعماقه من احاسيس ومشاعر مستعينا بأبيات شعرية لشاعر او اخر ، وخاصة في المواقف المأساوية  المتأزمة ، فانه يختار من  الشعر عادة ، وبصورة تلقائية ، ما يشده بتلك الابيات انشدادا روحيا . وغالبا ما تقوم تلك العلاقة بين الفرد وبين الشعراء الذين ينتمون الى نفس الاساس او الاطار الحضاري – الثقافي ، الذي تشكل اللغة عنصرا اساسيا من عناصره  ومقوماته . ولعل كلمة ” اختيار” لا تعبر بشكل دقيق تماما عما يحصل في تلك اللحظات المشحونة ، اذ ان المرء يجد نفسه في الواقع امام فيض من الشعر يتدفق تلقائيا مما يختزنه في ذاكرته ، ويتجاوب ، بصورة عفوية ، مع احاسيسه ازمته ومشاعره ، وليس  تعبير المشاعر . وتكاد عملية التدفق الشعري هذه ان تكون عملية والانشداد الوجداني . فالانكليزي يتفوه عادة بشعر انكليزي ، والالماني بشعر الماني والروسي بشعر روسي .. مثلا هذه مسألة طبيعية جدا وبديهية ايضا . وليس من المعتاد ان ” يختار ” المرء شعرا مترجما الى لغته كي يعبر عن ازمة روحية . وربما كان من هذا الموقع – موقع التواصل الروحي والنفسي والثقافي بين من يتوسل بالشعر للتنفيس عن ازمته الذاتية وبين الشاعر ، ان اختار روبرت ، في ” في انتظار الابناء الذين لن يعودوا ابدا ” ، ابياتا شعرية لشاعر امريكي هو (لورنس فيرلنكيتي) . وقد كان هذا الاختيار ناجحا ، تماما . فليس موضوع القصيدة وحده يلتقي وموضوعة المسرحية ، وانما الشاعر نفسه ايضا من حيث انه امريكي يكتب بلغة روبرت ، ويمكن ان يعبر شعره بصدق عن مشاعر الاسى التي تثيرها الحرب .
  لكن الشيء الذي يلفت النظر في ” ايها المشاهد جد عنوانا لهذه المسرحية ” ، ان الصعايدة يتغنون بقصيدة للشاعر ايميه سيزار على ايقاع موسيقي افريقيا ! والسؤال : ايمكن ان يكون هذا طبيعيا ؟ اليس اكثر طبيعية لو ان الصعايدة انشدوا شعرا للشيخ امام مثلا .. والموسيقى ، اما كان يكون اكثر  انسجاما لو انها كانت موسيقى مصرية مثلا ، او لحنا من التراث الشعبي الموسيقي ؟ ارجو الا يفسر تساؤلي هذا من موقع شوفيني ، فانا ابعد الناس عن الشوفينية . لكن الشيء الذي يكون طبيعيا اكثر وغير مفتعل او مقحم قسرا ، لابد ان يكون قائما على ذلك الخيط العاطفي الخفي الذي يشدنا بالشعر العربي اكثر مما يشدنا بأي شعر اخر ، حتى لو كانت اللغة التي يكتب بها ، لغة  اختصاصنا وموضع دراستنا ، وحتى لو قضينا سنوات طويلة من حياتنا في وسط تسوده تلك اللغة . ففي  موسيقى الشعر العربي .. في ايقاعاته واوزانه ، يكون ثمة امتداد لتلك الموسيقى الباطنية الصامتة .. ولذلك الايقاع الذي نحس  به دون ان نسمعه ، والذي يجوب اعماقنا الخفية .
   هذه النقطة تنطبق ايضا على مسرحية جميلة حقا لجليل القيسي ، وهي زفير الصحراء . ان انسانا يسير نحو الموت مع رفيقين له في صحراء ملتهبة تسوح بها العواصف الهوجاء .. حيث الشمس المحرقة وحبات الرمل تنغرز كابر في اللحم ، دون ان يكون ثمة امل  لهم بالانقاذ ، لا يمكن بحال من الاحوال ان يتلو في مثل هذا الظرف المأساوي الفاجع ، شعرا مترجما عن شاعر انكليزي كما يفعل سعيد الذي يتلو مرة اخرى ابياتا مترجمة عن الانكليزية ، ومرة عن الفرنسية .
   ولعل اسوء نموذج يمكن ان نقدمه عن المردود السلبي عن اقحام شعر اجنبي في مسرح يتناول لحظات فاجعة في حياة انسان ينحدر نحو الموت في صحراء ، ما يطلق عليه جليل ” ابيات من قصيدة لشاعر فرنسي ” . فهذه ” الابيات” ، لا تزيد في الواقع في ترجمتها العربية عن جملة نثرية اعتيادية تماما في تركيبها وفي  معناها ، وهي ابعد ما تكون عن الشعر :
” في معركة الحياة الفسيحة ، الحياة لا تكن كالماشية العجماء المسوقة بل كن بطلا في القتال ” .. (ص 81) .
   انني اشك في ان بالامكان وصف هذه الكلمات بانها ” شعر من النوع الذي يملأ الانسان بالقوة ” (ص 81) وهو مايريد عماد الاستماع اليه مدفوعا بأمل يائس ، لعل ذلك الشعر يمنحه تزمجر بها العواصف السامة ..
   انني اعتقد ان هذا الميل نحو تضمين المسرح العربي شعرا غريبا في تشبيهاته واستعاراته وايقاعاته وموسيقاه عن روح الشعر العربي ، في مناخ عربي صرف ، يشكل نقطة ضعف لا تقل في تأثيراتها السلبية على هذا المسرح عن نقطة ضعف جوهرية اخرى ، هي محاكاة المسرح الاجنبي وعدم محاولة التخلص من تأثيرات هذا المسرح  ، من اجل خلق مسرح محلي او عربي ذي شخصية وملامح متميزة .
   من القضايا المهمة التي تطرح نفسها على بساط البحث ونحن نتحدث في المسرح العراقي ، علاقة الكاتب بمسرحه . اهي علاقة بيجماليونية ؟ بما تنطوي عليه هذه العلاقة من سيطرة متبادلة تبدأ باديء ذي بدء ، بالكاتب ، خالق العمل المسرحي ، وحقه في التخطيط لعمله كما يراه صائبا ، لتنتهي اخيرا بسيطرة العمل المسرحي نفسه على الكاتب نتيجة لاقتناع الاخير بأن ما يخطط له هو الصواب وحده . قد  يبدو للبعض ان هذا هو ما ينبغي ان يكون عليه الامر . ولا اعتراض بالطبع على هذا . فحرية الكاتب في التعبير ليست موضع نقاش ، لكن الامر الذي يستدعي  الاهتمام هنا هو مدى التزام الكاتب بالظروف النوعية التي تكتنف العمل الدرامي الذي يقدمه ،  بكل ما ينطوي عليه ذلك من عناصر يأتي في مقدمتها الشخصيات ومواقعها الاجتماعية والسياسية  والفكرية .. الخ . والاحداث ، وفي العديد من المسرحيات تلاحظ ان الذي يفكر ويتحدث ويتحرك ، ليس الشخصية الممسرحة ، وانما المؤلف نفسه ، الذي يتخذ من الشخصيات ادوات تنطق باسمه وتعبر عن  آرائه هو ، وليس مجمل وضعها الاجتماعي – النفسي والفكري . انها ببساطة تخدم كقنوات يمرر عبرها الكاتب رغباته وتمنياته . وهذه السمة تشكل نقيضة كبيرة في المسرح العراقي .
  هنا ثمة ملاحظة يبدو ان من  المهم التذكير بها .. تلك هي انه ليس من المفروض في العمل المسرحي ان يقدم دوما نصرا جاهزا لوجهة نظر الكاتب او موقفه . وانما المطلوب  هو ان ينجح العمل في طرح القضية المعينة بشكل يجعله قادرا على حمل المشاهد على اتخاذ موقف من  تلك القضية . وحتى اذا ما فرضت الظروف النوعية التي تكتنف العمل المسرحي ، انتصار الرأي المناقض لرأي الكاتب نفسه ، فان هذا لا يعني اطلاقا ، هزيمة لرأيه ولقضيته ، كما انه لا يعني افتقار الكاتب الى القدرة على السيطرة على مسرحه ، بقدر ما يعني فهمه وادراكه لمسار الاحداث والمواقف والمنعطفات التي تتخذها تلك الاحداث والمواقف والمنعطفات التي تتخذها تلك الاحداث بالضرورة نتيجة للظروف الحسية التي تفرز في ظلها القضية مدار البحث . والتزام  الكاتب بمثل هذه الضرورات لا يعني تأييده لها ، كما لا يعني ابدا انتصارا للرأي المناقض وتخليا عن الموقف الذي يسعى الى حمل الجمهور على تبنيه. انه يعني العكس تماما ، وذلك من خلال حمل الجمهور على تبني الموقف المراد عبر توعيته بالجانب المأساوي النقيض . وهذا ما نلمسه مثلا في التراجيديات اليونانية والشكسبيرية .
   انني بالطبع لا ادعو بهذا الى تبني المسرح العراقي النمط التراجيدي الاغريقي او الشكسبيري .. فواقعنا الان هو غير الواقع  اليوناني وهو غير الواقع الاليزابيثي . وانما سقت هذه الملاحظات من منطلق تنظيري بحت وانا اتحدث عن العلاقة البجماليونية التي تتكشف لنا بشكل  صارخ في مسرحية ” السر ” (1968م) عبدالحميد زنكنة ، والتي التقينا بآثار منها في مسرحيتي ” خشب ومخمل ” و” في انتظار الابناء الذين  لن يعودوا ابدا ” ، اللتين سبق الحديث عنهما . وسأقف الان عن ” السر ” .
   بالرغم من ان الفكرة الاساسية التي تتناولها المسرحية فكرة جيدة ومحتملة الوقوع في صفوف المقاومة الفلسطينية ، حيث تعكس المعاناة التي يعانيها فدائيان شقيقان يسقطان بيد العدو ، فينهار احد الشقيقين مما يدفع بالآخر الى القضاء عليه ليحول دون افشائه سر القنبلة التي زرعاها لتفجير مستودع العدو لايقاف هجوم اسرائيلي وشيك – اقول برغم هذا ، فاننا نلاحظ حركة يد المؤلف وهي تقولب شخصية (حاييم) الضابط الاسرائيلي طبقا لما تريد .. وبالنتيجة نجد شخصية مترهلة ثرثارة تبوح بأخص خصوصياتها امام الفدائي  العربي المعتقل ، حتى ما يتعلق به وبزوجته . ومع ان المؤلف يبرر ذلك بكونه جزء من مخطط تكتيتي يهدف الى دفع السجين العربي الى الاعتراف ، الا ان ذلك كان ينبغي ان يتم بحدود معقولة وضيقة جدا ، تخدم الهدف التكتيكي حسب ، لا ان تتحول المسألة الى ” عرض حال ” ، الهدف من ورائه رسم شخصية هزيلة مهزوزة يكتمل هزالها من خلال الحوارات الذاتية الطويلة المملة التي يلقيها حاييم وهو وحيد ! هذا برغم ان الذي نعرفه عن الممارسات الاسرائيلية في حالات كهذه : انتزاع اعترافات من الفدائيين والسجناء العرب ، يتناقض تماما وما يطرحه المؤلف . والاعمال الادبية  الصهيونية نفسها التي تعالج مثل هذه الموضوعات ، تناقض ايضا قناعة المؤلف ، فهي لا تجعل من الممارسات الصهيونية التي تستهدف اذلال العرب والانتقاص منهم في كل المجالات وعلى مختلف المستويات ، سرا . لقد كان حربا بالمؤلف ان يحرص على ان تكون شخصية  ” حاييم ” شخصية تنسجم والظرف الذي يحتوي المسرحية : ظرف الاستعداد لشن هجوم اسرائيلي على الفلسطينيين . وعليه فقد كان سيكون اكثر منطقية لو ان ” حاييم ” كان شخصية قوية متيقظة متحفزة ، لا ان يقدم لنا كشخصية متعبة منهوكة انهزامية ، يبدو عليها الخوف والارتباك (ص 23) منذ البداية تماما . فما تكاد تسمع صوت اطلاق ناري حتى تصاب بالهلع . ان الذي اعتقده ان الكاتب برسمه هذه الشخصية طبقا لامنياته هو لا طبقا لما يفرضه ظرف المسرحية – حيث ان الاعداد لشن هجوم يفترض اساسا التيقظ الكامل من جانب المهاجمين – يعكس قصورا في استيعاب الحالة النفسية الشخصية الصهيونية في مثل هذا الظرف . وبرغم ان المسرحية تجاوزت فيما بعد اسلوب ” المخطط التكتيكي ” وكشفت لنا عن الممارسات الوحشية الصهيونية ضد الفدائيين العرب ، الا ان اسلوب المعالجة الاول الذي يغطي ما يقارب ثلثي المسرحية ، قد ادى الى ترهل المسرحية وافقدها توازنها واخل ببنيتها وحبكتها ، اضافة الى انه افرغها عن عنصر هام من عناصر المسرح النضالي : عنصر التوتر الدرامي . هذا عدا عن ان البديهة تقضي بأن وجود عدو قوي متصلب يستتبع حقيقة ان يكون من يتصدى له اكثر قوة وصلابة وجرأة .
   ثمة نقطة ضعف  اخرى تعاني منها المسرحية ، تلك هي ان يضع المؤلف شهادة لصالح الفدائيين على لسان العدو بصورة مباشرة ، كأن يقول : ” الياهو” ، فراش المستشفى ، عن المقاومة الفلسطينية  : ” انهم  يهجمون على المستشفيات ابدا ” (ص 17) . من نقاط الضعف الاخرى ان المؤلف لم يستطع تجنب تسلل عدد من الشعارات والكلائش الصحفية مثلا : مسار الاشياء في صالحنا (122) ، ونجم العدو يميل الى الغرب ونجمنا في صعود مستمر(122) ، واننا هزمنا لكننا لم ننته (125) .. الخ .
   غير ان ما اخفق المؤلف في تحقيقه في هذه المسرحية : الالتزام بالظروف النوعية التي تكتنف المسرحية ، وما تشترطه من سمات معينة في  شخوص المسرحية ، وبالتالي سيطرة المؤلف سيطرة  كاملة على عمله المسرحي ، قد تم تجاوزه لحد كبير في مسرحية ” السؤال” او “حكاية الطبيب صفوان بن لبيب وما جرى له من العجيب والغريب ” .
   هذه المسرحية مثلها مثل ” المفتاح” ليوسف العاني ، تتخذ لها من التراث منطلقا ، وتشترك واياها بسمة مهمة خاصةهي الاستخدام المبدع للمادة التراثية ، مع الحرص على  عدم تجاوز التراث الا بما تمليه وتستوجبه اشتراطات الحياة المعاصرة ومستلزماتها  لاكساب العمل الجديد اصالته الذاتية . فهي تستند الى حكاية من حكايات الف ليلة وليلة ، هي ” حكاية الخياط والاحدب واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع لهم ” .
   ان المؤلف  لا يقدم لنا في هذا العمل نسخة كاربونية جديدة من حكاية الف ليلة وليلة ، وانما يتخذ الحكاية منطلقا لعمل جديد في مضامينه وافكاره وفي تطورات الاحداث ومسارها ، والنهاية المنطقية التي يقود اليها ذلك المسار في مجتمع تمزقه الانقسامات والتناقضات . فتطور الاحداث في الحكاية الاصلية وسلسلة الاعترافات التي كانت توشك ان تقود المعترفين ، كل  بدوره ، الى حبل المشنقة ، لكنها نالت في النهاية استحسان السلطان ، فكتبت لهم بالتالي النجاة جميعا – ان هذا التطور يمكن ان يحدث في اطار حكاية خيالية حسب ، لا في اطار الواقع الفعلي المحسوس . وقد يجد من الفها مبررا في تطوير الاحداث بذلك الاتجاه ، في حقيقة ان الحكاية الالفية كلها ، كانت جزء من عملية سايكولوجية تهدف عن طريق الايحاء وتقديم المثل  الافضل وتلقين  الحكمة الصالحة ، الى حمل شهريار على التوقف عن قطع اعناق النساء . وهو ما تحقق فعلا في نهاية الليلة الاولى بعد الالف .. غير ان مؤلف المسرحية  ، يتجاوز ازمنة الخيال  ، ويقدم لنا عملا يبدو اكثر انسجاما وتوافقا والظروف  الحسية التي كانت تسود ذلك المجتمع . انه يقدم لنا نموذجا لما يمكن ان يقود اليه التمسك بالالتزامات الاخلاقية في مجتمع ممزق يقوم  على الاستغلال .
   ولابد ان اسجل ان المؤلف قد نجح بشكل ملحوظ في ان يبدع شخصية الطبيب ، التي تتحرك بحرية طبقا لقناعاتها وايمانها حتى النهاية ، واستطاعت  بحكم ثقافتها واهتماماتها الانسانية والتزاماتها الاخلاقية ان تظل مقنعة على مستوى ماكانت تقوم به من افعال انطلاقا من  موقفها المبدئي الاخلاقي الثابت ، حتى وان قاده ذلك الى الهلاك . وبرغم ان الغرض من وراء ذلك كما يبدو لي هو دحض قناعات الطبيب الطوبائية ، وذلك عن طريق التناقض الجذري القائم ما بين القناعة والايمان الفرديين ، وبين ما هو جار حقا في الواقع الفعلي – اقول برغم ذلك ، فاننا لا نلمس بقدر تعلق الامر بهذه المسألة ، محاولة من جانب المؤلف للتدخل في توجيه مسار الاحداث نحو قناعاته الذاتية التي تحدد الاهداف النهاية المسرحية ، وانما استغل لتحقيق ذلك وبنجاح ظاهر ، عنصر الحلم والوهم ، وما يحفل به  هذا العالم من رؤى وامنيات ممكنة التحقق في اطار هذا العالم – عالم الحلم – حسب  ، مقابل  حكم الواقع الفعلي  المناقض لذلك  تماما ، حيث تكون المواجهة النهائية الحاسمة بين الطبيب المثالي الملتزم اخلاقيا ، وبين الواقع الحي ، على حد السيف وهو يهوى على رقبته ، على خلاف ما تراءى له في الحلم  حيث  يخفق الجلادون في انزال السيف على رقبته ، مثلما ارتفعت السكين عن  رقبة اسحاق حين بعث الله لابراهيم بكبش الفداء .
   غير ان ما يؤسف له ان المؤلف لم يستطع المحافظة على موقعه الدقيق في العلاقة الحساسة القائمة بينه وبين شخوص مسرحيته ، والمتمثلة باستيعاب الشخصية ضمن اطار مواصفاتها وتحديداتها الاجتماعية ، ورسمها من ثم طبقا لذلك مع  ابقائها مستقلة عنه . فعلى خلاف شخصية الطبيب  التي استطاعت ان تظل مقنعة حتى النهاية ، نجد ان المؤلف لم يكن ناجحا تماما في رسم شخصية ريحانة ، زوجة الطبيب وشقيقة امين . فبالنسبة للشخصية الاولى : أمين ، لم يتح لها المؤلف ان تظل مستقلة عنه – اي عن المؤلف نفسه فقد بدت اقرب  الى كونها شخصية مثقفة تحمل فكرا انسانيا معاصرا ، وهي في الوقت عينه عملية وواعية . ولا اظنني ابتعد كثيرا عن الصواب  ، لو تصورت انها اختيرت لتكون ناطقا بلسان مثقف معاصر ، لعله المؤلف نفسه . وهنا مكمن الخطأ بتقديري . فنقيب الحمالين – مع اخذنا مرتبة النقابة واشتراطاتها ، بعين اعتبار – لا يمكن ان يتحدث بلسان شخص  مثقف . وحتى لو ان هذا الاختيار كان يضع نصب عينيه القيمة الرمزية للوظيفة التي تمارسها هذه الشخصية : ” حمال ” ، فالذي يبدو لي ان التوافق بين القيمة الاسمية للشخصية المستمدة من صفتها الذاتية ، وبين القيمة الرمزية المستمدة مما توحيه تلك الصفة وقدرتها على اسقاط ما توحي به  من معنى على المرموز اليه ، لم يكن على درجة من الدقة بحيث تستطيع هذه الشخصية ان تطرح نفسها في آن واحد ، كرمز يوحد ما بين قيمتيها الاسمية والرمزية ، بوصفها حاملا واعيا مدركا مثقفا لعبء وهموم المجتمع . وتحميل الشخصية اكثر مما تحتمل ، ووضعها في موقع غير موقعها ، ينطبق لحد ما ، على ريحانة ، شقيقة امين . ومن هنا فان جعلها زوجة لطبيب عالم مثقف ، تبدو غير معقولة ، مهما كانت درجة النقاء الروحي التي يمتلكها الزوج ، العالم الطبيب . وبالطبع فانا لا اقول هذا وانا اضع في ذهني الاختلافات الطبقية .
   فتجاوز هذا الامر مسألة جد طبيعية برأيي . وانما اضع في ذهني الاساس الفكري والروحي الثقافي المشترك الذي يمكن ان يحطم الحواجز الطبقية . وهو هنا معدوم بين الطرفين ريحانة والطبيب صفوان .
   غير انه برغم ذلك ، تظل هذه المسرحية عملا متميزا سواء في قدرته على الاحتفاظ بأصالته وباستقلاله عن المادة التراثية التي استلهمها ، او في بنائه الفني او في حبكته . وفيه  من عناصر النجاح والابداع ما يغطي هذه السلبيات .
   الثغرة التي تعاني منها مسرحية ” خشب ومخمل ” : الحل الطوبائي – تشكل نقطة ضعف اساسية في مسرحية (الكراكي) لنور الدين فارس . فمثلما اختار عبدالملك نوري ” لشاهه” ان يكون ” شهيدا شجاعا ” ، كذلك اختار نور الدين فارس للحاكم ” ثيودسيوس” الصلاح والهدى ، نهاية . فبعد ان يقترح مثلا البحث في السجون عن اعتى مجرم ليعينه قاضيا للبلاد (ص 16) ، وبعد ان يخطط للايقاع بالفيلسوف كينتس ، الذي يناضل من اجل الحرية والخبز والعدالة .. الخ ، بمحاولة  تعيينه قاضي القضاة في البلاد ، نجده يبحث عن ومضة مقدسة تشرق في ذهنه الحالك (ص 69) ، ثم نراه يندفع طارقا بيوت المواطنين كالمجنون يطالبهم بالكشف عن القاتل الذي اغتال كينتس لينزل فيه القصاص العادل .. ويصف خطة رئيس القضاة باعدام احد المجرمين المدانين باعتباره قاتل كينتس لاسكات الافواه ، بالخسة والجبن متسائلا : ” متى كان الباطل سندا للحق؟ ” (ص 95) . بل ويصل قمة العدالة حين يكتشف ان ابن شقيقه هو القاتل الفعلي ، فيقرر اعدامه بنفس المدية  التي قتل بها كينتس ، رافضا كل توسلات الحاشية بتخفيف الحكم على  القاتل .. ابن اخيه ! وهذا الوعي له ثمة اساس مادي يبرره . انه الاختيار السهل ، او المخرج السهل للمسرحية . وما قلته بصدد فشل المسرح السياسي في بلوغ هدفه الاساسي فيما  اذا اخفق الكاتب في استيعاب المسار العام الذي ينبغي ان تأخذه الاحداث طبقا لما تمليه  الشروط الحسية التي تكتنف الاجواء التي تؤطر المسرحية ، واللجوء بدلا من ذلك نحو دفعها في مسار ينسجم وما يتمناه المؤلف – ينطبق لحد بعيد على مسرحية ” الكراكي” . فاختيار القداسة للحاكم ثيودسيوس ، ووضع حل الازمة القائمة بيد الحاكم ، يعني وقف نضال الجماهير في منتصف الطريق . وهذه نقطة ، لا يبدو لي انها في صالح المسرح التقدمي الثوري . اضافة  لهذا ، فان المسرحية جاءت تقليدا للمسرح اليوناني . صحيح ان من حق الكاتب ان يختار ما يريد من موضوعات .. وله حق التحرك على الكرة الارضية بكاملها ، وفي اي عصر من العصور .. غير ان هذا قد ينطوي في حالات ليست نادرة ، على  خطر السقوط في التقليد .
   اخيرا .. اود ان الفت  النظر الى انه ينبغي الا ينظر الى هذا البحث على ان فيه من الشمولية ما يغني عن تغطية المسرح العراقي بكامله ، او انه يعالج الاعمال المسرحية لكل كاتب من الكتاب الذين  تناولهم البحث ،  وانما كان  محاولة اولية لتشخيص بعض المواقف والجوانب الايجابية او السلبية في المسرح العراقي ، بأمل ان تتوفر لي مستقبلا فرصة تتيح لي المجال لمعالجة ما فاتني من مسرحيات كان من الممكن ان  يسهم الوقوف عندها في القاء مزيد من الضوء على مسيرة المسرح في العراق .

الهوامش
•    جميع  المقتبسات عن العاني مستقاة من (عشر مسرحيات من يوسف العاني) ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1981م .
•    خشب ومخمل . وزارة الاعلام ، بغداد ، 1972م .
Comus . albert , collected plays , homish Homilton , london , 1965 , pp . 140 , 147 .
•       مسرحيات جليل القيسي ، دار الرشيد للنشر  ، بغداد ، 1979م .
•    السر ، مطبعة الغري الحديثة – بمساعدة نقابة المعلمين ، النجف ، 1968م .
•    السؤال ، وزارة الاعلام ، بغداد ، 1976م .
•    الكراكي ، المكتبة المصرية ، بيروت ، بلا تاريخ .