تبدو الحياة بدون مسرحا مثقفا كمثل انسان بليد يعيش ليأكل ويتنفس فقط دون ابداع أو نتاج أو دور .
المسرح عالم من مجموعة افكار تصوب المعنى الحقيقي للوجود البشري على كوكب الارض من خلال وسائله .. الايماءة والكلمة والإضاءة والموسيقى .. فلسفة تعتمد على نهج المخرج وطروحات المؤلف المسرحي وابداع الممثل .
كان المسرح العراقي أحد مسارح القمة في الوطن العربي لما يمتلكه من تاريخ عريق ومبدع ومتطور في العمل الدرامي ، لكنه لم يعد خلال السنوات الماضية ذلك المسرح الذي عرفه الكثيرون من الدارسيين والمتابعين للفن المسرحي، فقد تحول من مسرح جاد وواع الى آخر هامشي لحظوي وعبثي وتجاري. ويرى فيه فنانون مسرحيون انه اصبح مسرحا يضحك على الإنسان لا يضحكه .. والسبب في ذلك هو غياب الرؤى الفكرية والنظرية المسرحية الرصينة وفقدان المسرح لهويته الوطنية كمدافع أساسي عن هموم الانسان من خلال ابتلاع السلطات له ايدلوجيا او الاهمال المتعمد من قبلها لأنه اداة تغيير مخيفة لهم ..
ومن الصعب ان يتشكل مسرح في أمة لا تؤمن به ونعني هنا الوقوف عند اهمية وكيفية تأسيس الخطاب الفكري والفني ومدى امكانية إحالته واجهة فنية وثقافية حضارية يصعب إيصادها او صدها من قبل أي توجه معاد للمسرح الجاد , وكما هو معروف ان الايمان يخلق عوامل التحفيز الذاتية والموضوعية لأي عمل.
ان في تجاهلنا او تغيبنا هذا الدور التأسيسي اعطاء فرصة اكبر لتدمير آخر ما تبقى من نفس علمي وحضاري للمسرح وهذا يعني نزوحا نحو التخلف الثقافي وتصبح التجربة والحال هذه في عدم فعاليتها لا تتملك الهاجس الجماعي المشترك والخلاق في المسرح وكما انها صدور عن تجربة مزاجية غير مؤمنة وهشة .
أن المسرح لا ينهض ويزدهر إلاّ عندما يمر المجتمع بمنعطف حاسم في تطوره، يوطد أركانه وطنياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، مما يتيح للحركة الثقافية أن تنفتح، ومنها المسرح .
أن نجاح الدراما المسرحية يأتي من التوافق بينها وبين الثقافة التى تنتجه بشكل تفاعلي ، وبما ان المجتمع المحلي اختلطت فيها الثقافة العربية بالثقافة الغربية ، فأصبح الفن والثقافة متخبطا يعكس ذاتية كل فنــــــان ، أو هــذا المجتمع المتشتت ،فقد آن الأوان لوضع قواعد مسرحية حاكمة تلائم المنظومة الاخلاقية والقيمية و العقائدية والتاريخية ، وتعكســـها على المجتمع ، من أجل اعادة بناء الفكر و الثقافة الحقيقية للمجتمع ، الى جانب اختيار المنهج المسرحى الذى يلائم مجتمعنا ، هذا الدور الاصلاحى يقـــوم به النشـــــاط المسرحى المتأصل فى الغريزة الانسانية المفاعلة مع الدراما كمحفز حياتي مهم .
هذا التغيير لن يكون على النص المسرحى فقط بل على عناصر العرض المسرحى السمعية و المرئية ايضا ،” فلا تعد الجـودة اللغوية أو الأدبيـة البحتـة للنـص المسـرحى مقياســا دراميــا أو معيـارا فنيا فى تقييم العرض المسرحى الناجح فحسب ، وذلك لأن النص لم يكتب لينشر بل ليعرض ، والمسرحية التى يدعى مؤلفها أنه كتبها للقراءة، لا تستحق هذا الاسم إلا اذا اجتازت الامتحان على المنصة وامتلكت ادواتها الفنية المعروفة ، وفي مواجهة الجمهور ، فالحركة هى جوهر الدراما ، وليست الكلمة ، فالحركة المرئية المسموعة وليست الكلمة المكتوبة والمنشورة فى كتاب او صحيفة او موقع ..
لكن السؤال لما هذا الهبوط والندرة والتردي لهذا الفن الحيوي في حياة الامم والشعوب .. ولعل اهم وابرز الاسباب ما يلي كما في استطلاع بعض آراء الفنانين المسرحيين:
1-أستبعاد المسرحيون من دائرة القرار السياسي والثقافي والاداري وتغييبهم عن المشهد الإعلامي، وتراجع التعليم العمومي وإقفال أبواب المسارح في العاصمة وانعدام البنى التحتية لمقومات المسرح في المدن والمحافظات.
2-عدم اعتراف الدولة بالممارسة المسرحية كفعل إنساني منتج متفرد الفعالية يساهم في تنمية المجتمع وفي إثراء وتطوير وتحديث مكونات الثقافة الوطنية وفي إخصاب وتطوير اذواق المواطنين ووعيهم الفكري وانفتاح ذكائهم على اسئلة التعاطي مع مستلزمات التقدم الاجتماعي والثقافي والسياسي.
3-إن مسرح اليوم غائب أو مغيب، والحاضر فيه لا يمارس وظيفته الحقيقية، وهو لا يفسر ولا يغير، ولا يشرح ولا يعالج ، ولا يعلم ولا يربي، ولا ينذر ولا يحذر، ولا يحلل ولا يركب، وهو لا يضحك على حمق الواقع والوقائع، ولا يرصد المفارقات الغريبة والعجيبة في حياتنا اليومية ، التي هي اليوم حياة بلا معنى ، وهي وجود خارج المعنى الحقيقي للوجود ، وهو لا يكشف عن الأمراض الاجتماعية ، ولا يضع يده على الأعطاب السياسية الهيكلية، ولا يقدم أي تصور لواقع اجتماعي وسياسي آخر، واقع يكون أكثر إنسانية وحيوية ، ويكون أكثر ديمقراطية ومدنية، ويكون أكثر تعبيرا عن الحياة والحيوية .
4-بروز ظاهرة العلاقات الخاصة (الشليلة) وتبؤها المواقع الاولى لإدارات العمل المسرحي وللأسف مازالت هي المسيطرة في كثير من الاختيارات سواء في اختيار المسؤول او اختيار العروض والمشاركين في تقديمه نتيجة المنافع الشخصية بعيدا عن الذائقة الفنية.
5-انحسار أو ابتعاد او هجرة كتاب ومخرجى وممثلي الدراما المبدعين نتيجة الاهمال أو المحاربة أو التدخل .. ونرى الكثير منهم في دول الجوار أوالمهجر معززين مكرمين يمارسون ابداعاتهم بحرية وابداع .
للأسف ان المسرح العراقي في خطر ومهدد بالانهيار رغم محاولات المدير العام السابق د.شفبق المهدي للسينما والمسرح..في رفد الحركة المسرحية بفعل درامي متطور الا انه تعرض للانتقاد والملاحقة ونقل لدائرة اخرى.. ويبدو هذا هو حال الآخرين من المعنيين في العمل المسرحي ..
اذا ما هو السبيل للحفاظ وتطوير مسرحنا العراقي وانتشاله من زوايا التخلف والتخندق والانحدار .؟
1-البناء المسرحي الصحيح من خلال تصحيح مسار المؤسسات المسرحية الاكاديمية باعتماد مبدأ الموهبة والكفاءة كمعيار للقبول حتى نضمن اداة مسرحية مؤمنة متخصصة.
2-مثلما تعبد شارع أو تبني المدرسة الزام الحكومات المحلية ببناء وتأسيس مسرح واحد كبير مثل المسرح الوطني في بغداد لرعاية الفعاليات المسرحية في المحافظات ومدنها وقراها.
3-الاهتمام بالفنان كإنسان ذو قيمة عليا ومحترمة من خلال الدعم المادي والمعنوي وتقديمه كفعالية انسانية واجتماعية محترمة في الاحتفالات العامة والخاصة.
4- الدعوة لمسابقات سنوية برعاية الدولة لتقديم العروض المسرحية من خلال فرق المحافظات الحكومية والاهلية وتقديم دعم مالي لها كبير .. وزجها في المهرجانات العربية والاقليمية والدولية.
5-نشر اعلانات جميع العروض المسرحية في القنوات التلفزيونية والمرئية والصحف والمواقع ،لمتابعتها والترويج لها
المسرح العراقي مسرح تعبوي وتحريضي كبير كان له الدور الكبير في تبصير الناس فلنجعله الآن اداتنا في التغيير نحو الاحسن والافضل والاجمل .