7 أبريل، 2024 12:52 ص
Search
Close this search box.

المستقبل يفتح أبوابه للديستوبيا

Facebook
Twitter
LinkedIn

منذ قديم الزمان، حاولت شعوب العالم في التكهن بما سيحدث في المستقبل؛ فمنهم من صوره جنة، في حين تنبأ آخرين بأنه حفرة من جحيم مستعر. لكن، لم يوهن ذلك من عزم الراغبين في التقدم والازدهار، ومضوا في طريقهم الواعد. وبفضلهم، شهدت البشرية نقلات حضارية وعلمية أكثر من رائعة، يكفينا فقط القول بأن الإنسان بسبب الازدهار الناجم عن البحث الدؤوب انتقل من العيش في كهوف كحيوانات البرية، إلى الاستمتاع بحياة من الرفاهية وصلت ذروتها بعد الألفية الثانية، التي كانت بمثابة نقلة حضارية وتكنولوجية واسعة الخطى جعلت العالم يصير ملك قبضة يد المرء من خلال هاتفه الذكي الذي يمكنه من فعل أي شئ وهو في مكانه. ولو قرأت مسرحية دكتور فاوستس Dr. Faustus التي كتبها الكاتب الإنجليزي المتقد الذكاء كريستوفر مارلو Christopher Marlowe في القرون الوسطى، نقلاً عن أسطورة دينية اسكندنافية، وتم تقديمها على مسرح الإمبراطورية الإنجليزية لأول مرة عام 1592 – لوجدت أن دكتور فاوستس الذي باع روحه للشيطان مقابل الاستمتاع بالعلوم المختلفة والأموال على مدار عشرين سنة، واستسلم لقدره لأنه ارتكب خطيئة – أنه قد أضاع عمره وذكاءه الفذ هباء. فلو كان سافر للمستقبل بدلاً من استدعاء أطياف من الماضي، لكان قد علم أن الاستمتاع بمباهج الحياة شئ سهل، ومتاح للجميع إذا امتلكوا فقط هاتف ذكي يدخل على شبكة الإنترنت.
وبالتأكيد، لا ينجو البعض من الصدمة الحضارية التي تسببها نقلات التقدم الشديد، كما حدث بشكل واضح في سبعينات القرن الماضي. فلم يتحمل العالم أجمع الاهتمام الزائد بالموضة لكلا الجنسين، وانتشار العناية بالجسد، والقوام والبشرة، وتفشي الديموقراطية، وإطلاق العنان للحريات الشخصية والفكر. أضف إلى ذلك، فلم يستعب الأفراد التقدم الميكانيكي الذي أثر على الآلات وأشكالها وأحجامها وإمكانياتها، مما نشر مظاهر الرفاهية. فنعم الأفراد بالاستمتاع برحلات في قطارات وسيارات فائقة السرعة، وركوب طائرات كأمر معتاد. وأخيراً، ظهر ما يسمى ب”العقل الألكتروني” الذى أطلق عليه فيما بعد اسم الحاسوب Computer ليدفع العالم في غمار عالم من الرقمنة، لم تستعبه شعوب العالم إلا مع مستهل الألفية الثالثة. ولقد أدت النقلة الحضارية واسعة الخطى التي كانت بمثابة صدمة عالمية عارمة إلى انتشار العديد من الاضطرابات النفسية والاجتماعية في جميع المجتمعات الشرقية والغربية، على حد سواء، وأدى ذلك لانتشار حالات الانتحار وإدمان المخدرات.
ولما انتبه العالم لهذا الخطر الجسيم في ثمانينات القرن الماضي، عمد القائمون على الأمور عالمياً على إصلاح أحوال البشر من خلال توجيه الأفراد من الجنسين للاهتمام بصحتهم، وقوامهم، وصحتهم، وكذلك شكل أجسادهم. ومن ثم ظهرت الرياضة كشعار تم إعلائه ليتسيد الساحة، من خلال الترويج له عبر حملات يقوم بها أبطال رياضيين، مثل كمال الأجسام، كما فعل بطل العالم أرنولد شوارزنيجر Arnold Schwarzenegger الذي انتقل من دوره كبطل رياضي فاز ببطولة مستر يونيفرس Mr. Universe وهو في العشرين من عمره، ثم تلى ذلك فوزه ببطولة مستر أوليمبيا Mr. Olympia لسبع مرات متتالية. فصنع منه الإعلام سفيراً للرياضة يجوب أنحاء العالم لنبذ المخدرات، وإحلالها الاهتمام بجمال وجمال الجسد والتحلي بالأخلاق الرياضية. ولقد تم تدعيم ذلك من خلال أفلام الحركة التي يقوم ببطولتها إما أبطال رياضيين، أو نجوم عمدوا إلى إعادة تشكيل أجسادهم ليظهروا بمظهر الأبطال الرياضيين، مثلما فعل الممثل العالمي الشهير سيلفتر ستالوني Sylvester Stallone الذي اشتهر من خلال سلسلة أفلام رامبو Rambo ، وروكي Rocky. وبالفعل، نجحت تلك الحملات على نحو غير مسبوق عالمياً بين الجنسين، ودخل في غمار الحفاظ على شكل الأجساد تفشي موضة التخسيس باتباع حميات مختلفة مثل حمية الكيتو Keto Diet، وحمية الباليو Paleolithic Diet، والحمية المنخفضة السعرات Low Calories Diet، والحمية النباتية Vegan Diet، وحمية فصيلة الدم Blood Type Diet ، وحمية الشواطئ الجنوبية The South Beach Diet ، وحمية البحر المتوسط Mediterranean Diet، وحمية الأكل النيئ Raw Food Diet. وصاحب ذلك، التطور للاهتمام بمنظومة الأخلاق لتضاهي الأخلاق الرياضية فتفشى التسامح، والسلوك الودود، والتغافل، والمجاملة، وفي نفس الوقت الاهتمام بشئون الذات فقط.
وبنظرة خاطفة، نجد أن الإنسان قد وصل لقمة التقدم الأخلاقي والجسدي والتكنولوجي، وأما الجهود التي سوف تأتي بعد ذلك هي عبارة عن لمسات مكملة لهذا البناء القوي المتماسك، الذي صار يحاكي المدينة الفاضلة أو الجنة على الأرض، التي لطالما تغنى بها الشعراء، والأدباء، والفلاسفة. لكن بالتمعن في حقيقة الأمور، نجد أن العالم يسير بخطى واسعة نحو نهايته. فلقد تم تقسيم البشر لطبقة مفكرين بيدهم زمام الأمور، لكن في نفس الوقت لا ينظر إليهم البشر بعين الاعتبار، لدرجة أنهم يصيرون مثاراً للتهكم والسخرية. وعلى الجانب الآخر، نجد سواد الناس الذين اهتموا بجمال الجسد قبل أي شئ، وانصب اهتمامهم على الحفاظ على شباب دائم من خلال ممارسة الرياضة، واتباع الحميات المختلفة، وكذلك أيضاً باجراء عمليات التجميل، والاهتمام بحقن البوتوكس والفيلر. وتلك الطبقة من سواد الناس لاتدري شئ عن الكون إلا ما توفره لها وسائل الإعلام من وجبات إعلامية موجهة، أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى هذا، صارت ثقافتهم زائفة، ومعرفتهم بالعالم هامشية؛ لأن اهتمامهم الأعظم ينصب على الذات فقط والسعادة الشخصية. وعلى هذا انقسم العالم إلى طبقة غالبة جاهلة من سواد الناس نصبت نفسها السيد والعليم بكل شئ، وطبقة قليلة العدد من العلماء الذين ينظر لهم الجهلاء بنظرة فوقية بالرغم من أن بيد العلماء زمام الأمور. والغريب، أن العلماء يعجبهم التواري عن أعين الآخرين في حين ينقذون ويدمرون البشرية، حسبما يشاؤون.
أي أن، ما تحقق للعالم ليس باليوتوبيا Utopia أو المدينة الفاضلة المنشودة، لكن ديستوبيا Dystopia وهي عكس المدينة الفاضلة تماما؛ حيث أنها مدن يعمها الفساد، ويغيمها خفافيش الجهل بالرغم من واجهتها التي تبدو مشرقة. يلاحظ أن كل ديستوبيا هي في الأصل يوتوبيا، لكن ساءت أحوالها، فتحولت إلى النقيض. ولو كان ما نعيشه حالياً تلك اليوتوبيا المنشودة، لم نكن لننظر للماضي بشغف ونسميه بالزمن الجميل. ولعل خير دليل على أن الديستوبيا Dystopia قد طوقت العالم، عدم وجود بقعة في العالم وإلا تسودها اضطرابات سياسية، واجتماعية، ونفسية. يجب قبل المضي قدما في أي خطط مستقبلية محاولة اصلاح ما أصاب العالم من عطب كما كان يحدث من قبل؛ لأن عواقب الديستوبيا وخيمة ومن شأنها تدمير العالم أجمع.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب