18 ديسمبر، 2024 10:18 م

المستقبل العربي – العدد 500 الريـــادة والأفـــــق

المستقبل العربي – العدد 500 الريـــادة والأفـــــق

بصدور العدد 500 تكون مجلة المستقبل العربي قد تجاوزت أربعة عقود من الزمان بالكمال والتمام من مسيرتها الفكرية الواعدة. وتعدّ المجلة اليوم من أطول المجلات العربية عمرًا ، وخصوصاً تمسّكها برسالتها الأولى القائمة على الإيمان بالوحدة العربية التي مثّلت جوهر المشروع النهضوي العربي، واكتسبت مع مرور الأيام معرفة وحكمة، وتلك دلالة الإنجاز والتحقق والامتلاء بما في رصيدها من ذخيرة ومخزون وتجربة.
ومنذ اليوم الأول طرحت المجلة أهم الإشكاليات والتحدّيات التي يواجهها الوطن العربي وعلاقته بمحيطه من جهة وبالعالم من جهة أخرى، مراكمة جهداً معرفياً على هذا الصعيد، خصوصاً في معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفلسفية والقانونية والدينية والتربوية والبيئية والصحية والأمنية والعسكرية ، وبالطبع فإن جميع هذه الحقول والميادين ليست بمعزل عن العلاقة بالعلم والتكنولوجيا وعالم الحداثة وصولاً إلى الطور الرابع من الثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي والعالم الافتراضي، من دون إهمال تطور تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والثورة الاتصالية والمواصلاتية والطفرة الرقمية “الديجيتل”، وكل المنجز العلمي والفني والعمراني والجمالي على المستوى الكوني، وبفروعه المختلفة.
ورسالة المستقبل العربي التي استندت إلى الوحدة العربية وأسست لمشروع دراسات مستقبلية في خصوصها في الميادين المذكورة كافة، قامت على العقل، إذ لا تنوير حقيقي من دون العقل، والعقل قيمة عليا، وكل ذلك مثّا إطاراً للحوار بشأن أركان المشروع النهضوي العربي الذي طرحه مركز دراسات الوحدة العربية منذ ما يزيد على عقدين من الزمان في طبعته الأولى، وعاد وجدّده وأجرى مراجعات عليه في صيغته الجديدة التي لا تزال تعتبر مظلّة لمجلة المستقبل العربي.
وهكذا فالتحرر السياسي والاقتصادي والتنمية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتجدّد الحضاري كلّها تستند إلى العقل والعقلانية ، كجزء من مشروع الحداثة المشفوع بالحرية. وبعد، فإن غياب العقل بزعم امتلاك الحقيقة وادعاء الأفضليات سيؤدي إلى سيادة الجهل، وهذا الأخير أس البلاء، الذي يقوم عليه الاستبداد الذي ينتج التعصّب والتطرّف ووليدهما العنف والإرهاب، وهو المشروع الذي تصدّت له مجلة المستقبل العربي . وأستطيع القول إن كل انتماء إلى العقل يعني انتماء إلى دائرة الاعتدال، وكل اعتدال هو مواجهة مع ثقافة الكراهية والانتقام والتمييز واللّامساواة.
لقد ربطت مجلة المستقبل العربي حركيتها بدوائر ثلاث: أولها- العروبة التي مثّلت هويتها الجامعة، وثانيها- التفتيش عن الجوامع التي تعظّم من شأن التعاون العربي، وثالثها- الإنسانية ، ولا يمكن للمرء أن يكون عربياً حقيقياً إن لم يكن إنسانياً يؤمن بالأخوة الإنسانية، و”الإنسان مقياس كل شيء” على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس. والعروبة الحضارية في معناها ووجودها إنسانية خارج دوائر الأديان والطوائف والعصبيات الأخرى.
وكانت رسالة المستقبل العربي ضد الاستعلاء والتعصب الديني ووليده التعصب الطائفي؛ وهي دعوة التزمت بها في اختيارها وانتقائها للمقالات كجزء من توجهاتها العامة، وهي دعوة رافقتها دعوة أخرى مماثلة ومتممة ومكمّلة وأساسية في الوقت نفسه، ضد الطائفية والتمذهب بتقديم خطاب نقيض له يعلي من شأن ” العروبة الثقافية” التي تسمو على الانقسامات الطائفية والدينية ، وهي رابطة وجدانية وانتماء شعوري وفطري جامع إلى أمة مجزأة تسعى لتحرّرها ووحدتها.
لم تتوقف المستقبل العربي عن الصدور الشهري ولو مرّة واحدة ، على الرغم من المصاعب والتحديات الأمنية اللبنانية، سواء خلال الحرب الأهلية 1975 -1989 أو خلال العدوان الإسرائيلي 1982 واجتياح لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت، أو خلال العدوان الإسرائيلي تموز (يوليو) 2006 أو خلال التوترات والتجاذبات الداخلية، واستمرت في الصدور حتى خلال الجائحة كوفيد -19 ” كورونا” التي اجتاحت العالم خلال العام الجاري 2020.
يمكنني القول إنه لا توجد مكتبة عربية مرموقة تخلو من مجلة المستقبل العربي، سواء أكانت مكتبة عامة أو جامعية أو حتى شخصية. كما احتوت هذه المكتبات على كتب مركز دراسات الوحدة العربية الذي يصدر المجلة والتي تجاوزت على 1000 عنوان في المجالات المختلفة، وذلك مواكبة للتطوّر الكوني من جهة، ولبحث أبرز القضايا والمشكلات التي تواجه المجتمعات العربية من جهة أخرى.
وكان إعدادها المشروع النهضوي العربي مساهمة كبيرة في بلورة الأهداف العامة التي يناضل من أجلها الساعون للتغيير في وطننا العربي. فقد احتوى على ستة أهداف جمعت فيها التحرر الوطني السياسي والاقتصادي وربطتهما بالتنمية، وهذه الأخيرة ربطت بالعدالة الاجتماعية في التطلع إلى الديمقراطية مع ربط الحداثة بالتراث في إطار التجدد الحضاري وذلك ارتباطاً بمسألة الوحدة العربية .
وأعتقد أن ذلك يشكل جوهر عملية التغيير بجانبها السياسي ضد الهيمنة الخارجية من جهة ومن جهة ثانية توسيع القاعدة الشعبية للديمقراطية بالتحرر الاقتصادي والتنمية المستدامة بجميع حقولها سعياً للعدالة الاجتماعية، وذلك بجعل الحداثة عنصر تجديد للتراث باستلهام قيمه الإيجابية الأصلية وللتفاعل مع التطور العالمي والتفاعل بين الحضارات في المسعى الإنساني لما فيه خير البشر وسعادتهم وتقدمهم.
ويمكنني القول إن أهم القضايا التي تواجه العرب على المستوى السياسي تتعلق بثلاثة أطر:
الإطار الأول- الوطني، حيث يصبح حماية الدولة الوطنية ومنع تشظيها أو تفتتها أو تقسيمها هدفاً أساسياً، يمكن للمجلة الإعلاء من شأنه ورفع درجة أهميته بتحفيز النقاش حوله. والمسألة لا تتعلق بالمناشدات أو التمنيات ، بل بالدعوة إلى توسيع دائرة المشاركة والحوار من خلال تأكيد المواطنة الفاعلة والحيوية ، وهذه تستند إلى الحريات والمساواة والعدالة، ولاسيّما الاجتماعية، والمشاركة والشراكة في الوطن الواحد، وهي جزء من المشروع النهضوي الحضاري العربي.
وهذا لا بدّ من تفعيله على صعيد كل بلد عربي وداخل التيارات السياسية فيه القومية العربية بفروعها المختلفة، واليسارية والماركسية، والدينية والإسلامية بوجه خاص، إذ لا يكفي الإعلان عن موافقتها له وتبنّيه نظرياً، بل قياس درجة اقترابها أو ابتعادها منه عملياً، وخصوصاً في علاقاتها واحترامها الرأي والرأي الآخر والتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف، بما فيها داخل أطرها القائمة.
الإطار الثاني- العربي، الذي يتطلب جهداً مضاعفاً ومكثفاً لإعادة الاعتبار إلى المشروع الوحدوي العربي، فبعد أن كان مشروعاً جاذباً ومؤثراً، أصبح مشروعاً منفّراً ومباعداً أحياناً، والأمر لا يتعلق بالأماني ، بل بقراءة الواقع، سواء كان على نحو عام أو مناطقي، فالوحدة التي كانت أملاً للجمهور في الخمسينات وهتفت لها الحناجر عشية إقامتها بين سوريا ومصر العام 1958، لم تعد كذلك حيث انطفأ ذلك الألق الذي كان يحمله اسمها وانخفضت درجة الجاذبية لها أيضاً، وذلك بسبب فشل التجارب الوحدوية ، ابتداء من تجربة الجمهورية العربية المتحدة وتجربة الوحدة الثلاثية (ميثاق نيسان /ابريل 1963 المصري – العراقي – السوري) وإعلان وحدة ليبيا وسوريا ومصر العام 1971 وميثاق الوحدة السورية – العراقية 1978-1979، وغيرها… وانتهت كلّها إلى صراعات ونزاعات وعداوات ما أنزل الله بها من سلطان، فضلاً عن شحّ الحريات والطابع الفوقي الذي اتسمت به هذه التجارب، ناهيك بموقفها من الديمقراطية والتعدّدية والتنوّع.
ولكي تعاد ثقة الجمهور بفكرة الوحدة ويتم الضغط على الأنظمة للتقارب والتفاهم والتعاون والتنسيق فيما بينها ابتداء من أبسط القضايا حتى أرقاها، يمكن البدء بمشروع دراسي حول وحدة بلدين عربيين أو أكثر، وهو ما أنجزه المركز لإعداد دستور عربي فيدرالي كان لي الشرف في إعداده بصيغته النهائية بعد حوارات دامت ما يزيد على ثلاثة أعوام.
المهم رد الاعتبار إلى فكرة الوحدة العربية وأي شكل من أشكال الاتحاد العربي على الصعد الاقتصادية أو الاجتماعية أو التربوية أو الثقافية أو الأمنية أو غيرها، وإذا كانت ثمة نجاحات على هذا الصعيد، فهي محدودة جداً مثل مجلس التعاون الخليجي، الذي تأسس في 25 أيار/مايو العام 1981، وبدأ مسيرة إيجابية ، لكنها تلكأت وتعثرت وواجهتها عقبات داخلية وخارجية منعتها من إحراز التقدم المنشود الذي كان واعداً في مرحلته الأولى، ولنلاحظ الصراع القائم بين قطر وبين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين، واختلاف المواقف، إزاء اليمن وليبيا والعلاقة مع تركيا والموقف بخصوص سوريا وغير ذلك.
كما أن الاتحاد المغاربي الذي تأسس 17 شباط (فبراير) عام 1989، ظلّ هامشاً والعلاقات بين بعض أقطاره مقطوعة منذ عقود من الزمان (الجزائر- المغرب) بسبب مسألة البوليساريو وغير ذلك من المشاكل التي لم تنقله إلى موقع الفعل والإنجاز. ومع ذلك فإن بقاء مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي قائمين وتطويرهما مسألة مهمة ، ويمكن البناء عليها والاستفادة من التجربة ودروسها وخبرتها للمستقبل أيضاً.
وحتى العلاقة المصرية- السودانية التاريخية تصدعت بسبب مشكلة جزر حلايب ، أما العلاقات العراقية – الكويتية فقد أصيبت بنكسة ما زالت آثارها إلى الآن قائمة، بسبب غزو القوات العراقية في ظل النظام السابق للكويت العام 1990، وما ترك ذلك من آثار نفسية كبيرة، فضلاً عن ما أصاب العراقيين بسببه من أذى، باستمرار الحصار الدولي الجائر عليه لمدة 12 عاماً، ومن ثم احتلال العراق واستباحة كيان الدولة العراقية وتعويم سيادتها، ناهيك بما سبّبه من تصدّع في التضامن العربي.
يمكن مجلة المستقبل العربي ومركز دراسات الوحدة العربية الذي وضع هدفاً سامياً من أهدافه هو دراسات الوحدة العربية، أن يخصص مشروعات بحثية لمدة 5 سنوات قادمة لإحياء وتجديد ونقد الفكرة والممارسة في إطار منفتح وجديد.
الإطار الثالث- العالمي؛ كانت المجلة والمركز قد وضعت التجارب العالمية الوحدوية ضمن مشروع دراستها للوحدة العربية، للاطلاع عليها وللإفادة منها، إضافة إلى مواقف القوى الكبرى من مشاريع الوحدة العربية، والأمر يشمل القوى الإقليمية أيضاً، أعتقد أن المجلة بحاجة إلى إعادة تلخيص لهذه التجارب بفتح حوار حول إشكاليات التجارب العالمية والتحديات التي تواجهها كما هو الاتحاد الأوروبي مثلاً، ودور الأزمة الاقتصادية العالمية على الانكفاءات القطرية، وما مدى تأثير ذلك في دولنا ومجتمعاتنا.
ونحتاج أيضاً إلى التسلّح برؤى جديدة حول مواقف القوى الإقليمية التي أصبحت لاعباً فرعياً جديداً ومؤثراً للاعب الدولي الأكبر ؛ ولنأخذ تركيا وطموحاتها العثمانية وإيران ومشروعها الأيديولوجي مثلاً، وذلك في إطار الصراع العربي- الإسرائيلي من جهة وفي إطار المشاريع الدولية الجديدة، ولاسيّما مشروع صفقة القرن والحديث عن سايكس بيكو جديدة أو معاهدة لوزان جديدة (علماً بأنه سيمضي 100 عام على معاهدة لوزان 1923 التي كان لها دور كبير في وضع خرائط المنطقة بعد تأسيس الجمهورية التركية وانحلال الدولة العثمانية).
هذه هي المستويات الأساسية التي يمكن أن تؤطر مشروع المجلة الذي هو جزء من المشروع النهضوي العربي في مختلف مجالاته. أما في خصوص القضايا التي تفرض نفسها عربياً على المستوى الاقتصادي ، فهو التنمية المستدامة أي “توسيع خيارات الناس” في المجالات المتعددة، فلا تنمية حقيقية دون مشاريع إصلاح سياسي أساسه حكم القانون والمواطنة واحترام التنوّع الثقافي والإقرار بحقوق المجاميع الثقافية، والاعتراف بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل.
الإشكاليات التي واجهت العرب نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يُعاد طرحها مجدداً: ولنتذكر كتاب شكيب إرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وقد حاول محمد عبده والأفغاني والكواكبي والطهطاوي والتونسي والنائيني التأكيد على أهمية التوجه لبناء دولة قائمة على حكم القانون وجعل الناس متساوين أمامه والوقوف بوجه الاستبداد بوصفه سبب البلاء.
وحين أحرزت عدة بلدان عربية استقلالها السياسي لم تتمكن من إنجاز استقلالها الاقتصادي ، وحين حاولت تأميم ثرواتها (قناة السويس) مصر 1956 ، والعراق (تأميم النفط العام 1972) تعرضت إلى عدوان ومحاولات لتدمير مساراتها بأشكال متعددة.
السؤال الآن أي نظام اجتماعي تحتاج إليه البلاد العربية أو كل بلد وفقاً لتطوره؟ وما هو دور القطاع العام في التجارب التي سعت لوضعه بخدمة الطبقات الفقيرة، ولاسيّما بعد محاولات تفكيكه وذلك بزعم الخصخصة والاقتصاد الحر وفشل التجارب الاشتراكية وخسارة بعض مشاريعه، وما السبيل إلى الجمع بين اقتصاد السوق والإبقاء على دور الدولة في البلدان النامية ومنها البلدان العربية، لأن دور الدولة مهم، بل وحاسم أحياناً فيما يتعلق بالتعليم والصحة والبلدية والبيئة، فضلاً عن دورها المحوري في عملية تنمية القدرات وتوزيع المشروعات وتوفير فرص عمل والقضاء على البطالة ، إضافة إلى الضمان الاجتماعي والتقاعد والشيخوخة وغير ذلك.
قد يكون مناسباً على الصعيد العربي الحديث عنه مجدداً وبرؤية جديدة عن “السوق العربية المشتركة” ومشاريع المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، ولكن ضمن ظروف الحاضر ولقضايا محددة بالتعاون مع جهات دولية (مثلا جهات أكاديمية غربية عملت لسنوات لمقاطعة إسرائيل بسبب مواقفها من حقوق الإنسان والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني)، العمل على تجديد وتطوير الاتفاقيات الاقتصادية العربية وفتح الأسواق والحدود وتسهيل التبادل التجاري وانتقال العمالة والسماح بالإقامة وغيرها.
وتحتاج المجلة إلى التوقف عند قضايا النفط والتصنيع في العالم العربي ، ولعل ثمة ترابط بين المجالات الفكرية والثقافية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والعسكرية والإعلامية والبيئية، لأنها متشابكة ومتداخلة مع السياسة، ولا بدّ من إعلاء مكانة الدولة وجعلها المرجعية الحقيقية للفصل في النزاعات بين الأفراد وفيما بينهم وبين المجتمع، ولعل وظيفة أي دولة حماية أرواح وممتلكات الناس وحفظ النظام والأمن العام.
أعتقد أن ثمة حقولاً تحتاج إلى تفعيل أكبر في أعداد المستقبل العربي خلال السنوات الخمس القادمة وهي تتعلق بحقوق العمال وقوانين العمل العربية ومدى انسجامها مع القوانين الدولية وموضوع الضمان الاجتماعي والشيخوخة والتقاعد ، إضافة إلى معالجة ظواهر الأمية الأبجدية والأمية المعرفية والتكنولوجية ، والدعوة إلى التعليم الإلزامي وإلى توسيع دوائره في الريف والبادية وخصوصاً بالنسبة إلى الإناث.
ومن المهم فتح باب النقاش والحوار مجدداً حول “المجاميع الثقافية” وحقوقها ومساواتها في إطار المواطنة وفي التعبير عن طموحاتها المشروعة وبالطبع فأنا لا أستخدم هنا “مصطلح الأقليات” لأنه ينتقص على نحو متعسّف من مبادئ المواطنة بافتراض وجود هوّيات “كبرى” وأخرى “صغرى” و”أغلبيات” و”أقليات” و”هويّات عليا” و”هويّات دنيا” و” هويّات قوية” و”هويّات ضعيفة” وغير ذلك، وقد تحفّظت على إعلان “حقوق الأقليات” الصادر عن الأمم المتحدة العام 1992 وعلى “إعلان الشعوب الأصلية” الصادر العام 2007 ، لاحتوائهما على مصطلح “الأقليات” الذي يستبطن عدم المساواة والهيمنة من جهة، والاستتباع والخضوع من الجهة الأخرى.
ويمكن مناقشة ذلك بالنسبة إلى الحقوق القومية أو الحقوق الدينية أو اللغوية أو السلالية، وعلاقة الهويّات الفرعية بالهوية العامة الجامعة ، مع احترام الخصوصيات وعدم التحلل من الالتزامات الدولية، وكيف السبيل إلى علاقة سويّة أساسها الاعتراف المتبادل؟
ونحتاج إلى إعادة تفكير وتفسير وتقرير في كل ما يُراد بهذا الشأن من العرب ومن الآخرين ومن المسلمين ومن غيرهم، خصوصاً في ظل حكم القانون وعدم التمييز وخارج دوائر المحاصصة ونظام الغنائم والامتيازات والتمذهب.
أعتقد أن الاهتمام بموضوع اللاجئين والمهاجرين العرب ينبغي أن توليه المجلة اهتماماً كبيراً خلال السنوات المقبلة.
كما لا بدّ من إعادة مركزية القضية الفلسطينية إلى الواجهة، ليس بالشعارات ، بل بفتح حوار معرفي وثقافي حول الصراع العربي- الإسرائيلي بأوجهه المتعددة، وقد يكون مناسباً التعاون في هذا المجال مع مجلة الدراسات الفلسطينية. والبحث في سبل تعزيز المقاومة الشعبية ، وخصوصاً في الداخل حيث يعيش أكثر من 6 ملايين إنسان، مع الاهتمام بشؤون فلسطينيي الشتات البالغ عددهم أكثر من 9 ملايين إنسان.
والموضوع الآخر الذي ينبغي أن يولى اهتماماً كبيراً هو ظواهر التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب والإرهاب الدولي، وهي قضايا مرتبطة بالأمية والتخلف والشعور بالإقصاء والتهميش والفوارق الطبقية والاجتماعية.
كل هذه القضايا كان لمجلة المستقبل العربي دور ريادي فيها، ولكنها اليوم تحتاج إلى المزيد من إعادة قراءة ونقد لما تحقق وما لم يتحقق وأسباب ذلك؛ وقد ساهمت المجلة بلا أدنى شك في رفع مستوى الوعي العربي بقضايا الأمة وتحدياتها، وكان للرواد الأوائل الذين خدموا هذا التوجه دور في ذلك. وإذا كان سؤالكم عن مساهمتي الشخصية فيمكن متابعة أعداد المجلة خلال العقدين ونيّف الماضيين ليتبين ما ساهمت به وهو ما يحتاج حقيقة إلى تطوير، بالكتابة والجهد أيضاً .

نشرت في مجلة المستقبل العربي، العدد 500، تشرين الأول (أكتوبر) 2020.