18 ديسمبر، 2024 7:05 م

المساومات السياسية وما تبقى من الغيرة العراقية

المساومات السياسية وما تبقى من الغيرة العراقية

القناعة الوحيدة التي فاقت درجة اليقين هي ان الشعب العراقي هو المستبعد الاول من اي معطيات سياسية تمسّ واقعه المتدهور وان المصالح الحزبية والفئوية هي التي تتصدر القائمة في اغلب ماجرى وما يجري على ساحة الاحداث المروعة التي تكالبت علية خلال حقبة من العبثية المطلقة في تأسيس مفهوم الدولة وما تبع ذلك من الاحباط الذي اصاب الفرد من جراء تمثيله بقيادات تسلقت الى هرم معادلة السلطة بقدرتها على أستغلال الجهل السياسي لعامة الشعب وأنغراسه في تراكمات تاريخية موروثة محرفة الاصل وموبوءة المضمون لاستقطاب التعبئة الشعبية وتحويلها الى ادوات متصارعة بدوافع الطائفة والمكون والاثنية في حين نأت تلك القيادات بنفسها من دائرة الصراع الذي وظّفته لصالحها من اجل ترسيخ وتجذير وجودها ومصالحها السياسية في السلطة الذي يكون من اولى اولوياته الحفاظ على تلك الهيبة والزعامة والمكانة التي تحتاج الى مردودات مالية ليست بالبسيطة عادة ما يكون تمويلها من خطين خارجياً ومحلياً وفي كلاهما يكون الشعب الذي قاسى ما قاساه من التدهور والحرمان لعصور طويلة هو الخاسر الاكبر والاوحد .

وفي ظل ظروف طبيعية ليس هناك من لايرتضي أن يعيش في ظل خيمة الدولة التي تكون مساراتها مبنية وفق اليات دستورية عادلة وقوانين صارمة ومؤسسات تنفيذية مهنية وان تكون علاقة الحكومة مع شعبها ضمن معادلة الحقوق والواجبات وبهذا يضمن المواطن ذلك الامان النفسي الذي يجعلة مواطنا صالحا منتجا يدرك ما له ويعرف ما عليه واغلب الدول تأخذ اليوم بتلك المبادئ وفق خصوصيات شعبها ووفق ما تراه مناسبا لتكون ضمن ذلك الامتداد الحضاري بين الامم والذي جعل البلدان اليوم عبارة عن قرية صغيرة لتبادل الثقافات والمنافع التجارية والامنية ومن هذا المنطلق أخذت قيادات الشعوب بترسيخ مبدأ المواطنة لتمكين الحكومات من تطبيق القوانين التي تشرع بأنسيابية وبتفهم مجتمعي وتربوي عام لئلا يكون هناك انقلاب أو تمرد أو فوضى من جراء تطبيقها بشكل عادل يشمل الجميع وبلا استثناء , فما فائدة قوانين تشرع بدون ان يصاحب تطبيقها النوازع الوطنية والاخلاقية حتى وان اختلفت رؤاها لأن الهدف واحد هو تطبيق العدالة الاجتماعية , وعلى التشريع ان يبعد القوانين العامة من الخصخصة او ان يكون تمثيلها لحساب فئة او جهة او اي مسمى اخر حتى لاتثار تلك الجدليات التي تؤسس الى اول مراحل الاختلاف والفرقة , والسبب هو التفسير والتأويل الخاطئ الذي يميل كفة القانون لجهة على حساب الاخرى , وتطبيق القانون بحاجة الى قوة ايمانية مرتبطة بالعدالة وبتلك النوازع الانسانية المستمدة من غيرة المتصدي على شعبه ووطنه ,

وللواقع العراقي خاصية متميزة فلايمكن للقوانين حتى وان كانت في غاية الدقة والصرامة من ان تؤدي غايتها ما لم تفعل بروح شجاعة حرة من قيادات وطنية تنزع عن نفسها كل ذلك المحيط من التهاوي وتستنهض ذلك المفهوم الصادم الذي اخذ خصوصيته من تاريخ طويل من الماثر الخالدة ” الغيرة العراقية ” .

الفساد قد اصبح اليوم شرعا ومنهجا متأصلا بزعامات مختلف الوانها وملبسها ومن حولهم تلك الطبقة من الحلقات النفعية التي ارتضت لنفسها ان توالي رمزا لها وتاكل من الفتات التي تلفظه الحيتان في محيط الفساد الذي تبحر وتتنعم به , وقد تحول الفساد في ظل الاحتراف السياسي والتحالفات المغرضة ليصبح منظومة قد يطول الامر اذا ما اريد تفكيكها في ظل تعدد لجان المراقبة واختلاف مرجعياتها وصلاحياتها على الرغم من وجود قوانين رادعة وعقوبات قد شرعت ضمن اليات دستورية الا ان تلك المنظومات تعلم تماما بان ما يمكن تطبيقة من تلك القوانين لن يطالها مهما اوغلت في ملئ ارصدتها من اموال الشعب وثرواته , وانها قادرة وتحت مسميات مفاهيم المحاصصة التي اوصلتها الى مناصب مهمة أن تُسخر ذلك الغياب وانعدام الاحساس بالوطنية والارادة الشعبية لياخذ القانون صياغات المساومة والتسوية وتكون تلك المنظومات محصنة عن اي اتهام او مساءلة وما يتبعها من نتائج وخيمة اخذت تظهر بشكل واضح على السطح بلا رادع ولا خوف ولاتحسب بسبب ضعف الذاكرة العراقية واهمال الكثير من الملفات المخيفة التي لازالت قابعة في ظلمات الارشفة والابتزاز والعمل بمبدأ ” الطمطمة ” , فأن كانت تلك الاجراءات غير قادرة على ان توقف او على الاقل تحيد من تفاقم الفساد فما المطلوب فعله فعلا , ومن يتحمل مسؤولية ذلك العبء الثقيل المتراكم والمستفحل طوال تلك السنوات من الخراب .

الغيرة العراقية هي الوحيدة القادرة على ان تقف حاجزا صلبا امام ما يجري من ذلك التلاعب ضمن بودقة المساومات والتسويات ولعل اخرها ما حصل من مسرحية الاستجواب الاخير ومن فصول غاية في الاثارة والانشداد للاحداث التي تضمنتها والتي ستكون نهايتها مفتوحة ولكنها اعتيادية وطبيعية بلا خاسر ولا رابح وسيظل الاعلام ياخذ صداه الى ان تنساه الذاكرة الجمعية للشعب وما اسرع نسيان تلك الذاكرة من جراء تراكم الاحداث المتسارعة والتضليل المحترف الذي نقبع تحته لما يسمى بالعملية السياسية , فما الذي ينتظره الشعب من ارباب تلك العملية هل هناك ما يتشبث به ويتعلق بستاره , هل ينتظر من شخص ما ان يعلي به الغيرة على وطنه وارضه وشعبه , هل هناك فعلا ماتبقى من تلك الغيرة لكي نشهد عصرا جديدا ونحدث انقلابا فكريا على اساس رصين من تلك الغيرة , هذه هي الجدلية التي تشغل عقول النخب المثقفة من كتاب ومفكرين واعلامين ولكن الطامة الكبرى هي في تلك الطبقة من السذج من الرعية الذين ينعقون ويطبلون بدون ان يمتلكوا ارادة التحكم بالمنطق والعقل ويطلقون الصيحات في اي مكان او زمان على من يحسبونه بطلا او منقذا من تلك الهيمنة والتسلط لأنه اطلق فعلا او حدثا يكون للوهلة الاولى مؤثرا , هم انفسهم من ساقهم النعيق ليطلقوا هتاف “
علي وياك علي ” على اكثر من شخصية لبست ثوب الزعامة بدون ان تستحقها فعلي (ع) ليس مع الشخصنة والفردية مهما اختلفت المسميات وزير او قائد او زعيم فالامير مع الحق كمفهوم وكتطبيق للعدالة الانسانية وهو مع الذين يؤمنون بمنهجية الحق وليس مع الساكتين عنه والمتلونين الذين يطلقون الهتاف على عجالة بدون التأكد من الحق وبينته الواحدة المطلقة فالحق واحد ولايتسع ابدا لأكثر من ذلك , هؤلاء هم الاغلبية الصامته الواقفة على التل المتأرجح بين الصلاح والفساد لا يأخذون موقف الا اذا مال لأحد الجانبين فيميلون اليه ليس لهم مستودعاً ولامستقراً ولطالما قلبوا المعادلات والاحداث المصيرية التي شهدها التاريخ وما حصل فيه من فواجع لوقوفهم مع طغاة عتاة في المشاهد الاخيرة من القرار , ولكن مالذي يمكن فعله والشعب العراقي يتالف من تلك الاغلبية التي صمتت لدهور من الزمن , من سيطلق تلك الصدمة التي تستنهض بهم القيم الوطنية , هل نرى في واقع المشهد السياسي من شخصية قادرة فعلا على ان تؤثر وتستميل تلك الطبقة لتكون عاملا نهضويا عظيما , هل بامكانها ان تستجمع ما تبقى من الغيرة العراقية لتنطلق بها الى ذلك المنتهى من وحدانية الحق بدون ان تهادن او تساوم او تعقد التسويات والتحالفات على مقدرات الشعب ومصيره وثرواته حتى وان كان ذلك على حساب المكانة والمنصب , لنأمل الا يصبح الامر مستحيلا والا يتحول ما تبقى من الغيرة العراقية بفعل الجاه والسيادة الى اكداس من الاوراق النقدية .