في قراءة الرؤى التأريخية بين مدينة ومحاولة الربط بينهما ، فلا نجد بين أسوار القسطنطينية وسوابيط بيوت القصب في أهوار مدينة الجبايش أي علاقة ، بالرغم أن الفرات القريب من مدينة الجبايش والذي يغذي اهوارها آتٍ من بلاد السلطان ( الاستنبولي ) وأن مراكب المُحتل العثماني طالما ناوشت بمدافعها وخيول سراياها الثوار من قبائل بني أسد في ثوراتهم المتكررة ضد الوالي ( العُصملي).
فيما تبدو الرؤى المشتركة بين لندن والجبايش اقرب الى علاقة الفهم ، لأن المستعمر الانكليزي ارسل الى تلك المناطق جنوده ومستشرقيه سويةً لفهم المكان والاندماج فيه والكتابة عنه .
ظل الفرات القادم من منابعه ( فرات صو ومراد صو ) يغذي الاهوار بفيض الحياة والامان ومواويل الطيور والسمك وقطعان الجواميس في صباح حياة بشر بسطاء وطيبين أسمهم ( المعدان ) ، ومنذ أزل الاساطير الأولى وتلك اللحظات الملحمية والروحية التي بنى فيها كوديا اول معبد للصلاة ، وصنع نوح ( ع ) من قصب المكان الاهواري أول سفينة للنجاة ، وربما تلك المنحة الجميلة من بلاد الاناضول الى بلاد الرافدين كانت وليدة القدر الطبيعي منذ أيام ميزوبوتاميا الأولى ولم يستطعْ أي ملك أو سلطان أن يغير في مجرى النهر وكمية الماء أي شيء ، لكن مع التطور التقني وبناء السدود وهاجس السياسة في جعل حرب المياه واحدة من اخطر الحروب في الحياة المعاصرة ، صارا اولاد صو ( مراد وفرات ) خاضعين للمزايدات والضغوط السياسية من قبل ما سك نقطة المنبع ومرات من قبل الحاكم الذي يصل اليه ماء الفراتين كما في سياسة التجفيف التي مارستها الدولة العراقية على مناطق الاهوار ولم يكن لتركيا وقتها شأن في هذا ، بل كان كما قيل اقتراحا من (حسين كامل ) لغرض الضغط على ثوار مناطق الاهوار ودفعهم الى الهجرة من مناطقهم وحتى يسهل السيطرة على الخيط الحدودي المفتوح بمسافة المياه على طول حدود العراق مع ايران من جهة اهوار الحويزة والاحواز الايرانية.
الأن أسطنبول التي تمسك بعنق الزجاجة اصبح لها مسافة واضحة المعالم والقصد بينها وبين قضاء فقير يفتقد الخدمات ولم يتحقق من احلامه الكثيرة اي شيء ، لنرى قدرية اخرى في التعامل بين المدن دون ان نأخذ بنظر الاعتبار الحجم والدور الحضاري لتلك المدن إذ لامجال للمقارنه بين اهمية وعمران ودور مدينة هائلة مثل أسطنبول ، وبين مدينة صغيرة تغفوا على اديم قرى القصب وقطعان الجواميس ومستنقعات المياه المالحة اسمها الجبايش ، والتي تجاهد بهذه الرئة الصغيرة لتدرج وجودها واسمها واهوارها ضمن لائحة التراث العالمي حتى تضمن لحياتها مسافة من الامل والحياة والتنمية والماء الصالح للشرب.
قياس المسافة بين المدينتين لاتقاس اليوم بنظور رواية ( بين مدينتين ) والتي كتبها قبل اكثر من قرنين الروائي الانكليزي ( شارل ديكنز ) ، لان الجبايش لاتمتلك القدرة حتى بفصيل من الجند لتذهب الى اسطنبول وترغم مؤتمرها المنعقد في 20 يوليو القادم وتجبر المجتمعين على التصويت لصالح درج اهوارها وكل اهوار المدن الجنوبية واثار أور والوركاء ضمن لائحة التراث العالمي ، ولكنها تملك افواجا من الناس الطيبين في شتى مدن العالم من يحولون نبض قلوبهم وتواقيعهم الى ورقة ضغط من اجل أن يهتم المجتمعون بهذا المكان ويعطوه ما كان يستحقه منذ أن تأسست منظمة اليونسكو .
تلك هي رؤى وروح ومعنى المسافة بين مدينتي أسطنبول والجبايش .
مسافة مقدرة بهاجس عطر المدن في تمايلها مع خصر راقصات أغاني أبراهيم طاطليس وأخرى ينتزع العطش من افواه اهلها صدى اجمل مواويل ( داخل حسن وناصر حكيم).
المدن التي تحمل خصوصيتها من خلال ما تحلم وتمنح وتعيش ، ولي أن اتخيل الآن في تلك العلاقة الهيلامية بين اسطنبول والجبايش فيما كان يتخيله الرحالة البندقي ( ماركو بولو ) في وصفه لأهمية المدن واحجامها والتي رأها في طريق رحلته من فلورنسا الى بلاط الخان المغولي ( قبلاي خان ) وهو يرد على اسئلة الامبراطور : كيف رأيت تلك المدن ؟
يرد الرحالة : المدن المتصحرة كئيبة وغرامها الرمل والخيام .والمدن المائية تبدأ رقصها وغرامها من طلوع الشمس وحتى غروبها بساعات.