أخذت عبارة المسئولية الاجتماعية للأفراد والمؤسسات تتردد على مسامعنا كثيرا في السنوات الاخيرة على السنة السياسيين وناشطوا المجتمع المدني وتطالعنا في الاعلام بكافة وسائله ولكن ملامح هذا المفهوم لم تتحدد او تتبلور صورته في اذهان مردديه او مستمعيه بشكل واضح .
فالترديد الاجوف للمفهوم دونما تفعيل او تطبيق حقيقي و ترك بصمات واضحة دليل على عدم نضوج المعرفة به ، ولكن تداول هذا المفهوم والمحاولات الهزيلة التي طبقت في هذا الجانب والنشاطات المبعثرة هنا وهناك بداية الطريق الصحيح لترسيخ هذا المفهوم لدى افراد المجتمع .
المسئولية الاجتماعية تعرفها العلوم الحديثة على انها مسئولية الفرد الذاتية عن الجماعة امام نفسه وأمام الجماعة وأمام الله وبمعنى اعمق هي الشعور بالواجب الاجتماعي والقدرة على تحمله والقيام به
وهي عبارة عن مبادرات ومشاريع بناءة وبرامج موظفة للوعي وممارسات في مجال خدمة المجتمع وتحسين صورته في الداخل والخارج وأنشطة وفعاليات تساهم في النهضة العامة للمجتمع وتساعد على تحقيق مطالب الحياة لأفراده بمعنى ان تقوم المؤسسات والمنظمات الحكومية والأهلية والمدنية ووسائل الاعلام بمسئوليتهم تجاه المجتمعات التي يزاولون فيها نشاطهم .
و وجدت من اجل تلبية احتياجات ومتطلبات افراد المجتمع بكافة افراده من اجل تحقيق التناغم والانسجام بين كافة شرائح المجتمع والمساهمة في وضع اليات الحل المناسبة للمشاكل التي يعاني منها الفرد والمجتمع
وهذا الموضوع ليس بجديد لو عدنا الى مبادئ ديننا الاسلامي والميثاق الاخلاقي الذي اراد ان يغرسه لدى اتباعه حينما جعل الاسلام الفرد مسئولا عن الجماعة ومطالب بحفظها وحمايتها ورعايتها ومؤكدا على ان المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا وان خير الناس انفعهم للناس والله في عون العبد مادام العبد في عون اخيه.
وقال عز من قائل:” ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ” ( سورة آل عمران 104)
وقال نبي الرحمة علية وعلى اله افضل الصلاة والسلام: ” كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على اهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه إلا فكلكم راع مسئول عن رعيته ” .
يتجلى من الاية الكريمة و الحديث النبوي الشريف ان كل انسان مسئول اجتماعيا و مطالب بالمشاركة الفعالة الايجابية في الانشطة المجتمعية كل في حدود امكاناته وقدراته في محاولة لتنمية الخواص الاجتماعية للشخصية وتنمية الاحساس بالآخرين ومسايرة المعايير والقيم الاجتماعية والتوحد مع الجماعة و تشجيع التعاطف والتراحم والتكافل والتواصل والتعامل مع الاخرين لتحقيق التوازن ما بين الحاجات الفردية وحاجات الجماعة .
كما تؤكد الدراسات والبحوث النفسية والاجتماعية على اهمية تحقيق توازن مستمر بين الفرد وبيئته الاجتماعية لإشباع الحاجات الشخصية والاجتماعية ، اذ ان صحة ما هو فردي هي صحة ما هو اجتماعي ، والذات الصحيحة هي اصل الاجتماعية الصحيحة ، والاتصال الصحيح بالذات هو اصل الاتصال الصحيح بالآخر ، والوعي الصحيح بالذات هو اصل الوعي الصحيح بالآخر ، والفردية السوية هي اصل الاجتماعية السوية .
ان المسئولية الاجتماعية هي احدى القنوات التي تدعم المصلحة العامة وعنصر اساسي مطلوب لتمتين روابط العلاقات الانسانية والاجتماعية وهي جزء من المسئولية بصفة عامة فالفرد مسئول عن نفسه وعن الجماعة والجماعة مسئولة عن نفسها وأهدافها وعن اعضائها كأفراد في جميع الامور .
وتتكون المسئولية الاجتماعية من عناصر مترابطة ينمي كل منها الاخر ويدعمه ويقويه ، وأول تلك العناصر الفهم حيث يجب ان يفهم الفرد او المنظمات والهيئات الجماعة التي ينتمون اليها و ان يفهموا ويقدروا الأهمية الاجتماعية لسلوكهم، ثم يأتي بعد ذلك عنصر المشاركة الفعالة في الانشطة المجتمعية كل في حدود امكانياته وقدراته وذلك لمساعدة الجماعة في تحقيق اهدافها ، والاهتمام هو ثالث هذه العناصر المترابطة والذي يتضمن الارتباط العاطفي بالجماعة والحرص على سلامتها و تماسكها وتكاملها واستمرارها وتقدمها وتحقيق اهدافها .
ان حل المشاكل الاجتماعية وتنمية المجتمع وتطويره مع المسئولية عن التغير الاجتماعي والخدمة الاجتماعية والخدمة العامة في المجتمع مسئولية جميع مؤسسات الوطن ومنظماته الحكومية منها والأهلية والمدنية ووسائل الاعلام وأفراد المجتمع بفئاته المختلفة .
حيث ان مسئولية المؤسسات لا تتوقف على توفير فرص العمل في اي مجتمع بل تترتب عليها ايضا مسئوليات مجتمعية وأخلاقية وبيئية ومن هذه المسئوليات على سبيل المثال لا الحصر الاستثمار في الناس وتنمية الموارد البشرية وتوفير بيئة عمل ملائمة واحترام حقوق الانسان والارتقاء بمستوى المعيشة وحماية البيئة والمشاركة الاجتماعية في العبادات والأعياد والمناسبات والواجبات الاجتماعية والحفاظ على الممتلكات العامة والمساهمة في ترسيخ الهوية الوطنية والمحافظة على خصوصية المجتمع ومساعدته على مواكبة التطورات الاقتصادية والتقنية الحاصلة في الدول المتقدمة وذلك لغرض ايجاد علاقات جيدة مع المجتمعات المحلية في المحيط الذي تزاول به تلك المؤسسات والمنظمات عملها وأداء لدورها الاجتماعي المطلوب .
ويتعين على المؤسسات ان تضع المسئولية الاجتماعية في صلب استراتيجياتها اذ ان المسئولية هي في المقام الاول رسالة صدق وخدمة انسانية تهدف الى تحسين حياة المجتمع من خلال تناول مشكلات معينة في بيئة معينة وإيجاد حلول عملية لها وان تأخذ على عاتقها مشروعات ونشاطات ومبادرات مختلفة لخدمة المجتمع بما تملكه من طاقات انسانية ومادية وان تتبنى برامج ترمي الى تعزيز المواطنة ورعاية الموهوبين والمتميزين واحترام كبار السن
واستثمار طاقات الشباب وتوظيف قدراتهم ومكافحة المخدرات و المساهمة في ايجاد حلول للمشاكل البيئية والاجتماعية والترابط الاسري والمشاكل التربوية كالتأخر الدراسي ورعاية الطلبة المتميزين ورعاية المعوقين وعلاج المشاكل العائلية والاجتماعية
صحيح ان الدولة مطالبة بتامين وتبني احتياجات المواطنين وإنما الامر لا يخلو من مساندة ومساهمة الافراد والمنظمات الأهلية والمدنية في عملية التنمية من خلال ابتكار المشاريع التنموية المتوائمة مع احتياجات المرحلة واخذ الادوار المطلوبة المؤثرة بالتصدي للكثير من القضايا والهموم المجتمعية العامة
ومثل هذا الدور للمؤسسات لا يلغي في حال من الاحوال دور الحكومة في تنمية المجتمع وإنما يعززه حيث يمكن للمؤسسات والمنظمات العاملة في الوطن ان تنسق انشطتها المجتمعية مع الوزارات لتغطية النواحي المجتمعية المغلقة او التي لم تستوفي حقها من الخدمة .
ان الموازنة بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع دليل على التوافق النفسي والصحة النفسية حيث ان علماء النفس عرفوا الشخص المتمتع بالصحة النفسية هو الشخص القادر على استخدام قدراته ومهاراته وخبراته في عمل ما يسعده ويسعد الناس فضلا عن قدرته على تحمل المسئولية نحو نفسه ونحو الاخرين حيث يعتمد على نفسه ويثق بها ويلجا الى الناس عند الضرورة ويساهم في تنمية مجتمعه ويستمتع بوجوده مع الناس ويشعر بحبهم له وبحبه لهم
فالإنسان يشعر بالأمن والطمأنينة عندما يحقق التوازن بين قوى نفسه الداخلية و مصالحه الفردية وبين مصالح الجماعة التي يعيش فيها وذلك باعتداله في تحصيل كل منها حيث ان مشاركة الفرد الفعالة في نشاط الجماعة تعد احد وسائل اشباع الحاجات النفسية والاجتماعية مما يساهم في تزكية النفس واعلاء المطالب وتنمية الصحة النفسية والسمو بتفكيره ويدفعه الى مزاولة الاعمال النبيلة .
فالصراع بين الفرد والمجتمع ليس صراعا حتميا كما يظن البعض لان الانسان عنده استعداد للخضوع والالتزام بقيم المجتمع التي تغذي شهواته وترتقي بنفسه وتسمو بسلوكياته .
وقد اثبتت الدراسات في علم سيكولوجية الجماهير بان الجمهور القادر على القتل والتدمير في ظروف معينة وحالات محددة هو نفسه الجمهور القادر على القيام بأفعال تتسم بالتضحية والنزاهة والبطولة في سبيل قضايا اجتماعية ووطنية ان وجد الفرصة السانحة للتهذيب وتوظيف الطاقات والقدرات وحينما يشعر بان هناك من يهتم به و يحترمه ويسعى لتحقيق مطالبه وطموحه وصون كرامته ويخطط من اجل تحقيق رفاهيته الاجتماعية.
فالمسئولية الاجتماعية مسالة اخلاقية تنمو بالممارسة والتفاعل مع الجماعة وثقافة تكتسب حينما يتوفر المناخ الملائم لنمو الضمير الاجتماعي ووجود ميسر لهذا النمو في اتجاهه الاجتماعي والأخلاقي المناسب عن طريق عمليات نفسية وتربوية واجتماعية ملائمة وتشجيع كل مظاهر السلوك التي تدل عليه و العمل على تنمية الخواص الاجتماعية بتنمية الاحساس بالآخرين والتدريب وإنماء الاهتمام والفهم والمشاركة الاجتماعية وهي عناصر المسئولية الاجتماعية كما اسلفنا بالقول مما يؤدي الى الشعور بالوحدة المصيرية وإيجاد روابط سيكلوجية اجتماعية متينة وهذا بداية الطريق الصحيح لتفجير طاقات الافراد والمؤسسات نحو بناء المجتمع والمساهمة في تطوره .
فما نراه من سيادة روح اللامبالاة والانا مالية والعزلة والانطواء والانسحاب والانفصال عن المجتمع وحتى التمرد والعنف والعدوان في سلوكيات افراد المجتمع ومؤسساته من مظاهر نقص المسئولية الاجتماعية والذي يمثل خطرا شديدا على المجتمع ويعتبر نوعا من التخلف النفسي وتعبيرا عن اغتراب الانسان عن مجتمعه .
و هنا تبرز اهمية وسائل الاعلام في توجيه المسئولية الاجتماعية للمؤسسات نحو اهداف مجتمعية واضحة ومساعدة هذه المؤسسات في تنفيذ استراتيجياتها بهذا الخصوص وتنمية الحس بالمسئولية لدى افراد المجتمع .
ففي الوقت الذي يملي الواجب على وسائل الاعلام رصد المخالفات التي قد ترتكبها بعض المؤسسات والشخصيات والكشف عنا فانه يملي عليها ايضا رصد المبادرات المجتمعية المتميزة التي تقوم بها مؤسسات اخرى وأفراد وطنيون وتعزيزها خارج اطار التغطية الاعلامية الروتينية ، فالمجتمع لا يخلو من جوانب مشرقة قد تكون فردية او مؤسسية تتطلب البحث والاستقصاء ومن ثم اظهارها لتكون نواة تجذب حولها التجارب المماثلة
يجب ان تحرص وسائل الاعلام على دعم الاتجاهات والمبادرات الانسانية وتعزيز المعتقدات الايجابية والقيم النبيلة وتقديم نماذج تحتذى للمسئولية الاجتماعية في احسن ظروفها لتوضيح اهمية المسئولية الاجتماعية والدور الذي تلعبه في تحقيق التعاون والتكافل الاجتماعي وتلبية الاحتياجات الاجتماعية من خلال رصد التجارب الناجحة وقصص النجاح وتسليط الضوء على من تركوا بصمات واضحة في العمل الاجتماعي والتطوعي في محاولة لتحقيق التغير الاجتماعي الذي يجب ان يقوم على فكر واضح وعلى حشد قوي وعلى تخطيط دقيق تتبناه المؤسسات الاعلامية والتربوية والاجتماعية والمنظمات الحكومية والأهلية والمدنية لنصل الى تكامل الادوار الاجتماعية الوظيفية منها والتفاعلية والمعيارية والذي يبنى على عملية التآزر بين الوظائف الحيوية والنفسية والاجتماعية في سبيل الابقاء على وحدة المجتمع وتحقيق اهدافه وتنظيم علاقاته الداخلية والخارجية ، فمخاطبة الجوانب الانسانية والتفاعل الانساني الذي يتجلى في التأثير المتبادل في المشاعر والاتجاهات والأفعال الذي يمارسه الافراد في علاقاتهم المتبادلة عوامل جذب و خطوة نحو تقوية النسيج الاجتماعي وإشاعة روح الالفة والمودة بين افراد المجتمع .
ان التساند والعمل المشترك والتناصر والتعاضد من اجل ان لا يهدر كرامة الانسان بسبب الضعف والحاجة واجب اخلاقي وإنساني ووطني ومتعة راقية
ومنفذ لرحمة الله كما يؤكدها عز من قائل في كتابه الحكيم :” والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمهم الله ان الله عزيز حكيم .” (سورة التوبة 71)
كما بين الرسول الاعظم مسئولية المجتمع عن كل فرد محتاج فيه في عبارة قوية في انذارها للفرد والمجتمع :” ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع الى جنبه “.