23 ديسمبر، 2024 6:20 ص

المسؤولان الأقربان للرئيس “عبدالسلام محمد عارف”

المسؤولان الأقربان للرئيس “عبدالسلام محمد عارف”

المرافق العسكري الأقدمكما أوردتُ في مقالات سابقة، فقد كان “العميد زاهد محمد صالح” يشغل هذا المنصب الرفيع… كان يبدو من أول نظرة نحوه أنه ضابط ممتاز، جدي في كل تصرفاته، لا يميل للمجاملات وتبادل الإبتسامات حتى مع رؤساء أرفع الدوائر في القصر الجمهوري، بمن فيهم “عبدالله مجيد” سكرتير عام ديوان الرئاسة الذي كان يعدّه أحد تلاميذه ما دام برتبة “رائد”.
كان منضبطاً في كل شيء، طويل القامة، رشيق البنية، ظهره محنيّ بعض الشي، أبيض اللون، ذو أنف ظاهر وسط وجهه المائل الى الطول… وعلى الرغم من شَيب ضئيل بانَ في شعر رأسه، فقد بدا لناظره متقدّماً بعض الشيء في العمر… كان مستمعاً جيداً، قليل الكلام حتى مع رئيس الجمهورية، معدوم المزاح، نشِط في عمله، أنيق في قيافته العسكرية، كثير المَشي مع “عبدالسلام عارف”، يُلازمه طول الوقت داخل القصر الجمهوري أو خارجه… يتحدث “اللهجة الموصلّية” مع الجميع، لا يجامل الضباط إلى حدّ القسوة، ولكنه كان عطوفاً بشكل ملحوظ أزاء الجنود إلى درجة الأبُـوّة… وقد عُرِفَ كونه من ضباط المشاة البارزين في الجيش العراقي متدرجاً في خدمته الطويلة حتى أمسى بمنصب “آمر مدرسة المشاة” في معسكر الوشاش ببغداد قبل أن يتسنـّم منصبه الأخير.
لم أَرَ هذا الرجل في أي يوم من العامين اللذين قضيتهما في الحرس الجمهوري مرتدياً ملابس مدنية، ولربما كان على ذلك بحكم منصبه، ولم تشأ الصدف أن أقف قبالته وجهاً لوجه رغم العديد من المكالمات الهاتفية المباشرة معه في دائرته أو مسكنه، سوى مرة واحدة وذلك لدى مثولي أمامه قبل مصرعه المؤسف بـ(6) أيام، وذلك لتسلّم توجيهاته المحددة وقتما كُلِّفتُ أن أقود فصيلاً مُرتَّباً لحماية مهابط طائرات الهليكوبتر الثلاث لدى زيارة الرئيس “عبدالسلام عارف” الأخيرة للبصرة (نيسان/أبريل/1966)،
كان زملاؤه وأصدقاؤه ممن يجلسون في غرفة التشريفات قـُبَيلَ حضورهم إلى مكتبه، أو حتى من بعد مصرعه، يصفونه بــ”إسْمٌ على مُسَمّىً”، كونه ((زاهداً)) في حياته ودنياه وأداء إلتزاماته بالدين الحنيف ومناسكه، كثير الصلاة والتعبّد، صائماً بشكل عام في كل أيام الإثنين والخميس طيلة أشهر السنة.
سكرتير عام ديوان رئاسة الجمهورية
كان “الرائد عبدالله مجيد” يشغل هذا المنصب الرفيع منذ أوائل عام (1964) حتى وافاه الأجل مساء (13/نيسان/1966)… كان قد تخرج في الكلية العسكرية بدورتها (29) برتبة “ملازم” في (حزيران/1953)، يبلغ من العمر (35) سنة، ضعيف البينة، متوسط القامة مائلاً الى القِصَر، أبيض اللون، دائم الإبتسامة، كثير المجاملات، قليل الكلام، يبدو على محيّاه الذكاء وبعض المكر… وقد علمت مؤخراً -من أحد قادتي في الجيش- أنه كان برتبة “ملازم أول” في (تموز1958) شاغلاً منصب “آمر مفرزة تصليح لدى مقر لواء المشاة/20” في “معسكر جلولاء” وقتما إشترك مع “العقيد الركن عبدالسلام عارف” في الإنقلاب الذي أطاح بالحكم الملكي قبل أن يرافقه -من دون منصب رسمي- في زياراته المتلاحقة لألوية (محافظات) العراق بعد نجاحه، فأضحى أحد مرافقيه العسكريين بعد (14رمضان/8شباط/فبراير1963) وشارك في حركة (18ت2/نوفمبر1963) قبل أن يعَيَّـنَه “عبدالسلام عارف” بهذا المنصب الحسّاس ذي المرتبة الرفيعة بمرسوم جمهوري خاص بدرجة (وزير)، فأُعتـُبِرَ -طوعاً- مُحالاً على التقاعد برتبة “رائد”… أما صنفه في الجيش فقد كان “الهندسة الآلية الكهربائية” (الصيانة) والذي أنهى دورتَها الأساسية لدى الجيش البريطاني عام (1956).
كان نشطاً في عمله، مستحوذاً بشخصيته وصلاحياته الواسعة على عموم الموظفين العاملين تحت إمرته في “المكتب الخاص” ودوائر سكرتاريته… يحضر إلى الدوام الرسمي في الموعد المحدّد، وينشغل دون أن يتمتع بأية إستراحة حتى إنقضاء ساعاته المقررة، بل طالما كان يتأخر حتى الثالثة أو الرابعة عصراً وبمعدل يومي، حتى في حالة مغادرة رئيس الجمهورية للقصر إلى مسكنه… فيما يصاحبه دائماً -بحكم مسؤولياته- في جميع زياراته خارج العراق ومحافظاته.
كان متواضعاً بعض الشيء، دائم الإبتسامة، أنيقاً جداً في مرتدياته وحريصاً على تناسق ألوانها وأربطة العنق، تنقله سيارته الرسمية من وإلى القصر الجمهوري لأغراض الدوام الرسمي وبعد إنتهائه… ولكنه كان يحضر للقصر مساء كل يوم -بما فيها الجُمَع والعطل الرسمية والأعياد- وهو يقود بنفسه سيارته الشخصية الصغيرة من طراز “أوبل-1964” آلمانية المنشأ -والتي لم يمتلك أفضل منها حتى وفاته.
وعلى العكس من المُرافق العسكري الأقدم، فقد كان نادر الخروج من دائرته للتجوال مع رئيس الجمهورية في حدائق القصر الجمهوري أو خارجه، ولربما كان
بريده اليومي الضخم وإلتزاماته الهاتفية تمنعانه من ذلك، وكان حرصه هذا قد جعله محطّ إحترام الرئيس “عبدالسلام عارف” بشكل خاص وجميع رؤساء الدوائر وموظفيهم.
وأكبر ظني أنه لم يكن متديّناً، ولم يكن يصلّي الاّ حين يضطرّ إلى ذلك -إعلامياً- وقتما يكون بصحبة رئيس الجمهورية.
كان أقرانه وزملاؤه من الضباط المستمرين في خدمة القوات المسلحة، وكذلك بعض كبار ضباط الجيش وقادته من الذين يجلسون في “غرفة التشريفات” قـُبَيل دخولهم إلى أروقة القصر لمقابلته هو أو لمواجهة المرافق العسكري الأقدم أو لزيارة أحد رؤساء دوائر الديوان، وكنت أستشعر من أحاديثهم المبطنة أنهم يحسدون “عبدالله مجيد” على هذا المنصب الذي كان قد تَبَوّأَه، ولكن العديد منهم كانوا -فور مواجهته- يتقرّبون إليه ويتزلّفون له ويطلقون أمامه عبارات المجاملة والتحبب والمديح… وقد سمعتُ عبارات عابرة صدرت من بعضهم تتّهمه بالترفّع والأنانية والنرجسية وحبّ الذات… إذْ بينما كان يشغل هذا المنصب الرفيع ويجلس في القصر الجمهوري وسط مكتب راقٍ قريباً من “رأس هرم الدولة”، ويهاتف كبار المسؤولين والقادة العسكريين قاطبة وينقل إليهم توجيهات رئيس الجمهورية وأوامره، ويلتقي مع ملوك وأمراء وزعماء ورؤساء جمهوريات ووزارات وشخصيات عربية وإسلامية وعالمية، فإن معظم زملائه الذين تخرّجوا معه في الكلية العسكرية كانوا برتبة “رائد” ولا تتعدى مناصبهم أكثر من آمر فوج أو كتيبة أو معمل تصليح أو سرية نقلية، وذلك إذا ما كان الحظّ حليفهم في تسنّم مثل هذه المناصب.
حدث ذات يوم حين كنتُ في زيارة مسائية لصديق عمري العزيز “الملازم عبد مُطلَك الجُبُوري” في غرفة التشريفات، أنْ دخلها “عبدالله مجيد” طالباً من كِلَينا مرافقته لحضور مجلس الفاتحة المقام على روح والد “المقدم الركن رشيد محسن” مدير الأمن العام، وذلك في جامع (14رمضان) قرب نصب الجندي المجهول… فقاد سيارته الشخصية بنفسه وقد أقعد “عبد مطلك” إلى جنبه، فيما جلستُ وسط المقعد الخلفي.
كان مجلس الفاتحة -بطبيعة الحال- مزدحماً بمئات المُواسين… رَحَّبَ به أولاد المتوفّى وأقرباؤه كثيراً، بينما حيّاه العشرات من الجلوس بعبارة “مَسّاكُم الله بالخير”، فيما تقرَّب إليه عشرات آخرون يصافحونه ويحضنونه ويقبّلونه بحرارة، ومن المؤكّد أن معظمهم لم يكونوا صادقين… وعند المغادرة كنا نسير خلفه مباشرة، إذْ صافح العديد من الوقوف حتى بلغ شخص “رشيد محسن” قرب باب القاعة ليصافحه ويقبّله
بحرارة… وبعد عبارات المؤاساة الدارجة والمتعارف عليها ترحُّماً على والده، أخرج ظرفاً رسمياً من جيب سترته الأنيقة، ليقول:-
ì يا أخ رشيد.. كلّفني السيد الرئيس أن أوصل إليك والأخوة الكرام مؤاساته لمصابكم الأليم ودعواته ليسكن فقيدكم فردوس جناته، كما بعث لك مهذا المبلغ المتواضع.
– شكراً لشخصك أخي العزيز على حضورك، مع جلّ إمتناننا وتقديرنا للسيد الرئيس، أدامه الله وحفظه وأمدّ في عمره… ولكن لماذا المبلغ؟
ì لمشاركتكم في تغطية مصاريف الفاتحة.
– نحن -يا أخ عبدالله- لسنا بحاجة لمثل هذه الأمور، وأنتَ أعلم بذلك.
ì ولكنه عُرْفٌ سائد.
– حسناً… ولكن سؤالي فقط هل المبلغ من عند السيد الرئيس ومن ماله الخاص؟
ì كلا، الحقيقة أنه من “نثرية القصر”.
– ولهذا السبب لا أتقبّله… سلامي مع تحياتي وجلّ إحتراماتي أرجو إيصالها للسيد الرئيس… وقـُلْ له متى ما أمست لديه القدرة على إكرامنا من ماله الخاص، فإننا سنتقبّله ممتنّين.
ì ولكن، يا رشيد، لا يجوز أن تردّه، فذلك شيء معيب، وأنت سيد العارفين في مثل هذه الأمور.
– كلا، وقسماً بالله العظيم.. وأرجو أن تعتبر هذا الموضوع قد إنتهى.
أعاد “عبدالله مجيد” الظرف المغلَّف ذي اللون الأسمر إلى جيبه خائباً، وخرجنا بصحبته من ذلك الجامع الفخم وهو ممتعض من ذلك التصرّف، فيما ظلّ يردّد طوال الطريق بعض عبارات الغضب وعدم الرضا… ولم نستطع -نحن الإثنان المرافقان له- تقدير إنْ كان موقف “المقدم الركن رشيد محسن” نابعاً عن حرصه على أموال الدولة، أم من التعكّر غير الظاهر مع شخص رئيس الجمهورية في حينه، حتى إشترك مع “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” في محاولة فاشلة لقلب نظام حكم “عبدالسلام عارف” في أواسط (أيلول1965) والتي سردتُ تفاصيلها وملابساتها وأسباب إخفاقها وسط دراسة مطولة من (100) صفحة نشرها “موقع كتابات” خلال شهر (ت2/نوفمبر/2015).