بعد أربعة عشر عاماً من إطلاق الحريات، وبناء المؤسسات الدستورية، وتدشين النظام البرلماني في العراق، لا بد من بدء مرحلة استخلاص النتائج، واعتماد مراجعة واسعة للإخفاقات والانتكاسات والفشل. فبدون ذلك لا يمكن الحديث عن إصلاح محتمل في البنية الاجتماعية.
وإذا كان من غير المستغرب أن يقع السياسيون وموظفو الإدارة العامة ضحية نهمهم في السلطة. لأن مثل هذا السلوك فعل غريزي بالدرجة الأولى، فإن من المعيب أن تكون هذه الغريزة مطلقة السراح إلى الحد الذي تتحول فيه إلى كارثة حقيقية، تتجاوزه إلى القواعد الشعبية، التي انبثقت منها السلطة. وبما أن الوعي المجتمعي هو الذي يقوم باستئصال النزعات الهدامة لدى أجهزة الدولة، فإن الحديث عن تدارك الخلل يصبح عندها محل نظر.
والواقع أنه لا بد في مثل هذه الحال من إجراء تغيير شامل، يمس صلب النظرية السياسية، ويعيد ترتيب منطلقاتها الفكرية. ليس بإلغاء الكيانات الحزبية والطائفية والعرقية، لأنها مؤسسات راسخة الجذور. ولكن بترتيب البنية الاجتماعية على أسس جديدة، تأخذ بنظر الاعتبار الموارد الطبيعية والثروات البشرية.
ومن أجل البدء في هذه المرحلة هناك مساران يمكن على أساسهما تغيير القناعات الشعبية. أولهما تشجيع الرأسمال الوطني.
وثانيهما إعادة الحياة للقطاع العام.
وربما يبدو لأول وهلة أن هناك تناقضاً بين المسارين يجعل كلاً منهما ضداً نوعياً للآخر. ولكن الحقيقة أن الجمع بين نظامي المبادرة الفردية والتخطيط المركزي لا تعارض فيه. فلكل منهما مجاله الحيوي الذي يؤدي فيه دوره المرسوم.
وبسبب وجود شركات قطاع عام في العراق تضم مئات الألوف من الموظفين، فإنه لا بد من حصر بعض الصناعات الستراتيجية مثل النفط والغاز والبتروكيمياويات والحديد والصلب والكهرباء في أيدي الدولة. ولا يتطلب الأمر سوى ضخ جزء من الواردات النفطية إلى هذه الشركات وتخليصها من الإدارات المتخلفة التي تعيق تطوير أي منها.
غير أن المسار الثاني وهو الأهم، يتلخص بدعم الرأسمال الوطني عبر سلسلة من القوانين الحاسمة والتسهيلات المصرفية، والمبادرات الملهمة، ليتولى بناء صناعة خفيفة تسد الحاجة المحلية وتوقف هدر العملات الأجنبية. وتقوم الأجهزة الحكومية بحمايتها من تعديات العشائر والمنافسة الأجنبية وتجاوزات الموظفين الحكوميين. وبعد أن تصل إلى مرحلة النضج يمكن التفكير في إيجاد أسواق خارجية مناسبة في دول الجوار.
ولا شك أن نشوء مثل هذه الطبقة سيؤدي إلى بروز تحديات جديدة، تتمثل بالهيمنة على مراكز القرار في الدولة، وإخضاع مفاصلها لسلطة أفراد أو عوائل أو شركات خاصة، مثلما حدث في بلدان عديدة خضعت لذات التجربة. ولكن الواقع أن مثل هذا الفعل هو بداية التغيير المنشود في البلاد. فالشركات الكبرى التي تقود التنمية ستكون قادرة على خلق قيم إنتاجية جديدة، باتت مفقودة تماماً في بلد اسمه العراق.
إن الإنتاج الصناعي والزراعي الغزير هو الذي سيؤدي إلى تحويل المجتمع من قبائل وكيانات وتجمعات غير طوعية إلى أفراد ونقابات وبيوت مال وجماعات مدنية ترتبط في ما بينها برابطة أساسية هي العمل.
ومثلما ستختفي بالتدريج طوابير العاطلين عن العمل والباحثين عن الوظائف، فإن وجود حراك اقتصادي من هذا النوع ستكون له مردودات ثقافية أيضاً. إذ أن تحقيق قدر من المساواة في الفرص سيزيل العديد من الفوارق الاجتماعية بين الطوائف والجماعات العرقية واللغوية. وسيبدد الكثير من انعدام الثقة والشكوك بين بعضها البعض. أي أنه سيقوم بتوحيدها ثقافياً ووطنياً.
ومن المتوقع بسيادة قيم الإنتاج هذه أن تتراجع مؤشرات التطرف الديني والعرقي والسياسي، ويسود قدر من الواقعية والذرائعية لدى السواد الأعظم من الناس.
إن سيطرة مؤقتة لرأسمال وطني هي أفضل وأرحم من سيطرة جماعات حزبية وطائفية تتصارع في ما بينها على المغانم والمال العام، دون أن تضع في اعتبارها أموراً أساسية مثل الوحدة الوطنية والتنمية والاكتفاء الذاتي. وتمعن في استهلاك الموارد الناضبة دون أدنى تفكير في المستقبل.