هناك من الاصوات ماتنبهر بها وتحبها لفترة ثم تمل منها او تنساها او تتحول الى غيرها ممن يستجد في ساحة التلاوة القرآنية الفسيحة ،
ولكن مثل صوتيهما -تالفه الاذن ويتعلق به الوجدان ويتحول الى حالة ادمان لا غنى عنها- لن تجد ،، انهما
الشيخ المنشاوي والحافظ خليل (رحمهما الله)
كان الحافظ خليل يسخر مقاماته للتجويد ويطوع قراءة آيات الله لنغم المقام دون تغني وكما هي عادة مدرسة العراق، وكان المنشاوي يشاركه هذه الميزة المهمة مفترقا عن عموم قراء مصر الأعلى كعبا بين اقرانهم من العرب والمسلمين.
فالمنشاوي ملك كل القلوب بمقام واحد ولم يعجز عن بقية المقامات ولا هجر القراءة عليها ، والحافظ ملك القلب بكل المقامات ولم يشتهر باحداها.
كل من سميعتهما يخشعون ، فلاحدهما باكين مطرقين ، وللاخر منبهرين مرجعين. فهما يصبان من روحيهما اسوة بصوتيهما على آيات الله المعجزات فينفذان الى الروح قبل الآذان .
ومما يختلفان فيه رغم علو المكانة اللتان يحتلانها بين اترابهما ان الشيخ المنشاوي لايمثل كل قراء مصر لان قراء مصر متنوعون وكثيرون واساليب قراءاتهم تكاد تكون مختلفة ومنفردة احدهم عن الاخر ، ولديهم مدارس عديدة في القراءة اذ انهم الاضخم بين بلدان العرب والمسلمين على الارجح في “جانب التجويد بطبيعة الحال” وليس الترتيل الذي يتربع على قمته قراء بلاد الحرمين دون منافس ودون شك .
ولكن الحافظ خليل يمثل كل قراء العراق ، فالطريقة العراقية (البغدادية وأخواتها) التي تعتمد الحزن والشجن والاصوات الواسعة العميقة المتهدجة التي تميل طبعا دون اصطناع الى العمق هي واحدة تقريبا بعمومها وان تفرق قراؤها اسلوبا، بينما-وهنا نقطة تجدر الاشارة اليها- ف قراء مصر يغلب عليهم الاصوات الارفع طبقة وهذا اعطاهم ميزة اخرى وهي التباري بطول النفس للمقطع الواحد من القراءة الذي قد يمتد الى ثلاث آيات كريمات قصيرات او اكثر واحيانا من الايات الكريمة الطوال .وهذا يندر عند قراء العراق او يكاد ينعدم ،
ويفرق المنشاوي عن اقرانه من قراء بلده باعتماد صوته كثيرا على جانب النغمة الرجولية الباكية المصاحبة للتجويد المصري العريق المميز ، وهنا يلتقي مع قراء العراق ، ولذا تجد اغلب العرب الذين يسمعون المنشاوي لديهم ردة فعل ايجابية عند سماع قراء العراق مصادفة وبالخصوص الشيخ الحافظ خليل اسماعيل رحمه الله ، والعكس صحيح في مايخص جمهور العراقيين المولعين بالحافظ خليل اذا ارادوا الانتقال الى سماع القراءات المصرية فسيقعون على الشيخ المنشاوي-تغمده الله برحمته- كأول اختيار.
وهذا بعيدا عن التصنيف العلمي لصوتيهما ان كان من (ألتو) وهو أعلى الأصوات الرجالية النادر ، او (التينور) وهو الصوت الرجالي العالي ،فلعل كليهما من (الباريتون) وهو صوت في الوسط بين التينور (والباص) الذي هو الصوت الغليظ القادر على أداء الطبقات الموسيقية المنخفضة. فهذا عمل اهل الاختصاص.
•صوتان عربيان من السماء
والمنشاوي والحافظ خليل يتشابهان كثيرا في نقطة اختلافهما . الحافظ يقرا كل المقامات ويجود عليها والعراقية منها على وجه الخصوص وتخشع بها معه ، والشيخ المنشاوي يقرأ بعض المقامات ويبرع فيها دون شك ولكنه تخصص وتفوق في “النهاوند” ويكاد يخطف قلبك عند قراءة آي الكتاب الكريم عليه،
ويلتقيان في هدوء الطباع والعفوية الصوتية والتجويدية فلا ضغط على الاوتار ولا كتم للنفس ولامبالغة في التطويل انما هي قراءة منسابة يبرز حلاوتها الصوت المجرد كانه مزمار لاياخذ انغامه الا من نفخة هواء.
والمنشاوي هو القارئ الوحيد الذي انتقلت إليه الإذاعة المصرية في أعماق الصعيد بكامل معداتها وطواقمها ومهندسيها -كما يروى- لكي تطلب منه الانضمام إليها، وذلك بعد أن رفض أن يذهب للاختبار حتى يتم اعتماده قارئا رسمياً قائلا : “لست بحاجة إلى شهرة الإذاعة”
فما كان جواب خبراء الإذاعة إلا أن قالوا: إنّ هذا الرجل من العيب أن يُختبر ومن التقصير ألاّ يصير أحد قُرّاء الإذاعة المصرية حتى ولو ذهبت الإذاعة بنفسها إليه. الصوت الباكي الخاشع الذي سخر عمره القصير لخدمة القران العظيم الذي اتم حفظه وهو صبي على يد والده المقرئ وجده المقرئ ايضا ، وقد سجل الشيخ المنشاوي ختمة كاملة للقرآن العظيم بصوته اعتمدت كنسخة تعليمية لدقتها وصفائها ،
وكذلك الحافظ خليل –كما يروي هو بلسانه- القاريء الوحيد الذي كان يقرأ وهو شاب امام القراء المصريين الكبار الذين كانوا يتوافدون على بغداد كثيرا آنذاك وقد حفظت اهم تسجيلاتهم في الاذاعة العراقية الرسمية مثل الشعشاعي وعبد الباسط وابو العينين الشعيشع الذين عاصر كهولتهم المؤثرة في عالم النغم القرآني حتى روى شهود عيان انهم احبوه كثيرا وانه بعد قراءة الحافظ للختمة العراقية الشهيرة الخاصة قال له الشيخ عبد الفتاح : “هذه القراءة بركة ياشيخ خليل ، بالله عليك سجلها لي” ، و قال المصريون عند سؤالهم عن رايهم في الحافظ و قراء العراق ، “و الله لقد اعتديتم عليهم باستدعائنا فليتنا نقرا مثلهم” .
يقول الحنفي عن ذلك اللقاء : “وقرا الحافظ خليل ساعة كان كل دقيقتين منها بنغم”. وقد دخل الاذاعة الرسمية شابا مفتتحا بسورة غافر على الهواء فثبت فيها منذ ذلك الحين وطارت شهرته.
والحافظ خليل الذي سماه استاذ المقام محمد القبانچي “بستان الانغام” العراقية الاصيلة هو الذي ادخل جميع الانغام العراقية للتجويد ، ويذكر انه الوحيد والى الآن الذي يتمكن من أداء نغم او مقام “الزنكران” من بين القراء.
وتواضع القراء العراقيين الكبار امثال الحاج علاء الدين القيسي والحافظ صلاح الدين والحاج محمود عبد الوهاب كان مذهلا امام الحافظ خليل رغم انهم قراء مهمون فقد كانوا يدينون له بالتقدم والتمكن من تلك الصنعة المباركة.
ومن شدة مااعتاد ان ينود بظهره في التجويد تراه يفعل ذلك حتى في كلامه المرسل ، وفي اثناء اللقاء المباشر و الطلبات الارتجالية تجد معنى الاستسرسال على اصوله و العفوية و السيطرة الحقيقية، فقد كان رجلا عجيبا حقا ، كلما طلب منه المقدم نغما او مقاما بالاسم خرجه و اصله بتحريره و جلسته ثم اداه بمثل من آلقرآن الكريم الذي حفظه وهو في السادسة عشرة من عمره.
ولطالما قادتني اقدامي وأنا طالب عبورا من جامعتي في باب المعظم قاطعا جسر الطب لاسمعه واراه واسلم عليه مع ثلة من اصحابي في جامع الشيخ صندل في جانب الكرخ من بغداد و الذي انتقل اليه بعد جامع الشيخ عمر السهروردي في جانب الرصافة.
كانت قراءة الشيخين المنشاوي والحافظ خليل تصويرية او تمثيلية لمعاني الآيات تؤثر في السامعين فكان الحافظ يفصلها ان كانت تهديدا او وعيدا قراها بمقام خاص ونغمة وعيد ، وان كانت عن قصة حزن اختار لها مقاما ونغما حزينا ، وهكذا للاستغراب والتعجب والاستنكار في آيات الذكر الحكيم المعجز ، فقد كان يجاري بصوته حدث الآية او هدفها ، وكذلك اشتهر الشيخ المنشاوي بكل هذا وبرع فيه ايضا رغم تقيده بمقام واحد في القراءة الواحدة او مقامين لاغير ، وهذا ينبئك عن مدى تمكن المنشاوي من تسخير صوته نغميا ليبرز كل هذا التصوير ويؤثر في سامعيه من مقام واحد بينما هيأت المقامات العراقية وتنوعها واتقانها والتنقل بينها فرصة اسهل للحافظ رحمه الله في أن يؤدي ذلك بيسر.
والسبب في ذلك قوله : انني عندما اقرا القرآن الكريم اجعل امامي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن باصواتكم فان الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا) ،
وربما يكون الحافظ خليل القارئ الوحيد الذي يقطع النغمة لصالح تتبع احكام التلاوة وقفا أو وصلا ، فهو لم يترخص من تلك الاحكام لصالح النغمة وانتهائها بما يشتهيه القارئ ناشدا التأثير النغمي على الجمهور ،بل يقطع عند وجوب القطع ثم يستأنف بنفس جديد والغريب ان هذا لم يؤثر يوما على جمال نغمته وحسن تحريرها على عكس ما لو فعل ذلك قارئ آخر لكان فقد احدى الميزتين . اللتين استطاع الشيخ المنشاوي والحافظ خليل الجمع بينهما ببراعة وخشوع بينين ندعو الله ان يجمع لهما الغفران والجنة بحوله وفضله وكرمه ، ذاك انهم يعتبران المتلقي منصتا وليس مستمعا .
رحم الله الشيخ محمد صديق تايب المنشاوي والحافظ خليل اسماعيل عمر الجبوري ،، فكأنهما قارئان من الجنة.