المزاد الانتخابي في العراق

المزاد الانتخابي في العراق

بات من الواضح للقاصي والداني وللمختص ولعامة الناس أن اللعبة الديمقراطية اليوم أصبحت عملية مُسيطر عليها من قبل المال، وسواء أكان الأمر في دولنا التي يصفها الغرب بـ”المتخلفة” أو دول عالم الشمال التي نصفها نحن بـ”المتقدمة” فإن العملية الديمقراطية وفي وسيلتها الأهم “الانتخابات” محكومة باعتبارات المال والإنفاق والحملات الدعائية التي تستهدف الناخب.

ونحن هنا لا نقصد حملات الابتزاز أو شراء الأصوات التي نشهدها في دولنا حديثة العهد بالمسار الديمقراطي، وإنما نشير إلى العملية الانتخابية -السليمة- التي تتطلب نفقات لإدارة الحملات الانتخابية والعملية الدعائية وغيرها والتي ترتفع كلفها بشكل كبير في دول عالم الشمال ذات الإرث الديمقراطي.

وبالعودة للعراق فإن هذا الواقع بات واضحاً ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزه، فالمسار الانتخابي في العراق محكوم اليوم بالإمكانيات المادية للكيانات السياسية وما تمتلكه من موارد قادرة على تغطية النفقات المتعاظمة للعملية الانتخابية.

فالحملات الدعائية ونفقات المؤتمرات والتجمعات الانتخابية وارتفاع كلف الإعلانات بكل أشكالها وأصنافها مرئي ومسموع ومقروء أوجدت هذا الواقع، كما أن اضطراب الوضع في العراق وما يعانيه المشهد العراقي من ارتباك وعدم استقرار خلق بيئة غير سليمة على المستوى السياسي قوامها عمليات الابتزاز وشراء الأصوات وغيرها من الممارسات السياسية غير السليمة.

كل ذلك أنتج واقعاً سياسياً محكوماً بالاعتبارات المادية للعملية الانتخابية في العراق.

وبعيداً عن الخطاب المرسل وبلغة الأرقام يكشف أحد زعماء الكتل السياسية عن الكلفة التقديرية للمقعد النيابي في مجلس النواب العراقي والتي قد تصل إلى (مليار ونصف المليار دينار عراقي) بما يعادل المليون دولار تقريباً.

هذه الكلفة تشمل عملية الدعاية الانتخابية بكل تفاصيلها من إعلانات وتجمعات انتخابية وتأجير مقار وغيرها.

لكن هذا الرقم ارتفع بشكل كبير، إذ يشير السياسي العراقي يزن مشعان إلى أن الكلفة التقديرية للمقعد النيابي اليوم باتت تصل إلى (خمس مليارات دينار عراقي) أي ما يعادل (الثلاثة ملايين دولار) على أقل تقدير.

ووفق هذه المعلومة فإن الكتل السياسية الطامحة للحصول على (20) مقعد نيابي قد تحتاج لإنفاق أكثر من (50 مليون دولار) وهذا رقم كبير جداً لن يكون لكيان سياسي بسيط أو متواضع القدرة على امتلاكه فضلاً عن إنفاقه. وهذه الكلف التقديرية بطبيعة الحال تتباين من منطقة لأخرى، فهي تزداد في المناطق ذات التنافس الانتخابي العالي كالمناطق المشتركة ديموغرافياً وتضم تنوعاً في الطوائف والأعراق، وتنخفض في المناطق ذات الأصوات المحسومة لهذه الكتلة أو تلك.

وبالعودة إلى لغة الأرقام فإن ما نتكلم عنه اليوم يشير إلى مسألة خطيرة جداً، ألا وهي انحسار عملية التنافس الانتخابي بين الكتل السياسية ذات الإمكانيات المادية الكبيرة القادرة على إدارة العملية الانتخابية وتحمّل كلفها العالية، وللتثبّت من هذه المعلومة فلك أن تراجع سجل المرشحين الأقوى حظاً على المستوى السياسي اليوم ليثبت لك ما قلناه أعلاه، ولتكتشف أن جلّهم إن لم يكن جميعهم ينتمي لكيان سياسي كبير سواء أكان شيعياً أم سنيّاً عربياً أم كرديّاً.

بالتالي فنحن أمام مشهد سياسي لن يمكن تغييره بسهولة في المدى المنظور.

وفي مقابل هذه الحقيقة فإننا لابد أن نذكر معلومة مهمة مرتبطة بما سبق، ألا وهي نسبة المشاركة في الانتخابات من قبل الناخبين. إذ تشير التقديرات -غير الرسمية- إلى أن الانتخابات في العراق وخلال الدورتين السابقتين لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها الـ(18%) وهذه نسبة خطيرة جداً إذ تثبت عزلة المنظومة السياسية القائمة عن جمهور الناخبين، وللتصحيح فليس من المطلوب مشاركة الناخبين بنسبة (90%)، إلاّ أنه وفي ذات الوقت فإن تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات تعطي تصوراً مخيفاً للواقع.

وبناءً على ما سبق، فإنه هناك فرصة وإن كانت ضئيلة إلاّ أنها تبقى قائمة للتأثير على مسار العملية الانتخابية، وذلك عبر استثمار جمهور المقاطعين للانتخابات ومحاولة البحث عن سبل كسرهم لخيار المقاطعة وحثّهم على المشاركة الفاعلة في العملية الانتخابية القادمة، واعتقد أن سبل ذلك أيسر وأسهل من محاولة مزاحمة الكتل الكبيرة واللعب في ساحتها.

وما يميّز شريحة المقاطعين للعملية الانتخابية أن جلّها من الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم الـ(25) وفق تقديرات المختصيّن، ويبدو أن الخطاب الانتخابي للكتل الكبيرة غير قادر على مجاراة عقول الشباب من أبناء هذه الشريحة العمرية فضلاً عن كسب أصواتهم.

عليه، فإن مزاد الانتخابات العراقية لم يغلق ولازالت هناك فرصة للكيانات الصغيرة إن أرادت الدخول الحقيقي في هذا المضمار لا الاكتفاء بشرف المشاركة وحسب.