مأزق العراق والعراقيين كارثة ذات رأسين ووجهين , اولهما الفساد وثانيهما الأرهاب , كلاهما لا ينتميان الى دين وقومية وطائفة ومذهب اوعشيرة , انهما يمثلان خراب اخلاقي اجتماعي وتعفن ثم تخلف عقلي وضميري , يتعرض له شخص او مجموعة او حزب , تنتظم في كيانات او صيغ مؤسساتية تخترق الدولة والمجتمع , تحتمي بهما وتمارس فعلها المنظم, لا يوجد بين الملايين من العراقيين من شمال الوطن حتى جنوبه مرورا بشرقه وغربه ووسطه ان يتقبل التعامل معها الا اذا كان مضطراً لأسباب خوفه على حياته وكيانه العائلي او بدوافع القلق ازاء فقدان الذات ( الخصوصية ) التي تشكل هيكليته التاريخية معنوياً وروحياً .
المواجهات الراهنة بين القوات المسلحة وزمر الأرهاب والأنتصارات النوعية التي حققتها الأجهزة الأمنية , والهزائم التي الحقت بالأرهابيين وحواضنهم , حظت بأستحسان وتأييد العراقيين دون استثناء , لكن هناك قلق مشروع لا يمكن تجاهله , هو الا تصبح تلك الأنجازات هوة اضافية تفصل بين مكونات المجتمع العراقي او تزرع جراحاً جديدة في تربة الطائفية , التي جعل منها الطائفيون كأسفنجة يابسة لأستقبال المتعفن من مجاري التطرف .
لو اخذنا عملية اعتقال الطائفي احمد العلواني مثالاً, وهو يستحق اكثر مما حصل له وتسائلنا : كم علواني ينعم بالجاه والمكاسب في الجانب الآخر لعملة الطائفية ؟ .
لم يكن في الأمر ثمة فرية او تغريد خارج السرب , انما هو واقع تنطق به السنة المسؤولين اتهامات متبادلة صريحة وموثقة, ليس على صعيد الفساد وحده, بل على اصعدة الجرائم الأرهابية التي ارتكبتها وترتكبها مليشيات وجيوش وتيارات نصف نائمة , تتوعد حريات الناس وكرامتهم وامنهم ومعتقداتهم بأبشع الأحتمالات , وان لم يحصل هذا , فلماذا كانت صولة الفرسان في الجنوب العراقي ؟؟ , والى جانب الأرهاب التقليدي هناك ارهاب للعقل وتصفية حسابات مع الوعي , ان محاصرة المثقف الوطني والأكاديمي النزيه والكفوء واغتصاب حقوقه ومطاردته في رزقه او تصفيته جسدياً, تلك الجرائم التي يمارسها المسؤول المتخلف ومليشياته, هي في حد ذاتها ممارسات ارهابية, اما تجنيد مرتزقة الثقافة وارشاء بعض الكتبة وترخيصهم مادة اعلامية, هي الآخرى عمليات قتل معنوي وروحي واخلاقي واجتماعي لـهم متهمة بأرتكابها رموز المكرمات .
مشكلة العراق والعراقيين, كارثة ذات رأسين, هما الفساد والأرهاب , ترتكزان راهناً على قاعدتين, حكومة فاسدة وارهاب دموي مأجور, كلاهما حاضنة للآخر ومخترق له , يتجنبا الحسم بينما , وحتى لا تخرج المواجهات الراهنة مع الأرهاب عن اطارها الوطني, وتصبح غطاء سياسي لجرائم فساد ترتكبها مؤسسات الدولة ورموز الكسب السريع , على المكونات العراقية , الا تطمأن لما يحدث , او تذهب بعيداً خلف عواطفها ونشوة انفعالاتها وهي ترى رموز الوجه الآخر لعملة التطرف الطائفي تزايد على تصدر الحملة , في وقت تحتذي فيه مصير ضحاياها فساداً من خارج دائرة المواجهات , او تدوينها مكاسب انتخابية في سجلات التضليل والتجهيل والأستغفال عبر اللعب على حبال المرحلة, فالذي لا يبدأ من مواجهة نفسه وحزبة وتحالفاته ومشروعه الطائفي , يبقى موضع شك وريبة المواطن .
اذا كان النظام البعثي ــ كما اشرنا مراراً ــ يتعامل مع قيمة الأنسان العراقي , على انها لا تعادل قيمة الرصاصات التي تستقر في جسده , فرموز النظام الراهن, ترى دمـه ارخص من صوته الأنتخابي , الذي تتنافس على سرقته , وعلى بنات وابناء العراق الا ينخدعوا اكثر مما هم عليه الآن , فمن الأرهاب يستعيدون امنهم ومن حكومة الفساد ثرواتهم , عليهم وهم ذاهبون بأتجاه صناديق الأقتراع الا يكونوا مدفوعين بعواطف مصنعة طائفياً, وانما بوعي وارادة الألتزام بالثوابت الوطنية .
حكمة شعبية تلخص لنا الحالة العراقية الراهنة تقول : ” اطراف الكتل السياسية الرئيسية الثلاث … اذا اتفقوا تقاسمونا واذا اختلفوا قتلونا .. ” تلك الحكمة تؤكد كون الأرهاب الحقيقي هو ليس تفجير هنا واخر هناك وسقوط ضحايا , تقوم بـه القاعدة او داعش المستبعثة , هكذا ارهاب يمكن معالجته بمواجهات عسكرية وختراقات استخباراتية مع غطاء شعبي , ان الأرهاب الأكثر خطراً والأشد تدميراً هو الفساد الأداري والمالي والعلمي والثقافي المتفجر الآن في صميم الدولة والمجتمع والذي ستتواصل اثاره وتمتد الى عقود قد تطول , خراباً مفجعاً لوحدة مكونات المجتمع وتمزيقاً كارثي لهوية المواطنة وخرق مذل للسيادة وتدهور للمنظومة القيمية والأخلاقية والروحية والمورثات المجيدة للعادات والتقاليد والثوابت الوطنية التي استورثها العراقيون عبر تاريخهم , تلك الأنهيارات قد تستغرق معالجتها واعادة اعمار الأنسان اجيال غير قليلة , وامامنا التشويهات الخطيرة التي تركها النظام البعثي والأخرى الأكثر خطراً التي اضافها ورسخ سابقاتها مثلث الفساد للعملية السياسية , هكذا كارثة اجتماعية لا يمكن معالجتها بفرقة ذهبية وفيالق فضية , انها هجين فساد وارهاب اصبحت ومنذ تسعة اعوام مشروع وبرامج لأطراف حكومة الشراكة التي ابتلعت العملية السياسية بكاملها , ومعها الوطن وحاضر ومستقبل الناس .
نتمنى في وطن جعلوا منه سباخ لا تنمو في تربته الأمنيات , في ان يكون ثمن تضحيات جيشنا واهلنا في الأنبار , نصراً وطنياً على اصعدة السيادة والوحدة الوطنية , لا ان تبتلعها كالعادة , اكياس المكاسب الأنتخابية , كما نتمنى الا يتغول جيشنا الباسل على اهلـه .