23 ديسمبر، 2024 11:39 ص

المرجع اليعقوبي يصف العلاج للازمة العراقية

المرجع اليعقوبي يصف العلاج للازمة العراقية

يشهد العراق احداثا خطيرة وحساسة في الوقت نفسه، سيطرة تنظيم (داعش) على الموصل وبعض المناطق المجاورة لها، باتت تتصدر اهتمام العالم اجمع، وهي حديث الساعة في العراق. وقد ابدت دول كبرى اهتمامها بهذه الاحداث لما لها من تداعيات خطيرة على المنطقة برمتها. كما لم تكن اجهزة المخابرات بعيدة عن دراسة الاوضاع الراهنة في العراق، فهناك مصالح اقتصادية وسياسية وامنية لدول ممكن ان تتأثر، كما لا يستبعد دخولها في ايجادها وتغذيتها، وهناك دول تبحث عن فرض نفوذها وسيطرتها على الساحة لضمان سياسة قوية في المنطقة، فهي على طول سنين عدة تتخذ من العراق عامل ضاغط لتمرير وفرض سياستها على الاخرين. فالعراق للاسف اصبح مسرحا لصراعات وارادات قوى تتصارع لتنفيذ اجنداتها الخاصة والخاسر بينها الشعب العراقي، ومن المؤسف ان هذه التصارعات تنفذ بأيادٍ عراقية. ولا ترضى ايا من هذه القوى المتصارعة نقل الصراع الى اراضيها، فبلدانهم تعيش بمأمن من كل ما يدور في العراق، انما حصتهم المكاسب والعيش المترف. تنظيم ما يسمى (داعش) تنظيم خلق مؤخرا في المنطقة وتحديدا في سوريا والعراق لايجاد التوازن فيها، فهذا التنظيم مدعوم من قوى كبرى لتتاح لها الفرصة بالضغط على من شاءت، وفي اي وقت شاءت وايجاد الذرائع لخلق الازمات في المنطقة. فالصراعات العالمية اصبح مركزها العراق لما له من اثر في الشرق الاوسط وفي التوازنات العالمية. وهذا التنظيم يختلف عن القاعدة وغيره من التنظيمات الاصولية المتطرفة.
ولاخراج العراق من مأزقه وازمته الراهنة لا بد من فهم لما يدور على الساحة العالمية والتأثيرات التي دفعت هذا التنظيم (داعش) للانتقال بثقله للعمل في العراق، ومن السذاجة الانسياق وراء الاحداث دون اخذ الابعاد الحقيقية لها.
السؤال المهم الذي يواجه كل عراقي عند الازمات والمحن، من القادر على ايجاد الحلول الناجعة لتجنب الاحداث المأساوية؟
ويوجد اكثر من جواب بحسب اختلاف ثقافة ووعي المجتمع، فالبعض يعتقد ان الحل بيد الساسة والكتل السياسية، فبأمكانها ايجاد الحلول والخروج من الازمات. واليبعض الاخر ، يعتقد ان الحل يأتي من الخارج، اما ايران او اميركا، فهاتين الجهتين هي من يرسم الحلول لساسة العراق. وبعضهم يعتقد ان الحل بيد المؤسسة الدينية (المرجعية العليا) كما حاول بعض السياسيين ان ينسبوا لها حلولا لبعض المشكلات في ما سبق.
من المسلم به ان ساسة العراق لم يتقوا الى الان الى مستوى حل الازمات وقيادة البلد بشكل محترف، وهذا ما ثبت على مدى السنين الماضية التي تلت سقوط نظام صدام. فهم يلجؤون دوما الى الخارج لتسوية الامور، وحتى القضايا التي تعد سهلة يسيرة فانهم يعجزون عنها لتقديم مصالحهم الخاصة وفئتهم على مصالح البلد العليا، فلم نلحظ اي تطور لا اقتصاديا ولا امنيا ولا اجتماعيا بسبب السعي وراء المصالح الخاصة. نعم تسهم القوى الكبرى الخارجية في التأثير على رسم سياسة البلد، لكن الى متى يبقى العراق هزيلا سياسيا وعسكريا واقتصاديا مما يسهل سيطرة الاخرين عليه ولم يسع الى بناء كيان قوي ويتخلص بدرجة ما من سطوة الخارج.
يبقى عندنا المؤسسة الدينية (المرجعية العليا) التي طالما يبجح البعض بأنها القادرة على انقاذ العراق مما هو فيه. فهل استطاعت حل الازمة الراهنة؟ او انها بادرت لايجاد حلا مقنعا لكل الاطراف؟ على الرغم من وجود الأرض الخصبة لقبول ما يصدر عنها؟
ان المرجعية العليا لم تتمكن من التوصل الى حل ينهي الازمة العراقية، فكل ما فعلته تأجيج الموقف طائفيا وعسكريا، بأصدارها فتوى الجهاد، مما اتاح لبعض الكتل السياسية استثمارها بأبشع صورة، وتسويقها على انها دفاع وتأييد للحكومة الحالية، واختزلت مذهب التشيع في شخص او في حزب معين، وبات الاقتتال شيعي سني، وصرف النظر عن كل الاخفاقات المتكررة التي سببتها هذه الحكومة، وتم اغفال كل السرقات والاعتداءات على المال العام وغيرها.. وتعبئ الشعب العراقي طائفيا، وانتشرت المظاهر المسلحة في كل مكان، وكأن السلاح هو الحل الوحيد، فهذا ليس منصفا فان الحرب ليس حربا سنية شيعية، بل انها حرب زعامات وهيمنة ونفوذ، والواقع خلاف ما يحاول البعض اشاعته عند الشيعة والسنة، هناك مئات الالاف من العوائل السنية في الموصل هربت من هؤلاء القتلة المجرمين بعد فرض سيطرتهم على الموصل ولم تأيدهم، وهناك عدد من رجال الدين السنة ضحوا بدمهم ولم يرضوا بالانخراط مع داعش ولم يقبلوا بوجودهم، وهناك عشائر وقفت الى جانب الحكومة وقاتلوهم وهي عشائر سنية. اذا ليس الاقتتال طائفي وان حاول البعض ومن كلا الطرفين ان يجعلها تبدو بهذا الشكل.
كان الاجدر بهذه المرجعية ان تعرف كيف تتعامل مع هذه الملفات الخطيرة والحساسة، من ضمن الاليات التي يجب ان تتبعها هي فتح باب الحوار والتواصل مع الاطراف الدولية كالامم المتحدة، خصوصا اذا ما علمنا ان الاخيرة تكن الاحترام للمرجعية وتحاول ارضائها، او فتح باب الحوار مع الاكراد لانهم لاعب اساسي في هذه القضية، وحتى الاطراف السنية يمكن محاورتها، ومن المؤكد انهم لجأوا الى هذه الطريقة لانهم عجزوا عن التوصل الى حلول في كثير من القضايا العالقة التي لم تدرك المرجعية انها ستكون قنبلة ستنفجر يوما ما. فبامكان المرجعية ايجاد اساليب للحوار وتحقن بها دما العراقيين.
قد يقول قائل ان فتوى الجهاد التي صدرت من المرجعية بحسب نقل الشيخ الكربلائي جاءت دعما للقوات المسلحة العراقية وشحذ هممهم وايقاف حالة الانهزام التي اصابتهم، ولاخافة الاعداء. قلنا ان الاخفاقات في صفوف الجيش ما زالت مستمرة ولم يردع العدو! وان الفتوى صدرت لمن يستطيع حمل السلاح من العراقيين وليس للجيش فقط! ان هذه الفتوى لا يجني منها الشعب العراقي الا الويلات وسيتمر الاقتتال ولا مخرج منه.
بعد هذه الفتوى صدر عن المرجعية توجية لاجتماع البرلمان المنتخب المصادق عليه وترك وقت الاجتماع معلقا ولم تحاول فرضه عليهم للاسراع بأيجاد الحلول الناجعة. فكما رأينا الكيانات والكتل السياسية استجابت لفتوى الجهاد فمن المفروض انها تستجيب لهذه الدعوة. والنتيجة ان المرجعية العليا لم تتمكن من ايجاد حلا لهذه الازمة الخانقة التي المت بالعراق، في حين انها بحسب المدعيات انها تحظى بأحترام السياسيين العراقيين والامم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الاوربي.
اما اميركا وايران ، فلاحظنا وجود مماطلة وتسويف واضحين، لانهما لم يتوصلا الى اتفاق ما، فالرئيس الامريكي في بداية الاحداث يقول سنرسل مجموعة من الخبراء للتعرف على الاحداث الجارية بدقة، ومرة يقول اننا سنتدخل اذا شعرنا بتهديد الامن القومي الامريكي، ومرة يقول اننا طلبنا من الحكومة العراقية ابقاء مجموعة من القوات لكن لا بد من الحصانة، الا انهم لم يرضوا بذلك، وغيرها من التسويفات التي تؤكد على اضمارهم شيء . اما الايرانيين، فقد عرضت خدماتها بالتدخل شريطة ان يكون هناك طلب رسمي من الحكومة العراقية، ومرة يقولون ان فيلق القدس سيدخل للدفاع عن المقدسات، وغيرها.. كل هذا الوقت يمضي ودماء العراقيين تسيل واطفال تيتمت ونساء ترملت وامهات ثكلت، ولا يكترث احد لهذه الدماء الزكية.
في الايام الاخيرة اتضح الغرض الامريكي وسبب مماطلة ايران، عندما اكدوا عدم التدخل او ايقاف النزيف الجاري الا بوجود حكومة عراقية وطنية تضم كل اطياف الشعب العراقي. وهذا هو الحل الذي طرحه سماحة المرجع اليعقوبي منذ بداية الازمة، وقد تبنته الان كتل سياسية كثيرة . فقد حدد المرجع اليعقوبي في خطابه الاول عند سقوط الموصل الذي كان بعنوان (رب ضارة نافعة، سقوط الموصل) المشكلة وما السبب الحقيقي الذي ادخلنا في هذا المأزق، حيث قال: (لا يزال الشعب العراقي المظلوم يعاني من الأزمة تلو الأزمة، ولا تُعالج مشاكله بالحلول الناجعة وإنما بالترحيل و الهروب إلى الأمام أي باستحداث مشاكل جديدة أفظع من سابقتها لتشغله عن المطالبة بها، فمن نقص الخدمات إلى تعطّل مشاريع التنمية التي تستثمر موارده البشرية والاقتصادية إلى الصراعات السياسية والاستبداد والاستئثار وهدر المال العام إلى التدهور الأمني الذي يزداد سوءاً حتى تمكّنَ نفر ضال همجي وحشي من بسط سيطرتهم على مدننا الحبيبة العزيزة على قلوبنا كالموصل وبعض نواحي كركوك وصلاح الدين وغيرها،  فاحتلوا مؤسسات الدولة وأرعبوا أهلها وهجّروهم بحيث لا يعلمون إلى أين يذهبون فازدادوا بلاءً الى بلائهم , ومعاناة إلى معاناتهم. إنّ هذا الانهيار الذي حصل ليس وليد الساعة ولا هو بسبب قوة العدو أو تفوّق امكانياته … الى ان قال وإنما حصل الذي حصل نتيجةً لتلك الأخطاء المتراكمة وتخلّي أغلب الكتل السياسية الحاكمة وغير الحاكمة عن أخلاقيات المهنة والشعور بمسؤولية المواقع التي ائتمنهم الشعب عليها، وعدم مهنية وإخلاص الكثير من القادة العسكريين ولا يمكن أن تحلّ المشاكل والعقد إلاّ بحلول جذرية استراتيجية يطمئن إليها الشعب بكل مكوّناته ويشعر انه بأيدي أمينة رؤوفة كريمة شفيقة كفوءة قادرة على أداء المسؤوليات المكلّفة بها).
وبعد ان اتضحت ملابسات الامور ، شخص العلاج الناجع الذي جاء في خطابه الثاني بعنوان (لا بديل عن الحوار والقبول بالتنازلات العادلة) وقد اخذ حيزا كبيرا في الدراسة والتحليل عند القوى الكبرى ومراكز الدراسات العالمية والشخصيات السياسية، الذين تبنوه بعدها كحل وحيد لا غير للخروج من الازمة . وتصريح وزير الخارجية الامريكي عند زيارته العراق يشهد بذلك. جاء في هذا البيان : (ويتحقق ذلك ببدء حوار شفاف بين الكتل السياسية الممثلة لفئات الشعب وفق الخارطة الجديدة التي صودق عليها، وان يقبل الجميع بكل التنازلات التي يتطلبها إنقاذ العراق وشعبه من محنتهما، مهما كانت تلك التنازلات صعبة من وجهة نظر أصحابها.
 
وان الجهة الكفيلة برعاية هذا الحوار  وتحقيق حالة العدالة والانصاف في مطالب المتحاورين وإدارة خلافاتهم هي المرجعية الدينية بأبويتها وحكمتها وشعورها العالي بمسؤوليتها وثقة الجميع بها، وبمساعدة بعثة الامم المتحدة بموضوعيتها وحيادتها وخبرتها وان يبدأ هذا الحوار عاجلاً، لأن كل تأخير يعني مزيداً من الدماء والخراب.
 
لقد جرّب الجميع – وان كانت المسألة لا تحتاج الى تجربة لإجماع العقلاء على معرفة النتائج- ان حالة الاحتراب وتجييش كل فئة لشارعها لا يخدم احداً من هذا البلد وهو يحقق مآرب اعداء العراق والطامعين فيه والساعين لتمزيقه واضعافه وقد استُخدِمتْ التنظيمات الارهابية المعادية للحياة والانسانية كأداة لتنفيذ تلك الاجندات والسيناريوهات المؤلمة.).
ومن الغريب ان لا اذان صاغية لهذا الحل في العراق، فهم لم يمعوا الا اصوات السلاح، وصخب الطائفية وضجيج المتلونين، الباحثين عن موجة عالية ليركبوها ولا يهمهم الحل الذي يجنب اهل العراق الاقتتال والمزيد من الدماء، فليس الحل في تجييش المجتمع واثارته طائفيا، انما الحل ما قاله المرجع اليعقوبي، فالدم العراقي يسيل واقتصاده يستنزف ونسيجه الاجتماعي يمزق، فليس الوقت وقتا للمزايدات واستعراض العضلات، لا بد ان نؤمن بالحوار والحلول السياسية، فاستنزاف العراق ليس فيه مصلحة الا لاعدائه.
وعلى اتباع هذه المرجعية الواعية ان لا ينساقوا خلف الصيحات التي تتعالى من هنا وهناك وان يكونوا اكثر وعيا في التعامل مع القضية وان يعوا ما مراد قيادتهم ولا نشارك بزيادة الضجيج.