17 نوفمبر، 2024 11:23 ص
Search
Close this search box.

المرجعيّة بين تغييب العقل وتحريره

المرجعيّة بين تغييب العقل وتحريره

لم تخلُ مرحلةٌ من مراحل التاريخ من الصراع الدائم بين حالات الاستبداد والقهر وفرض الرقّ على الناس واستعبادهم والمتاجرة بهم كأيّ سلعة يملكونها، ومحاولات القلّة القليلة رفض هذا الواقع والعمل على تغييره أو الهروب منه؛ بحثًا عن الكرامة الإنسانية، وعن العنوان الأسمى ألا وهو الحرية. والأنموذج الأوضح لهذه الحالات هو الأكثر تكرارًا في القرآن الكريم، من خلال قصة النبي موسى (ع) مع فرعون، بين الاستعباد والقهر والمحاولات التحرّرية التي قام بها النبي موسى (ع) والتي استدعت تدخّلًا إلهيًّا في نهاية المطاف. وإن كان قومه عادوا لروح الاستعباد والتبعية، لأنهم لم يكونوا جديرين بالحرية والتحرير.
وفي جانب من جوانب هذا التاريخ المظلم والذي لا زال مستمرًّا في واقعنا، كان هناك حالات من الاستعباد الفكري، أو إخضاع العامة من الناس لبعض الموروثات والاعتقادات التي تجعل تجربة الآباء والأجداد معصومة ولا يمكن أن نحيد عنها؛ وعليه يتمّ تغييب العقل تمامًا وإحالة كل ما يمكن أن يحدث إلى هذه التركة التي ورثها الناس، فيبرّئون أنفسهم من أيّ تبعة أو وزر، والآيات الشواهد كثيرة، من قبيل: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
ومن هنا، كانت الرسالات الإلهية وحضور الأنبياء من أجل تحرير الإنسان، سواء من الرقّ الجسدي أو الفكري، فكانت الرسالات السماوية لأجل كرامة الإنسان، وتحرير العقول والإرادات. وكانت الأحكام الفقهية الإسلامية عاملًا مساعدًا في عتق الرقاب وتحرير البشر، إلى أن (انقرضت) هذه الحالات، إذا صحّ التعبير، وبتنا نعيش في مجتمعات خالية من حالات الرق والعبودية الجسدية!
ولكن المفارقة أنّ الذين يتحكّمون برقاب العباد بدأوا باستخدام الدين وسيلة من وسائل الاستحواذ على العقول والنفوس، فباتت تصنع الدوائر المغلقة التي يُحبس داخلها الناس، فتكون الحدود المصطنعة مغلّفة بالتحذيرات وبالويل والثبور وعظائم الأمور، وبالإخراج من الدين والإدخال في الضلال. وبدأوا بإدخال الدين في القمقم شيئًا فشيئًا. ويأتي بين الفترة والأخرى مصلحون مجدّدون يحاولون إخراجه إلى الهواء الطلق، والعودة به إلى أصالته الصافية. ونال هؤلاء ما نالوه من الظلم والاضطهاد وعانوا أشد المعاناة من المستبِدّين ظلمًا، والمستَبدّين جهلًا.
وبعد بداية الغيبة الكبرى بفترات لم تكن قصيرة، بدأت حالات ما يعرف بالمرجعيات الدينيّة والتصدي للفُتيا بالظهور، وامتدّت عبر القرون حتى يومنا هذا. ويعبّر السيد فضل الله عن هذا فيقول: “وقد تميّزت المرجعية الشيعية خلال تاريخها الطويل بغلبة الصفة الفردية على المرجعية. بحيث إنّ تعبير المرجعية الشيعية يعكس الحالة النظرية للمرجعية. أمّا الواقع التطبيقي فإنّ هذه المرجعية مجزأة إلى أجزاء عديدة، بعدد مراجع الدين. بحيث يقال مرجعية الشيخ كاشف الغطاء ومرجعية السيّد اليزدي ومرجعية السيّد الخوئي ومرجعية الإمام الخميني، وغيرها الكثير من الأسماء التي تمثّل نماذج مختلفة للسلوك والممارسة المرجعية”.١ وهذا ما كان يخالف طموحات السيد فضل الله ونظرته للآفاق الواسعة التي يريدها للمرجعية، بأن تكون حركية مؤسساتية عالمة بأهل زمانها، فقهيًّا وفكريًّا وثقافيًّا وإنسانيًّا… فيضيف سماحته”: عندما نلاحظ أنَّ المرجعية تعيش حالة شخصية وليست مؤسسية نرى أنَّ الذين يعاونونها، يلتفّون حول الشخص، بحيث تكون القضية في وعيهم هي خدمة الشخص ولا يكون الشخص في خدمة القضية؛ ولهذا يكون الاهتمام – لدى كثير ممّن يحيطون بالمرجع – بالمرجع نفسه وإذا كانت مسألة المرجعية هي مسألة فتاوى وحقوق فإنَّ النظرة إلى كلّ المواقع الشيعية تتأثّر بهذا الخطّ.. إننا نعتقد أنَّ المراجع يمثّلون قيمة روحية كبيرة، ولكن مشكلتهم أنهم قد يعيشون في ظروف تبتعد بهم عن الإمكانات الكبيرة التي يستطيعون فيها أن ينفذوا ما كانوا يفكرون فيه قبل المرجعية”٢.
فمشكلة المرجعية، في كلّ تاريخها، أنها لم تكن مؤسسة وإنما كانت شخصًا وفردًا، – وإلى الآن – هي تعتمد على مستوى هذا الشخص وعلى مبادراته وعلى سعة أفقه والظروف المحيطة به والأشخاص المحيطين به. ويؤكد السيد فضل الله مسألة عدم مواكبة المرجعيات للعصر والحياة، فيقول: “إننا نعتقد أنَّ المرجعية، مع كلّ احترامنا للأشخاص الذين يتحرّكون في دائرتها أو يشرفون عليها أو يقودونها، لا تستطيع أن تواجه تطورات العصر ولذا فإننا نعتقد أنها تعيش انكماشًا في دائرتها الخاصة في نطاق الفتاوى أو في نطاق بعض الأعمال التي تتحرّك هنا وهناك”٣. ونحن نلمس هذا الأمر، والذي بات واضحًا جليًّا في غربة المرجعيات عن محاكاة عقول الشباب الباحث عن الحقيقة، الحقيقة التي يريدها هو، لا التي يريها إياها البعض. ومن هنا كانت رؤى السيّد فضل الله أن ” المرجعية المؤسسة هي التي ينطلق فيها المرجع، أو تتحول فيها المرجعية إلى مركز للدراسات وللإدارة حين يتخصص فيها الناس في مواقعهم في هذه المنطقة أو تلك، فيأتي المرجع ويجد الدراسات أمامه، والخبراء معه، ليقدموا له دراساتهم وتقاريرهم حول هذا الموضوع فيعطي فيها رأيه من خلال الصورة، وحتى إذا مات المرجع فإن المرجع الآخر لا يبدأ من نقطة الصفر، بل ينطلق من حيث انتهى الآخر”٤ .. بحيث إنّ المرجع عند ما يأتي، يأتي إلى مؤسسة تختزن تجارب المراجع السابقين، فتكون كلّ الوثائق التي تمثّل علاقات المرجع بالعالم وتجاربها وخصوصيات القضايا التي عالجتها حتى في مسألة الاستفتاءات والأسئلة والأجوبة، متوفرة للمرجع الجديد الذي يجد كلّ هذه التجارب جاهزة في مؤسسة المرجعية ليبدأ من حيث انتهى المرجع السابق، لا ليبدأ بعيدًا عن كلّ التجارب السابقة.
ومن هنا يمكننا أن نكتشف علاقة المقلِّدين بالمقلَّد، ونستطيع أن نكون على بصيرة بالحالة التي يعيشها المرجع، والتي يُدخِل فيها الناس، وهل هناك بَونٌ شاسع بين ما هو عليه وما يريدونه منه؟ فهل يُعقل أن نستخدم الأدوات نفسها التي لم تُؤتِ أُكلها في عصر سابق، في العصر الحالي؟ وهل نبقى على الكلاسيكية والجمود في فهم الدين الذي نزل قبل 1444 عامًا، أم نتعاطى معه على أنّه حركيٌّ يجري مجرى الليل والنهار؟ وأنّ لكل فتوى ظروفًا زمانية ومكانيّة تحكمها، وتنتقل بها من الجواز إلى الحرمة وبالعكس.
وهذا ما جعل السيّد فضل الله يحلّق بالفقه والفكر بعيدًا عن الأُسُر الكثيرة التي تقيّده، وكان من أولوياته تحرير العقول، من كل ما يمكن أن يكبّلها، وهذه يجب أن تكون من أولويات المرجعيات، ” فالمرجعيّة الشيعيّة هي المرجعيّة التي تحاول أن تجمع الشيعة على خطّ الإسلام في خطّ الوعي، وعليها أن تتخفّف من كلِّ وحول التخلّف وخطوط الجهل، وأن تكون القائدة للعامّة، لا أن تكون العامّة هي القائد لها، كنتيجة لبعض الحساسيّات وبعض المطامع وما إلى ذلك”٥.
كان يريد سماحته صناعة الإنسان، وصناعة العقول، ويرفض مقولة “نحن أتباعك”، فيقول أنا لا أربّي أتباعًا، أنا أريد أن تفكروا معي، وأن تصنعوا الحريّة للفكر، وأن لا تؤجّروا عقولكم لأحد.. أيًّا كان هذا الأحد، فالعصمة للنبي وآله فقط. ومن هنا كان التسديد الإلهي للحالة التي صنعها السيد فضل الله، والنجاح في التحوّل من المرجعية الفرديّة إلى المرجعيّة المؤسَّسة التي تسير بعين الله وحده وستبقى ما شاء الله. في حين أنّنا لا زلنا نرى الحالات الأخرى الكلاسيكية التي لم تعد تستطيع مجاراة الواقع ولا الزمن، فتتسع المسافات بين المرجع والناس، الناس الذين يرومون النجاة بعقولهم، ويرفضون الدين المعلّب، أو الإملاءات في التفكير والعبادة وما يفعلون وما يصنعون، ومن يتّبعون وخلف من يسيرون، فهم ينشدون الحرية. الحريّة نعم، وهي ما لا يعرف طعمها إلا الأحرار أصحاب العقول.
والله من وراء القصد.
١ المعالم الجدیدة للمرجعیة الشیعیة، ص65.
٢ حوارات في الفکر والسیاسة والاجتماع، ص 489.
٣ المرجع نفسه، ص 487.
٤ الحركة الإسلامية، هموم وقضايا، ص 443.
٥ أيها الأحبة، ص 46.

أحدث المقالات