23 ديسمبر، 2024 4:57 ص

المرجعية والانتخابات وعموم الشأن السياسي 2/4

المرجعية والانتخابات وعموم الشأن السياسي 2/4

ولم تتخل المرجعية عما كان يسمى بـ(الائتلاف العراقي الموحد) الذي بقي على اسمه في الانتخابات الأولى بعد إقرار الدستور الدائم نهاية عام 2005، لكنها لم تعلن رعايتها له بشكل مباشر، إلا أنها نصحت (أو أفتت) بانتخاب القائمة التي تتوفر على مواصفات محددة، كانت لا تنطبق إلا على القائمة الشيعسلاموية ذات الخمسات الثلاث، التي اعتبرها عمار الحكيم خمسات مقدسة بربطها بالأصول الخمسة وبالخمسة أهل الكساء وبالصلوات الواجبة اليومية الخمسة. وبقيت إرشادات المرجعية مختلفا فيها، فمنهم من يعتبرها أوامر شرعية ولائية واجبة الطاعة، ويكون مخالفها مرتكبا لإثم شرعي، ومنهم من اعتبرها أوامر إرشادية، أي على نحو النصيحة والترجيح، ربما يكون اتباعها مسحبا وليس واجبا، وترك المستحب جائز، حسب القاعدة الشرعية، ولكن هؤلاء كانوا القلة من عامة الشيعة المؤمنين بالمرجعية.

لكن المرجعية، وحسبما يبدو بعدما اكتشفت بالتدريج، وليس مرة واحدة، عدم نزاهة وعدم كفاءة أكثر السياسيين الشيعسلامويين، تخلت عنهم تدريجيا، وليس دفعة واحدة، فكان موقفها في انتخابات 2010 أن تبنت أن تكون على مسافة واحدة من الجميع. وابتعدت أكثر عنهم عام 2014، وكان لها دور في الحيلولة دون الولاية الثالثة للمالكي. وكانت من قبل ولسنوات عديدة، تعبيرا عن عدم رضاها عن أداء السياسيين الشيعسلامويين قد أوصدت بابها دون استقبالهم.

ثم كان موقف المرجعية معبرا عنه بخطب الجمعة الملقاة من قبل ممثلَيها عبد المهدي الكربلائي وأحمد الصافي، موقفا شديد النقد للنخبة السياسية، لاسيما للفاسدين، وبالأخص الشيعسلامويين وإِلَّم تُسمِّهم. وبلغ بيان المرجعية الأخير ذروة الابتعاد عن القوى الشيعسلاموية. ومما يميز هذا البيان، أنه صيغ بلغة مدنية لم تستخدم فيه أي من النصوص الدينية واللغة الدينية؛ هذا باستثناء عبارتين، بقيتا مما يمكن تأويلهما إلى معنى ديني أو مذهبي، أتناولهما ابتداءً وقبل تناول بقية مقاطع البيان، وكذلك استهلال البيان بالبسملة وختامه بدعاء للعراق مما لا إشكال عليهما، خاصة عند صدوره من جهة دينية. والعبارتان اللتان أتوقف عندهما لكونهما قابلتين للتأويل هما:

«… إن أريد للبلد مستقبل ينعم فيه الشعب بالحرية والكرامة، ويحظى بالتقدم والازدهار، ويحافظ فيه على قيمه الأصيلة ومصالحه العليا».
«… فالعبرة كل العبرة بالكفاءة والنزاهة، والالتزام بالقيم والمبادئ».

فتبقى كل من «القيم الأصيلة» للشعب العراقي، و«القيم والمبادئ» الواجب الالتزام بها من قبل الذين يرجح انتخابهم ما هو قابل للتأويل. فهل المقصود يا ترى بالقيم الأصيلة مما يقصد بها هي قيم الدين الإسلامي؟ وهل المقصود بالقيم والمبادئ من ضمن ما يقصد بها قيم ومبادئ الإسلام، بل وبالنسبة للشيعي قيم ومبادئ التشيع والولاء لأهل البيت؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا إقحام للدين والمذهب في الشأن السياسي ولو بشكل مخفف وخفي، خاصة وإن المعنيين بتحديد القيم الإسلامية الأصيلة من جهة وقيم ومبادئ الإسلام وربما التشيع من جهة أخرى سيختلفون في تحديدها حسب مدى درجة كل من التطرف والاعتدال لكل منهم. لذا كان المفروض ألا يشتمل بيان المرجعية على (المُتشابِهات) الخاضعة لتأويل المؤولين، بل كان يجب أن يصاغ كله بلغة (المُحكَمات) الواضحات، مما لا يقبل التأويل إلى معنى غير ما أرادته المرجعية. أما إذا كانت المرجعية قد عنت فعلا مبادئ وقيم الدين والمذهب، فكان عليها أن تفصح بذلك، عندها سننتقدها بلا شك، نحن القائلين بالفصل بين الدين والسياسة. ولكن من المحتمل جدا إن البيان لم يرد هذا المعنى، ومن هنا كان عليه تجنب ما يمكن تأويله إلى غير ما أرادت، فيا ليتها قد وصفت القيم بالقيم الإنسانية والمبادئ بالمبادئ الوطنية، أو ما شابه، إذا كانت فعلا لم تقصد المعنى الديني أو المذهبي، ليكون ذلك منسجما مع اللغة المدنية العصرية التي صيغت بها بقية عبارات البيان من أوله إلى آخره.

وفي الحلقة القادمة أتناول مقاطع من البيان المشار إليه. حيث يبدأ بالبسملة ثم بعبارة: «مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية يسأل الكثير من المواطنين الكرام عن موقف المرجعية الدينية العليا من هذا الحدث السياسي المهم، وبهذا الصدد ينبغي بيان أمور ثلاثة». ثم ذكر الأمور الثلاثة، التي سأدرجها بالنص كما هي، معلقا عليها بين مضلعين [هكذا].