23 ديسمبر، 2024 3:21 م

المرجعية الصدرية …. بين الوطنية وسرداب الطائفية

المرجعية الصدرية …. بين الوطنية وسرداب الطائفية

تعتبر مرجعية السيد محمد محمد صادق الصدر ( الصدر الثاني ) المرجعية الشيعية العربية الوحيدة بين المرجعيات الشيعية في العراق، فبعد هيمنة المرجعيات الأجنبية وخاصة الفارسية على العراق لأكثر من ستة قرون ظهرت مرجعية الصدر كمرجعية عراقية أصيلة لتخليص العراق من هذه المرجعيات التي تفسد أكثر مما تصلح، وتقود إلى هلاك البلاد والعباد، فهي تأخذ خُمس أموال العراقيين والشيعة عامة لتصرف جزء منها في إيران، في حين يذهب الجزء الكبير من الأموال إلى جيوب المرجع وحاشيته دون مساعدة الفقراء والمساكين من العراقيين. لذلك جاء ظهور مرجعية الصدر لإصلاح الحوزة الدينية وإخراجها من قوقعتها وفرديتها وتحويلها إلى مؤسسة واعية منفتحة تواكب التطورات في البلاد وتأخذ بعين الاعتبار الواقع واحتياجاته وتحدياته، وقد حظيت جهود الصدر بدعم وتشجيع الرئيس الراحل ” صدام حسين ” لوقف تسلل شخصيات من أصول غير عربية إلى حوزة النجف، وما شجع صدام على دعم موقف الصدر هو إحياء الأخير صلاة الجمعة واجتهاده في إقامتها بشكل متواصل، مخالفاً في ذلك موقف المراجع الشيعية الذين أفتوا بعدم جواز قيام صلاة الجمعة بانتظار خروج الإمام المهدي المنتظر.

لذلك حورب الصدر حرباً شعواء من الحوزة ورجالاتها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أن نظام الملالي في طهران حاربه واتهمه بالعمالة للنظام العراقي السابق وأغلقت الحكومة الإيرانية مكتبه في قم وسجنت مسؤوله آنذاك وعذبته. وما أن أدركت إيران أن الصدر بدأ يغرد خارج سربها وتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها مرجعية ” قم ” لباقي المرجعيات خارج إيران حتى قررت التخلص منه وتصفيته على إيدي المخابرات الإيرانية وهناك عشرات الدلائل على تورط الحرس الثوري الإيراني باغتياله.

وبعد اغتيال الصدر عام 1999 خلفه نجله الأصغر السيد ” مقتدى ” الذي كان لا يدرك بعد حقيقة المنهج الذي سار عليه والده والذي كان السبب الرئيس للتخلص منه، إلا أنه قرر السير بهدوء على خطاه، لكن الظروف التي عصفت بالعراق قبل اكتمال استعداده لمتابعة مشواره وعلى رأسها الاحتلال الأمريكي عام 2003 ، جعلته يدرك ضرورة إعادة تنشيط هذه المرجعية في ظل الصمت

الذي تنتهجه مرجعية النجف بزعامة السيد علي السيستاني فكان خروجه في فترة هي من أشد فترات الإثارة في تاريخ العراق الحديث، ورغم ذلك تطور تأثيره وحضوره في المشهد السياسي ما شكل مفاجأة للأحزاب الدينية العراقية، معتمداً في تجسيد حضوره في المشهد السياسي على الإرث التاريخي لوالده وعائلته في الوسط الشيعي، وهو ما جعله من أشد المنافسين لهذه الأحزاب، لذلك واجه انتقادات كبيرة من رجال الدين الشيعة، بسبب موقفه من المرجعية الدينية في النجف، التي وصفها بأنها مرجعية صامتة لم تنهض بمسؤوليتها تجاه ما يجري في العراق، خاصة الموقف من معركة جيش المهدي مع القوات الأمريكية بالنجف عام 2004 .

حاول الصدر الخروج من الخندق الطائفي الحوزوي والاصطفاف مع أبناء بلده في مواجهة الاحتلال الأجنبي وتحالف مع هيئة علماء المسلمين بزعامة الشيخ “حارث الضاري” لمحاربة القوات الأمريكية إلا أن هذا التصرف لم يرق لطهران، فتم اختراقه بواسطة تشكيلات عصائب أهل الحق التي بدأت ترتكب أعمال طائفية باسم جيش المهدي فأساءت له بشكل كبير. حاول الصدر السيطرة على هذه التشكيلات لكن دون جدوى فأعلن براءته من العصائب واتهمها بقتل العراقيين لأسباب طائفية وتنفيذ عمليات التهجير والعنف الطائفي لحساب دول خارجية في إشارة واضحة إلى إيران، وشكل لواء اليوم الموعود كرد على انشقاق العصائب عن جيش المهدي وتحولهم إلى اليد الضاربة لنوري المالكي في مواجهة التيار الصدري. وأمام الضغوط الكبيرة التي مورست على الصدر قرر تجميد جيش المهدي وتسليم سلاحه للحكومة العراقية وتشكيل التيار الصدري للمشاركة في العملية السياسية.

استغلت إيران هذه النقطة فمدت يد العون للصدر وساعدته حيث حظي برعاية خاصة ومباركة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية “علي خامنئي” والرئيس الإيراني السابق ” أحمدي نجاد “، وتمت إعادته من جديد تحت العباءة الإيرانية ومورست عليه ضغوط كبيرة للانضمام إلى التحالف الشيعي لمصادرة قراره لصالح الأحزاب الشيعية المتنفذة والقريبة من إيران وعلى رأسها حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي والاستفادة من الشعبية التي يحظى بها في أوساط العراقيين لكسب المزيد من الأصوات في الانتخابات. إلا أن هذا الأمر زاد من قلق الصدر وجعله يتردد في حسم تحالفاته السياسية وغالباً ما كان يتركها إلى اللحظة الأخيرة، وأكثر ما يقلق الصدر سعي المالكي وحزب

الدعوة لمحاصرته ونزع شرعيته في الوسط الشيعي لإضعافه وإخراجه من المعادلة السياسية خاصة مع اتهام الحكومة العراقية للصدر بالوقوف وراء مقتل المرجع الشيعي “عبد المجيد الخوئي” في النجف الأمر الذي أضر بسمعته كثيراً في الوسط الشيعي.

ورغم إعلان الصدر عن اعتزاله للعمل السياسي وإغلاق كافه مكاتبه وعدم دعمه لأي كتلة سياسية كتعبير عن خيبة أمله من تداعيات الأوضاع في العراق وفشل الطبقة السياسية في وقف العنف وتكريس ثروة العراق لسعادة العراقيين عبر وقف هدر المال العام وملاحقة المفسدين، إلا أن الخلافات بينه وبين المالكي استمرت إلى أن بلغت ذروتها قبل حوالي ثلاثة أشهر ووصلت إلى حد تهجم المالكي على شخص الصدر عندما وصفه بأنه “حديث على السياسة، ولا يفهم أصول العملية السياسية ، وأن ما يصدر عنه لا يستحق الرد”.

بالفعل يعتبر الصدر من الشخصيات الزئبقية التي لا تثبت على رأي فسرعان ما ينقلب على حلفاؤه ، ويتنقل بمواقفه من طرف لآخر، إضافة إلى عدم امتلاكه استراتيجية ثابتة وواضحة، وافتقاده للحنكة السياسية اللازمة لإدارة تيار شعبي عريض من أتباعه، لا يصلح كقائد سياسي بقدر صلاحه لكونه قائد ميليشيا خارجة عن القانون، ظهر على الساحة السياسية بحكم عامل الصدفة والوراثة إذ أن التاريخ لم يسجل له موقف إيجابي واحد قبل عام 2003.

في خضم هذه التناقضات التي يعيشها الصدر مع شركاؤه في العملية السياسية برزت أحداث الموصل الأخيرة، فكانت ردة فعله تعكس شخصيته الزئبقية، فسرعان ما دعا إلى استعراض عسكري في بغداد لـميليشيا “سرايا السلام” التي تعتبر امتداداً لجيش المهدي المجمد، كرد فعل على سقوط الموصل بيد الثوار حيث شارك مئات الآلاف من اتباعه في بغداد في هذا الاستعراض وتراوحت الاسلحة التي كانوا يحملونها بين الأسلحة الخفيفة والراجمات والمدافع والعبوات والأحزمة الناسفة في تحدٍ واضح لكل المعايير والقيم السياسية والوطنية، وكان الأجدر بالصدر أن يسميها “سرايا الدفاع” على غرار “سرايا الدفاع ” التي كان يقودها “رفعت الأسد” في سوريا والتي ارتكبت أبشع المجازر بذريعة مكافحة الإرهاب بحق أهالي حماه عام 1982.

ويبدو أن الصدر قرر أن ساعة العودة للعمل الميليشياوي الذي أعلن تخليه عنه سابقاً قد حانت، وهو العمل الوحيد الذي يجيد الابداع فيه على طريقته الخاصة، وأن الظروف باتت مؤاتية جداً، ليظهر مجدداً بوصفه حامي الشيعة ومقدساتهم بديلاً عن نوري المالكي وقواته التي هربت أمام ما يدعونه بالإرهاب. وأثبت الصدر من هذا الاستعراض الضخم أنه لم يترك العمل الميليشياوي لحظة، وأن حلمه بخلق دولة داخل دولة مثلما فعل حزب الله في لبنان لم يغادره لحظه، وهو الحلم الذي راود الصدر منذ سنوات بسبب تأثره كثيراً بشخصية “حسن نصر الله” لكن ظروف العراق والاستقطاب الطائفي، فضلاً عن خصومته مع المالكي والخلافات التاريخية بين عائلته وعائلة الحكيم ومعاركه في النجف والبصرة حالت دون وصوله إلى مبتغاه سابقاً.

إن عودة الصدر إلى العمل الميليشياوي تتضمن إيصال رسالة مهمة للجميع مفادها أن القتل لنا نحن الصدريون لا لغيرنا ونحن الأقدر على إعادة الأمور إلى نصابها وموازينها، ونحن الذين يقع على عاتقهم حماية الشيعة وإنهاء الأمور بطريقتنا الخاصة التي عرفها جميع العراقيين عامي 2006-2007. كما تؤكد عودة الصدر للعمل العسكري أنه لا يستطيع الخروج عن سردابه الطائفي الذي وضعه فيه نظام الملالي في طهران، وتنذر بعودة شبح المذابح الطائفية المروعة التي سبق أن نفذها “جيش المهدي” ، وقتل فيها آلاف العراقيين بذريعة الدفاع عن الشيعة ومقدساتهم.

المطلوب من الصدر اليوم العودة إلى رشده والتحلي بالحس الوطني وتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح المذهبية الضيقة ، وعدم الانجرار وراء سياسة المالكي الرعناء التي أوصلت العراق إلى ما نحن فيه اليوم، وألا يقدم الآلاف من أبناء الشيعة كقرابين لاستمرار مسؤولي المنطقة الخضراء في الحكم، والابتعاد عن تصوير سقوط الموصل وغيرها من المدن العرقية بيد الثوار على أنها من علامات ظهور المهدي لتحشيد الشيعة واللعب على عواطفهم الدينية، بل التعامل مع القضية بواقعية، والجزم أن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه قبل سقوط الموصل مالم يتم التوافق على حل سياسي يرضي جميع الأطراف، وعدم الانزلاق إلى حرب ضد طائفة تحت ستار الحرب على الإرهاب، وضرورة إدراك أنَّ ما حصل هو نتيجة طبيعية للسياسات الخاطئة لحكومة المالكي وتحميله المسؤولية

شخصياً عما جرى وسيجري مستقبلاً ، وأن هناك مطالب مشروعة لأبناء المحافظات الثائرة ينادون بها منذ سنتين دون أن تلقى إذناً صاغية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار قبل أي ردة فعل متهورة.