23 ديسمبر، 2024 12:42 م

المرجعية الشيعية وخيارات ما بعد السيستاني والخامنئي

المرجعية الشيعية وخيارات ما بعد السيستاني والخامنئي

القسم الثالث:
بين حوزة قم وحوزة النجف
والخلاف حول ولاية الفقيه

ليس من الضروري أن تكون تجربة التنظيم النسبي في حوزة قم مفيدةً للنجف، وليس من الضروري أن تكون تجربة حوزة النجف المفتوحة نسبياً مفيدةً لقم؛ فلكل حوزةٍ ظروفها وبيئتها وتراثها وخبراتها التراكمية. ولكن من المفيد جداً أن تتبادل التجربتان خبراتهما فيما يشكل مساحات مشتركة تثري البعد العلمي والتبليغي للمذهب؛ بما يليق بالحوزة النجفية الكبرى ذات الألف عام، والحوزة القمية الفتية العائدة بقوة منذ تسعين عاماً.
لقد تألقت حوزة قم العلمية في عهد مرجعية الشيخ الصدوق بعد أفول حوزة الكوفة في الربع الثاني من القرن الرابع الهجري ( القرن التاسع الميلادي). ثم أفِلت حوزة قم بعد ظهور الحوزة العلمية في بغداد في أواسط القرن الخامس الهجري مع مرجعية الشريف المرتضى ومرجعية الشيخ المفيد. ثم أفلت حوزة بغداد بعد انتقال زعيم الشيعة الشيخ الطوسي الى النجف الأشرف وتأسيس حوزتها من جديد. بعدها انتقل مركز المرجعية من حوزة النجف الى الحوزة العلمية في الحلة بظهور الشيخ ابن إدريس الحلي في أواسط القرن السابع الهجري.
وبرزت الحوزة العلمية في جبل عامل بلبنان مع مرجعية الشيخ محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري (القرن الرابع عشر الميلادي). ثم عاد مركز المرجعية الى النجف الأشرف بعد ظهور الشيخ أحمد بن محمد المقدس الأردبيلي في القرن العاشر الهجري (القرن السادس عشر الميلادي). وخلال قرنين تقريباً؛ بقي مركز المرجعية يتنقّل بين النجف وكربلاء؛ فكان آخر مرجع كربلائي هو الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني. وبعده استقرت المرجعية العليا نهائياً في النجف منذ نهايات القرن الثامن عشر الميلادي على يد السيد محمد مهدي بحر العلوم، ثم الشيخ جعفر كاشف الغطاء، وحتى الآن.
بيد أن الحوزة العلمية النجفية تعرّضت الى التدمير التدريجي الشامل بدءاً من العام 1968، بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في العراق، وبلغ ذروته بعد العام 1979. وخلال هذا العام دخلت حوزة قم مرحلة نمو نوعي وكمي غير مسبوق، مع عودة الإمام الخميني وتأسيس الجمهورية الإسلامية، والهجرة الواسعة لعلماء الدين وطلبة العلوم الدينية من حوزة النجف الأشرف وباقي مدن العراق الى قم، وتوافد أعداد هائلة أخرى عليها من بلدان العالم الأخرى، ولا سيما لبنان والبحرين والسعودية والهند وباكستان وأفغانستان وآذربيجان وتركيا وأفريقيا وشرق آسيا.
وإذا كانت حوزة النجف تختلف عن حوزة قم في الجوانب الشكلية ذات العلاقة بالهيكيلية والتنظيم وحجم الإنتاج العلمي؛ فإنهما يتشابهان الى حد التطابق في المضامين والمحتوى، ولا سيما في مراحل الدراسة الثلاثة: المقدمات والسطوح والبحث الخارج، والمناهج الدراسية في المراحل الثلاث، ومصادر البحث والرواية والإستدلال، وشروط الإجتهاد وأساليب الوصول اليه، وشروط المرجعية، ولا سيما الأعلمية والعدالة، وأساليب إدارة المدارس الدينية التقليدية، وغيرها.
الذي تختلف فيه حوزة النجف عن غيرها من الحوزات العلمية الكبرى في الكوفة وقم وبغداد وجبل عامل والحلة وكربلاء؛ أنها لم تأفل ولم تضمحل خلال (1000) عام، أي منذ أسسها الشيخ الطوسي؛ إذ بقيت قائمة بمدراسها العلمية الفاعلة وإنتاجها العلمي؛ وإن انتقلت المرجعية العليا منها الى حوزات أخرى. بينما أختفت حوزات الكوفة منذ أوائل القرن الرابع الهجري، وقم في أواسط القرن الخامس الهجري، وبغداد في أواسط القرن الخامس، و الحلة في القرن العاشر الهجري، و سامراء في القرن الثالث عشر الهجري، كما أفلت حوزات جبل عامل و كربلاء و الكاظمية في فترات كثيرة. وبالتالي يمكن القول أن جميع الحوزات كانت موسمية غالباً، عدا حوزة النجف.
والإختلاف الثاني، هو أن النجف خلال (1000) عام متواصلة، لم تخل يوماً من مراجع الصفين الأول والثاني، عندما كانت المرجعية العليا تنتقل الى حوزات أخرى في فترات زمنية محدودة، كما حصل في الحلة في زمان ابن ادريس والعلامة الحلي والمحقق الحلي، و جبل عامل في زمان الشهيد الأول والشهيد الثاني، وكربلاء في عصر الشيخ الوحيد البهبهاني، وسامراء في زمن السيد الميرزا الشيرازي، وقم في زمن السيد حسين البروجردي. و لذلك فإن 80 بالمائة من المرجعيات العليا في التاريخ الشيعي، كان مركزها النجف الأشرف.
الإختلاف الثالث، هو أن أغلب الإنتاج العلمي الديني الشيعي، التفسيري و الحديثي والكلامي والفقهي والأصولي والرجالي، كتبه علماء النجف. أي أن الموروث العلمي الديني الشيعي هو موروث نجفي في غالبيته؛ دون بخس حوزات بغداد و قم وكربلاء والحلة وجبل عامل نتاجها وتراثها العلمي الديني المهم.
أما الحديث عن الخلاف بين الحوزتين النجفية والقمية حول مبدإ ولاية الفقيه؛ فهو حديث دعائي موجّه أو انفعالي، بعيد عن لغة العلم والواقع. وأوضح هنا أهم ما يتعلق بدائرة الخلاف:
1- إن ولاية الفقيه مقولة فقهية تخصصية، وليست مقولة سياسية أو مناطقية، و لاعلاقة لها بمتغيرات السياسة وعموم الشأن العام. أي أن بحثها ومقاربتها مهمة الفقهاء حصراً؛ شأنها شأن أي موضوع فقهي آخر يدخل في أبواب العبادات والمعاملات. وقد بحث المحدثون والفقهاء هذا الموضوع في كتب الفقه الإستدلالية منذ عصر الشيخ المفيد ( أشار اليها في كتابه المقنعة) قبل 1100 عام وحتى الآن. و من غير المجدي ولا الصحيح أن يكون موضوع ولاية الفقيه مادة صحفية أو سياسية أو دعائية خاضعة للمزايدات والانفعالات والمزاجيات الشعبوية، مآلها الفتنة بين أتباع مدرسة آل البيت. وهو ما يتسبب فيه أنصار الفقهاء القائلين بخصوصية الولاية و القائلين بعموميتها، أو المزايدين المنفعلين المناطقيين، و أغلبهم لايعي البعد الفقهي التخصصي للموضوع، ولا مساحات الخلاف ومناطاته. حتى باتت هذه الإنفعالات والمزايدات ثغرة ينفذ منها خصوم الشيعة الداخليين والخارجيين؛ لتمزيق الواقع الشيعي.
2- لا يوجد فقيه شيعي في التاريخ وفي الحال الحاضر لا يؤمن بمبدإ ولاية الفقيه ولا يطبقه، ولا يكون الفقيه فقيهاً إذا لم يكن يعتقد بمبدإ ولاية الفقيه، ولا يوجد شيعي في العالم يقلد فقيهاً وهو لايؤمن بولاية الفقيه؛ لأن مآل زعم عالم الدين بأنه مجتهد أو مرجع تقليد؛ هو تطبيق مبدإ ولاية الفقيه عملياً؛ فكل فقيه لديه ولاية تلقائية على الفتوى وعلى الحقوق الشرعية وعلى القضاء وعلى الأمور الحسبية. و المقصد الشرعي للحسبة هو حفظ النظام العام للمجتمع، ودرء المفاسد عنه وجلب المصالح له. وإذا رفض الفقيه هذه الولاية فلامعنى لاجتهاده وتقليده. أما المكلّف الشيعي؛ فإن تقليده مرجعاً دينياً يعني أنه تولاه في أموره الدينية الفقهية، وآمن عملياً بولاية الفقيه الذي يقلده، وطبّقها على نفسه في جانب الفتاوى والأحكام الشرعية، وجانب الحقوق الشرعية التي يقدمها للمرجع من خمس وغيره، وجانب التقاضي عند هذا المرجع، إضافة الى التزام فتاواه وتوجيهاته في الأمور الحسبية. وهذه كلها أجزاء لا تنفصل من ولاية الفقيه.
3- الخلاف بين الفقهاء في موضوع ولاية الفقيه خلافٌ علمي بحت، وهو ليس خلافاً في أصل مبدإ ولاية الفقيه؛ بل في مساحاته. ويعود الخلاف الى القراءات المختلفة لمصادر الاستدلال الفقهي، و وعي مقاصد الشريعة وغايات النظام الفقهي، وهو لايختلف بتاتاً عن الخلاف بين المراجع في أي موضوع فقهي آخر في أبواب العبادات والمعاملات. وأبرز مساحات ولاية الفقيه المختَلف عليها بين الفقهاء هي مساحة الحكم؛ أي الولاية على الحكم؛ فالفقهاء الذين قادتهم أدلتهم الى شمول الولاية لموضوع الحكم؛ فإنهم يعتقدون بولاية الفقيه العامة. أما الفقهاء الذين لم يقتنعوا بأن الأدلة تفيد بشمول الولاية لموضوع الحكم؛ فإنهم يعتقدون بولاية الفقيه الخاصة، أي الولاية التي تقتصر على موضوعات الفتوى والقضاء والمال الشرعي والحسبة. بل هناك خلاف بين الفقهاء المعتقدين بولاية الفقيه الخاصة، بين من يوسع دائرة الأمور الحسبية العامة وبين من يقلصها. وهناك خلاف أيضاً بين الفقهاء المؤمنين بولاية الفقيه على الحكم، بين من يقيدها بالقانون (الدستوري والدولي) وبين من يطلقها، لتكون متقدمة على القانون.
4- الخلاف بين الفقهاء حول مساحة ولاية الفقيه؛ تخصيصاً وتعميماً وإطلاقاً؛ لاعلاقة له بالنجف وقم، ولا بأية حوزة أخرى؛ فهناك فقهاء معاصرون في النجف يعتقدون بولاية الفقيه العامة، وآخرون يعتقدون بولاية الفقيه الخاصة. فمن خلال مراجعة كتاب “عقائد الإمامية” للفقيه النجفي الشيخ محمد رضا المظفر ـ مثلاً ـ؛ سنجد أنه أشار الى ولاية الفقيه العامة المطلقة منذ خمسينات القرن الماضي؛ أي قبل أن يطرحها الإمام الخميني ويفصِّلها في النجف في أواخر ستينات القرن الماضي. ومن فقهاء النجف الذين طرحوا ولاية الفقيه العامة بالمساحة نفسها التي يقول بها الشيخ المظفر: الشهيد السيد محمد باقر الصدر والشهيد السيد محمد الصدر وغيرهما. وفي المقابل هناك مراجع وفقهاء كبار أحياء في حوزات قم وطهران ومشهد لا يعتقدون بولاية الفقيه العامة. وبالتالي فإن من يقول بأن مبدأ ولاية الفقيه العامة هو مبدأ فقهي قمي أو إيراني فهو يجهل بديهيات البحث الفقهي، أو أنه يهدف الى إيجاد موضوع للخلاف بين الحوزتين لأغراض سياسية وطائفية.
5- إن السبب في إنتشار مبدإ ولاية الفقيه العامة بين فقهاء قم، وانتشار مبدإ ولاية الفقيه الخاصة بين فقهاء النجف، يعود الى قضية فنية بحتة لها علاقة بالجغرافيا فقط؛ فالإمام الخوئي الذي يقول بولاية الفقيه الخاصة؛ كان يقيم في النجف، والإمام الخميني الذي يقول بولاية الفقيه العامة كان يقيم في قم. ولذلك؛ فإن من الطبيعي أن يكون أغلب تلاميذ الإمام الخوئي يقيمون في النجف، وقد ورثوا من أستاذهم القناعة العلمية نفسها، وفي مقدمهم السيد السيستاني. أما تلاميذ الإمام الخميني، فإن أغلبهم يقيم في قم، وقد ورثوا من استاذهم القناعة العلمية نفسها، وبينهم السيد الخامنئي. وبالتالي فإن موضوع الخلاف حول مساحات ولاية الفقيه لاعلاقة له بخلاف مزعوم بين حوزتي النجف وقم؛ بل برؤيتين علميتين لمدرستي الإمام الخوئي والإمام الخميني، وهما المدرستان الفقهيتان المعاصرتان الأبرز حضوراً في الوقت الحاضر.
6- إذا كان مرجع النجف السيد السيستاني يعتقد بولاية الفقيه الخاصة؛ أي عدم شمولها على موضوع الحكم؛ فإنما هو اجتهاد شخصي، وليس مبنىً نجفياً، ومن الممكن مستقبلاً صعود فقيه لموقع المرجعية العليا يعتقد بولاية الفقيه العامة، وسيكون اجتهاداً شخصياً أيضاً. ولكن ستكون له تبعاته على الشأن العام دون شك. وربما يحدث الأمر نفسه في حوزة قم. فالسيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني الذي تفرد بكرسي المرجعية العليا في قم بعد وفاة الإمام الخميني والشيخ الأراكي؛ لم يكن يعتقد بولاية الفقيه العامة، فضلاً عن المطلقة. كما أن أبرز مرجعين حالياً في قم، هما الشيخ حسين الوحيد الخراساني والشيخ ناصر مكارم الشيرازي؛ الأول يؤمن بولاية الفقيه الخاصة بمساحتها الضيقة كما هو مبنى أستاذه السيد الخوئي، والثاني يؤمن بولاية الفقيه العامة المطلقة كما هو مبنى الإمام الخميني. أي أن مبدأ ولاية الفقيه العامة ليس مبنىً قمياً. وبالتالي؛ فإن هذا الموضوع هو موضوع اجتهادي شخصي للفقهاء، ولا علاقة له بجغرافيا الحوزة.

ومن اجل التعرف على الموقف الفقهي للسيد السيستاني من مبدإ ولاية الفقيه؛ أعرض هنا عدداً من النصوص الفقهية للسيد السيستاني، والمنشورة على شكل استفتاءات في كتاب “الفوائد الفقهية طبقاً لفتاوى آية الله العظمى السيد علي السيستاني” المتوافر بشكل ورقي. فضلاً عن أن الإستفتاءات نفسها منشورة في موقعه الرسمي على شبكة الإنترنيت:
سؤال 93: ما معنى ولاية الفقيه ؟
الجواب : ((يعني نفوذ أحكامه شرعاً في موارد ثبوت الولاية له)).
الفوائد الفقهية، ج١ ص٥٣.
سؤال 49: ما حدود ولاية الفقيه عندكم ؟
الجواب: ((الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء (رض) بالأمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد، وأما الولاية فيما هو أوسع منها من الأمور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الاسلامي؛ فلمن تثبت له من الفقهاء ولظروف إعمالها شروط اضافية، ومنها أن يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين)).
الفوائد الفقهية، ج١ ص38 – 39.
سؤال 41: هل يجب اتّباع الفقيه في أحكامه التي يصدرها ؟
الجواب: (( إذا كان حكمه في موارد ثبوت الولاية فلا تجوز المخالفة)).
الفوائد الفقهية، ج١ ص٣٥.
سؤال 43: ما حدود حاكمية الحاكم وموارد نفوذها في حق مقلِّدي الغير ؟
الجواب: ((تنفذ أوامر من تثبت له الولاية من الفقهاء على الجميع في الأمور الحسبية؛ بل وفي الأمور العامّة التي يتوقف عليها نظام المجتمع الإسلامي)).
الفوائد الفقهية، ج١ ص٣٦.
السؤال 63: هل يجب على باقي الفقهاء الذين لايرون ولاية الفقيه العامة؛ إطاعة الأحكام الولائية الصادرة عنه لضرورة حفظ النظام الإسلامي؟
الجواب: حكم الفقيه الذي ثبتت له الولاية في موارد ثبوتها؛ لايجوز نقضه ولو لمجتهد آخر، إلّا إذا تبين خطؤه ومخالفته لما ثبت قطعاً في الكتاب والسنة.
الفوائد الفقهية، ج ١ ص 45.
سؤال 90: هل الأحکام الولائية للولي الفقيه نافذة علی جميع مسلمي العالم أم هي خاصة بمنطقة نفوذه وولايته ؟
الجواب : ((ولاية الفقيه فيمن تثبت له مواردها لا تتحدّد ببقعة جغرافية)).
السيد السيستاني، الفوائد الفقهية، ج ١ ص ٥٣.
سؤال 146: هل يجوز تشريع القوانين استناداً الى اقتضاء المصلحة؟
الجواب: يجوز ذلك لمن له الولاية شرعاً ضمن شروط خاصة.
الفوائد الفقهية، ج ١ ص 70.
هذه النصوص كلها تؤكد أن السيد السيستاني يعتقد بولاية الفقيه إعتقاداً قاطعاً؛ كغيره من الفقهاء؛ بل أنه يوسع مساحة حفظ النظام العام الثابتة للفقيه الجامع لشروط الإجتهاد والعدالة والمقبولية العامة من المؤمنين. أما في مساحة الولاية المطلقة على النظام السياسي؛ فإنه يؤكد عدم ثبوتها لديه؛ برغم أنه يوجب إطاعة الولي الفقيه الذي قبل المؤمنون بولايته، حتى على المجتهدين الآخرين، وعلى المؤمنين خارج منطقة نفوذه الجغرافي، كما نفهم من النصوص.