23 ديسمبر، 2024 10:04 ص

المرجعية الشيعية وخيارات ما بعد السيستاني والخامنئي

المرجعية الشيعية وخيارات ما بعد السيستاني والخامنئي

القسم الثاني:
الحوزة العلمية في قم
ونهضة ما بعد 1979
تعود جذور الحوزة العلمية القمية في ايران الى زمن هجرة قبيلة الأشعريين الكوفية العراقية الى قم في أواخر القرن الأول الهجري (القرن السابع الميلادي)، والذين أسسوا مدينة قم الحالية وحوزتها العلمية. وبذلك تعد قم ـ الى جانب الكوفة وبغداد ـ إحد أقدم ثلاث حوزات علمية شيعية في التاريخ. إلّا أن مرحلة تألق الحوزة العلمية في قم كان خلال القرن الرابع الهجري (القرن التاسع الميلادي) في عهد مرجعية زعيم الشيعة في وقته الشيخ محمد بن علي بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق.
إلّا أن حوزة قم ضعفت بالتدريج؛ بفعل عوامل ضاغطة؛ حتى انتقل اليها المرجع الديني الشيخ عبد الكريم الحائري في العام 1919، الذي تخرج من حوزة النجف الأشرف؛ ليعيد إليها مجدها العلمي الديني التبليغي. ثم أصبحت مركز المرجعية العليا لمرة واحدة، وذلك في عصر مرجعية السيد حسين الطباطبائي البروجردي في خمسينات القرن الميلادي الماضي، بعد وفاة مرجع النجف السيد أبي الحسن الموسوي الإصفهاني. بيد أن تأسيس الجمهورية الإسلامية في ايران في العام 1979، وحملة الإجتثاث البعثي للحوزة النجفية؛ أعطى دفعاً قوياً للحوزة القمية، وأسس لنهضة نوعية وكمية شاملة.
و تحوّلت الحوزة العلمية في قم بالتدريج الى مؤسسة علمية منظمة كبرى، تضم مئات الجامعات والمدارس الدينية ومراكز البحوث والتبليغ والإعلام والمكتبات العامة وقاعات المؤتمرات والمؤسسات الخدمية، وباتت قريبة من الهيكيليات والأنساق الأكاديمية، مع احتفاظها بنكهة الدرس المسجدي التقليدي. وهي في مضمونها تشبه أطروحة السيد محمد باقر الصدر في المرجعية الرشيدة. ومن أبرز الأنساق التي تم فرضها هي الإمتحانات الدورية والسنوية العامة للطلبة، وعدد سنوات كل مرحلة من مراحل الدراسة، وشهادات التخرج، والإختصاصات الفرعية، والدروس التكميلية، كاللغات الأجنبية والعلوم الإجتماعية والكمبيوتر. و قد تبلور هذا التحول التنظيمي الكبير في حوزة قم بعد العام 1994، عبر خارطة طريق نفّذتها جماعة مدرسي الحوزة العلمية وغيرها، بتوجيه مباشر من السيد علي الخامنئي؛ حتى أضحت أكبر مؤسسة علمية دينية منتجة في العالم، ليس على مستوى العالم الإسلامي وحسب؛ بل على مستوى الأديان كافة.
و بلغ عدد منتسبي الحوزة العلمية في قم في العام 2020 حوالي (100) ألف طالب وأستاذ. فيما بلغ عدد منتسبي حوزات مشهد و إصفهان وطهران حوالي (40) الف شخص، إضافة الى (10) ألاف منتسب في باقي مدن إيران. كما بلغ عدد المجتهدين في قم وحدها حوالي (250) مجتهداً أو من يرى في نفسه ملكة الإجتهاد، بينهم ما يقرب من (100) مجتهد يدرِّسون البحث الخارج (الدراسات العليا). أي أن هناك (100) صف للبحث الخارج تقريباً في قم، إضافة الى حوالي (30) صف للبحث الخارج في مشهد وطهران واصفهان. وهي نسبة يعتقد الإيرانيون أنها قليلة؛ قياساً بحاجة (70) مليون شيعي في ايران وحدها، فضلاً عن حاجة الدولة المتزايدة الى الدراسات الفقهية لقضاياها المتشعبة.
ومن مجموع منتسبي الحوزات العلمية الإيرانية، يوجد مايقرب من (15) ألف منتسب غير ايراني ينتمون الى حوالي (70) جنسية، وغالبيتهم من العراق وافغانستان وباكستان والهند ولبنان والبحرين والسعودية وآذربيجان. كما أن هناك أكثر من (20) ألف منتسبة من النساء، بينهنّ مجتهدات وعالمات دين معروفات.
و يبلغ عدد المجتهدين الأحياء في حوزة قم ممن نشروا رسالة تقليد عملية، ما يقرب من (40) مجتهداً، أغلبهم من الإيرانيين، إضافة الى عدد من العراقيين والأفغانستانيين والباكستانيين. ولكن المرشحين للتقليد من حوزة قم، الذين سبق لجماعة المدرسين في قم وغيرها من المؤسسات العلمية أن طرحت أسماءهم على دفعات، بعد وفاة المراجع الكبار الإمام الخميني في العام 1989 والإمام الخوئي في العام 1992 و السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني في العام 1993 والشيخ محمد علي الأراكي في العام 1994، هم تسعة مراجع. و من لايزال منهم على قيد الحياة ستة فقط، أربعة منهم في قم: الشيخ حسين الوحيد الخراساني والشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد موسى الشبيري الزنجاني و الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني، و واحد في طهران: السيد علي الحسيني الخامنئي، و واحد في النجف الأشرف: السيد علي الحسيني السيستاني.
و يعد مكتبا السيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني أهم مكتبين مرجعيين في قم. ويعمل مكتب السيد الخامنئي بشكل مستقل إدارياً ومالياً ووظيفياً عن مكتبه الرسمي في طهران؛ لأن مكتب قم هو مكتب مرجعي حوزوي، ويمارس شأناً دينياً علمياً محضاً، ويشرف على عمل المدارس والجامعات والمؤسسات العلمية الدينية التابعة له، وشؤون الوكلاء والمعتمدين المرجعيين داخل إيران وخارجها. في الوقت الذي لايزال السيد الخامنئي يقدم دروسه في البحث الخارج في حسينية الإمام الخميني في طهران، ويحضرها ما يقرب من (700) عالم دين.
أما مكتب السيد علي السيستاني في قم؛ فلعله أنشط مكتب مرجعي في العالم وأكثرها تنظيماً وتقديماً للرعاية العلمية والتبليغية والخيرية، ويشرف على المؤسسات والمكاتب الفرعية لمرجعية السيد السيستاني داخل ايران وكثير من دول العالم.
وفضلاً عن تسع جامعات و ما يقرب من (200) مدرسة علمية دينية؛ فإن حوزة قم تضم أكثر من (150) مركز تبليغ وبحوث ودراسات وتحقيق ونشر وطباعة، و حوالي (50) مجلة علمية تخصصية، وعشرات المكتبات العامة، وأكثر من (20) مركز بحثي وتحقيقي كمبيوتري. فضلاً عن عدد من المؤسسات الخدمية والمالية والخيرية.
وعلى صعيد سياقات اختيار مراجع التقليد؛ فإن سياقات حوزة قم لا تختلف عن سياقات حوزة النجف؛ لكنها تحاول منذ ثلاثة عقود تقريباً مأسسة هذه السياقات، وتقنين عمل جماعات أهل الخبرة وجماعات الضغط، أي تحويلها الى جماعات علنية تمارس دورها بشفافية. وباتت هذه الجماعات تنتظم في مؤسسات علمية دينية تضم عدداً كبيراَ من المجتهدين، وتأخذ على عاتقها ترشيح المراجع الجدد الذين تراهم يتمتعون بشروط مرجعية التقليد بعد وفاة المرجع الأعلى. ولا تحدد هذه المؤسسات عادة مرجعاً معيناً؛ بل أكثر من مرجع، وتترك الخيار للناس (المكلفين) لاختيار من يرونه مناسباً بالتشاور مع علماء دين آخرين.
وأهم ثلاث مؤسسات وجماعات حوزوية قمية تتدخل في ترشيح مراجع التقليد: جماعة مدرسي الحوزة العلمية ومجلس شورى الحوزة العلمية، ومجلس شورى الحوزات العلمية في ايران. وتنبع أهمية هذه المؤسسات من كونها منظمة تنظيماً مؤسسياُ إدارياً، وتستقطب أغلبية أساتذة الحوزات العلمية وأئمة الجمعة والجماعات في البلاد وعلماء الدين والمبلغين في المناطق، إضافة الى علاقاتها الواسعة والقوية مع علماء الدين الشيعة في خارج إيران.
وعلاقة الحوزة العلمية في قم بالدولة الإيرانية هي علاقة تخادم ودعم متبادل وليست علاقة تبعية؛ إذ ظلت الحوزة محافظة على استقلاليتها بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية؛ بالرغم من نفوذ الحوزة القوي في مفاصل الدولة. وحتى قبل تأسيس الجمهورية الإسلامية، فإن العلاقة بين الدولة والحوزة كانت علاقة هادئة ومنسجمة؛ لأن الحوزة كانت تنظر الى الدولة الإيرانية كونها دولة شيعية وتحمي المذهب. وهذا لم يكن يمنع علماء الدين في ايران من توجيه النقد الشديد الى الدولة، ولكن لم يفكر أي من المراجع يوماً بإسقاطها. ولم يكسر هذه القاعدة سوى الإمام الخميني، الذي أعلن عن عدم شرعية النظام الملكي الوراثي، وفساد الحكومات الشاهنشاهية، ثم أسقطها وأقام النظام الجمهوري الإسلامي القائم على مبدإ “ولاية الفقيه العامة”