20 مايو، 2024 4:33 ص
Search
Close this search box.

المرجعية الدينية…النشأة  والتحولات

Facebook
Twitter
LinkedIn

ولدت المرجعية الدينية عند الشيعة الامامية كضرورة  تاريخية ملحة لبقاء الطائفة وديمومتها بعد الغيبة الكبرى للامام الثاني عشر عندهم محمد ابن الحسن (ع) الملقب بالمهدي .. التي حدثت بوفاة اخر سفرائه الاربعة ابو الحسن علي بن محمد السمري سنة 329 هجرية ..مستندة في نشأتها على الرسالة التي بعث بها الامام اثناء الغيبة الصغرى الى احد اعيان الشيعة ان ذاك  بان الحوادث والمستجدات من الامور الفقهية يرجع فيها الشيعة الى رواة حديثنا ..كما روى الشيخ الصدوق في كتاب (كمال الدين) والشيخ الطوسي في (كتاب الغيبة )..عن محمد بن يعقوب الكليني عن اسحاق بن يعقوب قال..(سالت محمد بن عثمان العمري ( السفير الثاني ) ان يوصل الى الامام (ع) كتاب قد سالت فيه عن مسائل اشكلت علي فورد التوقيع بخط الامام صاحب الزمان (ع)..اما ما سالت عنه ارشدك الله وثبتك واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله عليكم )..  وبقي مفهوم رواة الحديث تشوبه بعض الضبابية لعدم وجود اطار تنظيمي وفقهي يتبلور من خلاله بالرغم من وجود شخصيات لها ثقلها في المجتمع الشيعي وتأثيرها الفكري كالشيخ المفيد والشيخ الكليني والسيد المرتضى وغيرهم العشرات الذين اثروا المذهب الجعفري بعشرات الكتب والمؤلفات التي نقلت وشرحت الالاف الروايات عن النبي محمد (ص) والائمة المعصومين عندهم شكلت المنظومة الفقهية للمذهب لكن بقيت الطائفة  بحاجة الى مؤسسة تعمل على تبني هذا الفقه لحاجتهم لوجود الرمز الديني الذي يحل محل الامام المعصوم كنائب له يرجعون فيه ايه في امور دينهم ودنياهم  اضافة الى  استلام الحقوق الشرعية من المكلفين التي توجب عليهم دفع هذه الحقوق والتي كانت تسلم فيما سبق للامام المعصوم في حياته ..وتحدد لهم توجهاتهم السياسية والفكرية ضمن اطار الدين والعقيدة الامامية نظرا  لما كان  يدور حولهم من صراعات وتجاذبات سياسية وفكرية وعقائدية في العالم الاسلامي لكثرة التشظي الذي عاناه الفكر الاسلامي بشكل عام والشيعي على وجه الخصوص حيث مر منعطفات خطيرة بفعل الضغط والتضيق عليه من قبل السلطات الحاكمة والتأثيرات السياسية أضافة الى غياب الرؤية الواضحة لبعض ابناء الطائفة  ..وظهرت بوادر هذا التشظي بعد استشهاد الامام الحسين (ع) سنه 61 هجرية حيث توجه بعض الشيعة الى محمد بن علي بن ابي طالب  المعروف بمحمد ابن الحنفية وجعلوه اماما لهم بعد اخيه الحسين وهم الكيسانية اتباع  المختار بن عبيد الله  الثقفي الذي ثار سنه 66 هجرية في الكوفة طلبا لثار الامام الحسين من خلال كسب تاييد ومباركة محمد ابن الحنفية وقد اختلف المؤرخون في اصل الكيسانية فمنهم ذهب الى ان الاسم جاء نسبة الى قائد شرطة المختار كيان ابي عمرة واخرين ذكروا على انه احد اسماء المختار او محمد ابن الحنفية  وبقيت هذه الفرقة قائمة لقرون بعد مقتل المختار الثقفي وهي تؤمن بان محمد ابن الحنفيه هو مهدي هذه الامة ومحبوس في جبل رضوي  احد جبال الحجاز ويحرسه اسدان الى ان ياذن الله له بالخروج ..وكذلك الفرقة الزيدية نسبة الى زيد بن علي ابن الحسين الذي قتل في الكوفة سنه 122 هجرية بعد ثورته على الحكم الاموي في زمن هشام بن عبد الملك ولازالت هذه لفرقة باقية الى يومنا هذا في اليمن وبعض البلدان المسلمة والتي تتبع المذهب الحنفي في تعاملاتها الشرعية ..والفرقة الاسماعيلية نسبة الى محمد ابن اسماعيل بن جعفر الصادق ..الذين اعتقدو ان الامامة قد الت الى اسماعيل بعد وفاة الامام جعفر الصادق (ع) بدلا من الامام موسى الكاظم (ع) ..ويحتج عليهم الشيعة الامامية بان اسماعيل قد مات في حياة ابيه وقد انتشرت هذه الفرقة في ربوع الامة الاسلامية حتى وصلت الى شمال افريقيا واسست دولة كبيرة هناك في تونس واتخذت عاصمة لها اسمتها المهدية سرعان ما انتقلت الى مصر والسودان في زمن الخليفة المعز الفاطمي لتدوم اكثر من قرنين (909 _1171) ميلادي  اضافة الى دولتهم في البحرين التي سميت دولة القرامطة نسبة الى احد مؤسسي هذه الفرقة ..ولازالت بقاياها متواجدة بعض البلدان العربية والاسلامية ..واستمر هذا التشظي لينتج عشرات الفرق والطوائف التي ابتعدت كثيرا عن مفاهيم وثوابت التشيع حتى عد الشيعة الامامية الكثير منها بانها خرجة عن الدين والملة..لذلك كان من الضرورات التاريخية نشوء منظومة فكرية وفقهية وقيمية للشيعة الامامية في ظل هذا الكم الكبير من الافكار والنظريات المطروحة ..فولدت هذه المنظومة في بغداد في عهد الدولة البويهية الشيعية القادمة من جنوب بحر الخزر (قزوين) والتي احتلت بغداد سنه 334هجرية على يد معز الدولة احمد بن بويه وهم اول من مارس الطقوس والشعائر الحسينية بصورة علنية وباشراف الدولة في ازقة وشوارع بغداد لذلك كانت يمثل وجودهم ارضية خصبة ومنتجة لتبلور ونشوء الحوزة العلمية الشيعية فقام الشيخ ابو جعفر محمد ابن الحسن الطوسي الملقب بشيخ الطائفة المولود في خرسان في مدينة طوس (مشهد حاليا) سنة 385 هجرية بانشاء هذه الحوزة في بغداد بعد ان خلف استاذه السيد المرتضى في زعامة الطائفة مستغلا هذه الاجواء الايجابية التي تصب في صالح الطائفة وبدات تمارس دورها كمرجعية دينية وثقافية واجتماعية للشيعة الامامية والف الشيخ اهم كتبه الفقهية والتي تعد من اهم كتب الشيعة ومن ضمن كتبهم الاربعة التي حفضت تراث وفقه اهل البيت وهما (التهذيب والاستبصار )..وبعد سقوط الدولة البويهية على يد السلاجقة الاتراك سنه 447 هجرية تعرض الشيخ وحوزته لمضايقات وتحديات كثيرة انتهت بمحاولة قتله وحرق مكتبته الكبيرة (شابور) الغنية بكنوز الفكر والادب والفقه على يد السلطان طغرل بيك سنة 448 هجرية والتي لم يكن يومها مكتبة اعظم منها في العالم الاسلامي كما يذكر ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) ..فنتقلت الحوزة الى النجف الاشرف لينشئ جامعة علمية خرجت الاف الفقهاء سميت بعد ذلك ب(الحوزة العلمية) ..مستغلا الانتماء المذهبي والتعاطف الذي ابداه اهل المدينة اتجاهه  في ظل حرم الامام علي بن ابي طالب (ع)..وأبتعاده عن مركز الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية في بغداد ..ويعتبر الطوسي مؤسس مرحلة جديدة في الفكر الفقهي الجعفري والتي مكنته من استنباط الاحكام الشرعية لكل واقعة ..كما جاء في كتاب (مباني الاستنباط)..للسيد ابو القاسم الخوئي (كان الشيخ الطوسي منطلق مرحلة جديدة في تطور الفكر الفقهي وقد استطاع بنهضته الجبارة ان يقدم في نتاجه الفقهي الدليل المحسوس على الاصول الفكرية لمدرسة اهل البيت قادرة على تزويد الفقيه بالمناهج والادوات الفكرية التي تمكنه من استنباط اي حكم في جميع الوقائع ).. وقد اختط منهجا وطريقا لهذه الحوزة حاول جهد امكانه الابتعاد عن السياسة ملتزما بمدرسة الامام علي ابن الحسين (ع) التي كرست نفسها لنقل وتدريس علوم الدين والشريعة والابتعاد عن اقحامهما في الامورالسياسة وقد سار على هذا النهج معظم رجال  الحوزة الذين توالوا على زعامتها الى يومنا هذا الا ما ندر وحسب الظرف التاريخي التي تمليه عليها لوقائع والاحداث كفتوى منع تدخين التنباك التي اصدرها المرجع ايه الله محمد حسن الشيرازي من مدينة كربلاء المقدسة .. نتيجة اعطاء ملك ايران القاجاري ناصر شاه عام 1890 حق بيع وشراء التبغ والتنباك لصالح شركة بريطانية وكان عشرين بالمئة من الشعب الايراني يعملون في هذا القطاع فاصدر السيد الشيرازي فتوى عام 1891 جاء فيها (ان استعمال التنباك والتبغ باي نحو كان بحكم محاربة امام الزمان عجل الله فرجه ) ..وكذلك تزعم المرجع اية الله السيد محمد تقي الشيرازي ثورة العشرين التي حدثت في وسط وجنوب العراق ضد البريطانيين  في حزيران عام 1920 مما اجبرهم على تشكيل حكومة وطنية عراقية وتنصيب ملك على العراق ..وهنا نشير هل ان ماحصل يعتبر خطئ سيتراتيجي وقعت فيه الحوزة العلمية ان ذاك نتج عنه استبعاد واقصاء الطائفة من الحياة السياسية في العراق من قبل المحتلين الانكليز ..ام انه موقف مبدئي وطني ذو دوافع دينية تصدى لغزو عسكري يحمل في طياته ثقافة غربية غريبة عن واقعنا الشرقي الاسلامي ..وقد واجهت الحوزة العلمية تحديات كثيرة على مدى تاريخه الطويل الذي دام لالف عام كان اكبرها واخطرها في القرن العشرين نتيجة نشوء وتبلور حركات واحزاب وتيارات علمانية ويسارية وقومية في العراق والعالم الاسلامي وانتشارها في الاوساط المجتمعية لهما  وحدوث انقلابات وثورات غيرت من الواقع السياسي والاجتماعي وخلقت نوع من التجاذبات بين الحوزة والحكومات الجديدة اضافة الى القفزة الكبيرة التي حققها العالم المتحضر في مجال التكنلوجيا والتطور العلمي مما شكل تحديا لها في مجارات هذا التقدم العلمي واصدار الفتاوى التي تتلائم معه واجراء عملية موائمة بين الدين وهذه العلوم الحديثة  وكانت الولادة لمثل هذا التوجه على يد اية الله السيد محسن الحكيم الذي تزعم الطائفة الشيعية في العالم بعد وفاة اية الله حسين البروجردي عام 1961ويعتبر السيد الحكيم مجدد و مؤسس الحوزة العلمية الحديثة حيث قام بموكبة التطورات الفكرية والعلمية التي تجتاح العالم الحديث من خلال افتتاح مدارس علمية في اغلب محافظات الوسط والجنوب وادخال مناهج علمية حديثة كتدريس الفلسفة والاقتصاد والتفسير اضافة الى افتتاح عدة مكتبات كان اكبرها مكتبة الحكيم التي ضمت ثلاثين الف كتاب وخمسة الالاف مخطوطة نادرة وقد شكل علامة مشرقة في تاريخ الحوزة العلمية ..لكن اصعب المحن التي مرت بها الحوزة في تاريخها الحديث هو وثوب البعث على السلطة بعد انقلابي (1963 _1968) ..وقيامه باضطهاد وملاحقة علمائها والتضيق عليها انتهت باعدام اية الله السيد محمد باقر الصدر واخته بنت الهدى ومن بعدهم كوكبة شهداء من طلبة ومثقفي العراق الذين تاثروا بنهجه الثوري المعادي لنظام البعث الفاشي وكان للحرب العراقية الايرانية الاثر الاكبر في محاربة النظام للحوزة ومحاولة اجبار زعيمها اّن ذاك اية الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي على اصدار فتوى لصالح النظام في حربة ضد الجارة المسلمة ايران وكانت نتيجة رفضه لذلك هي محاولة اغتياله لاكثر من مرة كان اخرها تفجير سيارته الخاصة والتي نجا فيها من الموت باعجوبة ..وبعد هزيمة صدام في الكويت واندلاع الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991في وسط وجنوب العراق سارعت هذه المرجعية بتايدها والشد من ازرها لكنها لم تعلن الجهاد في حينها لدوافع فقهية تدخل في صلب العقيدة الجعفرية والتي تتبنى ان لاجهاد الا تحت راية الامام المعصوم  وبعد اجهاض النظام لهذه الانتفاضة عمد على فرض الاقامة الجبرية على السيد الخوئي لحين وفاته عام 1992 ..واخر المنعطفات التي تصدت لها المرجعية الدينية وبحكمة بالغة اذهلت العالم والمتصيدين بالماء العكر هي دخول قوات التحالف الغربي بزعامة امريكا الى العراق وسقوط الصنم سنة 2003 حيث وقفت بالضد من هذا الغزو لكنها لم تتخذ نفس الموقف الذي تعاملت به كمؤسسة اثناء الاحتلال البريطاني سنة 1920 واعتقد انها كانت اكثر براغماتية هذه المرة كون نظام صدام هو من جلب هذا الاحتلال وانه كان اداة من ادواته ..ولتجنيب الشيعة العرب في العراق حالة الاقصاء مرة اخرى كما حدث عام 1921 وبقيت هذه المرجعية المتمثلة بسماحة اية الله العظمى السيد علي السيستاني الراعية لكل ماهو يصب في صالح العراق والعراقيين على اختلاف اديانهم ومذاهبهم وقومياتهم فطالبت بكتابة دستور جديد للعراق وان يشترك في صياغته الجميع دون اقصاء لاي طرف وحثت على الانتخابات ودعت اليها وباركتها واصبحت صمام الامان لنزع فتيل الفتنة الطائفية التي حاول اعداء العراق في الداخل والخارج اثارتها بين ابناء الشعب وحين كان يسئل سماحته عن سنة العراق يقول (لاتقولوا اخواننا السنة بل قولوا انفسنا ) .. وما الفتوى التي اصدها في 13 حزيران والتي حملت بعدا سيتراتيجيا وتاريخيا عميقا ودليل على حضور هذه المرجعية الرشيدة بين ابنائها في كل الملمات التي يمرون بها ، والتي  قلبت السحر على الساحر ..باعلانه الجهاد الكفائي كواجب على كل من يستطيع حمل السلاح من اجل الدفاع عن الوطن والمقدسات التي ارادت قوى الظلام المتمثلة بداعش ومن لف لفها استباحتها والنيل من شعب العراق بكل طوائفه وانتماءاته .. ان هذا النهج العقائدي والمحوري الذي انتهجته المرجعية الدينية على مر العصور ماهو الا نتاج لتراث فكري رصين  وثر غني بعطائه الانساني والحضاري والذي كانت مبدئيته خارج الصراعات والميول والاهواء وسيبقى هذا الخط قائم الى ما شاء الله وذلك لقوة ومتانة ايمانه بالغاية التي اسست من اجلها الحوزة العلمية الشريفة والاهداف التي تسعى لتحقيقها وسيبقى هذا الزخم بامتداداته باقيا وان تغيرت الاسماء والعناوين وتشتت بالناس الاهواء والسبل وستفرز لنا هذه الحوزة في كل عصر وزمان رجال قادرين على تحمل والنهوض بالمسؤلية التاريخية الملاقاة على عاتقهم اتجاه الانسانية جمعاء والتصدي لمهمة المرجعية الى ان يأذن الله تعالى.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب