تمــهيـــــــــد
في مقالة سابقة -نشرها هذا الموقع الأغر- عن معايشتي للمحاولة الإنقلابية التي أقدم عليها “عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” برفقة العديد من قادة “كتلة الضباط القوميين/الناصريين” منذ مساء (15/أيلول/سبتمبر/1965) وحتى مساء اليوم التالي حتى أُبلِغنا بفشلها.
ولكن تساؤلات وإستفسارات مُستغربة ظلّت تحيّرني طيلة ثلاثة عقود من الزمن وكَمُنَت في صميمي أسوةً من دون أن أعثر على حقائق محددة جعلت من تلك الحركة الإنقلابية تخفق ولم يُشرَع بها على أرض الواقع، ناهيك عن كيفية التخطيط لها والمُفارقات التي صاحبتها، حتى عزمتُ عام (1997) على كتابة مسودة كتابي الموسوم “الرئيس عبدالسلام محمد عارف… كما رأيته”.
كان أعظم ما يُحيّرني:-
((لماذا إستحضر السيد “عارف عبدالرزاق” -صاحب خمسة مناصب عالية لدى الدولة- مع صحبه لخطوة تراجعية جعلتهم يتوجهون إلى مطار عسكري ويهربوا؟؟؟)).
فإستشعرتُ أن حق تأريخ العراق المعاصر يفرض على كاهلي أن ألهث وراء الحقائق وأبحث عن شخصيات وشخوص صنعوا جزءاً أو أجزاء من هذا الحدث، أو شاركوا في بعضه، وآخرين عاشوا في قلبه، أو شاهدوا بأم أعينهم قسماً منه بحكم المناصب التي كانت مُناطة إليهم في أواسط الستينيات من القرن العشرين.
لقائي مع المرافق الشخصي لقائد الإنقلاب
شددتُ الرحال أوّل الأمر إلى مدينتي الحبيبة “كركوك”-التي ولدتُ فيها ونشأتُ- لألتقي زميلي “الرائد المتقاعد إحسان عارف آغا بيراقدار” الذي شغل منصب الـمُرافق العسكري الشخصي لـ”عميد الجو الركن عارف عبدالرزاق” منذ تسنّمه منصب قائد القوة الجوية أواخر عام (1963) ولعامَين متتاليَين، حتى رافَقَه أخيراً في الطائرة التي هرب بها من “مطار الرشيد العسكري” إلى “القاهرة” ظهر (الخميس-16/أيلول/1965).
إلتقيته في دكانه البسيط والمتواضع للغاية بأحد أزقة منطقة “أحمد آغا” لـ(4) ساعات متلاحقات من ظهيرة (الأربعاء-16/نيسان/أبريل/1997) وبحضور الأستاذ “عبدالمجيد الحاج حسن حَمامْجي” الذي إستمع لـما دار بيننا.
كنتُ قد إستحضرتُ أسئلتي نحوه بدءاً من كيفية إنتقائه مُرافِقاً شخصياً لـ”عارف عبدالرزاق” من بين جميع ضباط القوة الجوية العراقية في حينه، رغم عدم إنتمائه إلى “كتلة الضباط القوميين”، فضلاً عن كونه “تركمانياً”، وإنتهاءً إلى مشاهداته الشخصية ومعايشته لساعات الحركة الإنقلابية، وما تلاها من أحداث، فتحدّث لي مشكوراً*:-
* سؤال:- ما الذي أوصلك لتكون مرافقاً عسكرياُ للسيد “عارف عبدالرزاق”؟؟!!
* الرائد إحسان:- كان السيد “عارف عبدالرزاق” برتبة “مقدم طيار ركن” آمراً/قائداً للسرب/6 المُجهَّز بطائرات “هوكر-هنتر” بريطانية المنشأ في “مطار الحبانية العسكري”، وقتما أضحى آمراً/قائداً لذلك المطار بُعَيد إنقلاب (14/تموز/1958)، وكنتُ في حينه ضابطاً برتبة “ملازم ثان”… وحالما علم أنني أحد أولاد أُخت آمره/قائده السابق في وحدات القوة الجوية “العقيد الطيار نافع عبدالله الصالحي”، فقد قَرَّبَني إليه كثيراً، وراعاني مراعاة أخ لشقيقه الأصغر… وعندما أُحيل على
التقاعد وأُودع السجن إثْرَ فشل حركة “العقيد الركن عبدالوهاب الشواف” في مدينة “الموصل” (8آذار/مارس/1959)، وخلال “المدّ الشيوعي” الذي ساد عموم العراق خلال النصف الأول من عام 1959، فقد زُرتُه مراراً في السجن رقم (1) بـ”معسكر الرشيد”، وحضرتُ إلى دار سكناه بمدينة الضباط “زيونة” حال إطلاق سراحه وفرض الإقامة الإجبارية عليه في مسكنه، فإنه لم يَنْسَ موقفي وفاءً منه، فتواصلت علاقتي معه بعد نجاح حركة (14/رمضان-8/شباط/1963).
ولدى تسنّمه منصب قائد القوة الجوية العراقية أواخر (1963) فقد أصدر أمراً بنقلي إلى منصب “المُرافق الشخصي” فبقيتُ مصاحِباً له منذ تلك الأيام وحتى (16أيلول1965).
أنـا:- وماذا تلمستَ لديه مواقف سلبية حيال الرئيس “عبدالسلام عارف”؟؟
الرائد إحسان:- كان السيد “عارف عبدالرزاق” -بعد حركة (18/ت2/نوفمبر/1963)- عضواً بارزاً لدى المجلس الوطني لقيادة الثورة إضافة الى منصبه العسكري الكبير، في حين أُعتُبِرَ أحد أهم قادة “كتلة الضباط القوميين” التَوّاقين لتحقيق الوحدة المنشودة بين “العراق ومصر” بقيادة الرئيس”جمال عبدالناصر” وبضغط من قياديّي الكتلة جميعاً، وعدد من كبار ضباط القوات المسلحة وصغارهم، وعدد من الوزراء وكبار الشخصيات والسياسيين وموظفي الدولة… ولما بات الإعتقاد السائد لديهم أن الرئيس “عبدالسلام عارف” يتباطأ في خطوات الوحدة المزمعة، فقد قدّم عدد من الوزراء إستقالاتهم، وكان في مقدمتهم إثنان من أصدق أصدقائه، وهما “العميد الركن عبدالكريم فرحان- وزير الثقافة والإرشاد”، و”العقيد الركن صبحي عبدالحميد”- وزير الخارجية سابقاً ووزير الداخلية في حينه.
وقد لاحظتُ منذ أواسط (1965) وقبل الإقدام على محاولته الإنقلابية بأشهر عديدة، إمتعاض “عارف عبدالرزاق” من إسناد بعض المناصب الوزارية الى أشخاص لم يكونوا على
علاقة مع توجّهات العراق القومية… وكنتُ أستمع منه، بحكم ما لا يحجبني عنه سوى باب مكتبه الرسمي، عبارات الغضب مع بعض زائريه أو متحدثيه، وحتى مع شخص “عبدالسلام عارف” من خلال مكالماتهما الهاتفية، والتي تجسّمت بشكل ملحوظ بعد إسناد منصب “وزير الدفاع” الى “اللواء الركن محسن حسين الحبيب”، الذي لم يكن له أي دور يذكر -حسب رأي عارف عبدالرزاق- في حركات (14/تموز/1958) و(14/رمضان-8/شباط/1963) أو (18/ت2/نوفمبر/1963) على التوالي.
أنـا:- وكيف كانت العلاقات الشخصية بين السيد “عارف” والرئيس جمال عبدالناصر”؟؟
الرائد إحسان:- لم يكن “عارف عبدالرزاق” أحد دعائم سياسة الرئيس “جمال عبدالناصر” في العراق فحسب، بل كان من أشدّ المُعجبين به إلى حدّ التقديس وعلى علاقة شخصية حميمة معه… ففي زيارة رسمية لوفد عسكري الى “القاهرة” في أواسط (1965) -على سبيل المثال- بعث الرئيس المصري أحد مرافقيه الشخصيين إلى “ميناء القاهرة الجوي” ليصطحب السيد “عارف” -من دون الآخرين- إلى”قصر الضيافة”، حيث لم أَلْتَقِ به طيلة (3) أيام متتالية رغم من كوني المسؤول الأول عن حمايته وتأمين متطلّباته وتحقيق مواعيده الرسمية والشخصية… وقد ظلّ طيلة فترة بقاء الوفد هناك -والتي مُدّدت إلى (18) يوماً- بمثابة “ضيف شرف” على شخص الرئيس “عبدالناصر”ó.
أنـا:- وكيف أمسى السيد “عارف عبدالرزاق” رئيساً للوزراء؟؟؟
الرائد إحسان:- على الرغم من العلاقات التي شابها الحذر والبرود والوجوم بين “الكتلة القومية” والسيد رئيس الجمهورية بعد “أزمة تموز الوزارية”، فإن “عبدالسلام عارف” فاجأ “عارف عبدالرزاق” بتكليفه لتشكيل وزارة جديدة برئاسته يوم
(6/أيلول/1965)، ومُسنِداً إليه منصب “وزير الدفاع” كذلك، ومن دون أن يعفيه رسمياً من منصب قائد القوة الجوية… ولكني تلمّستُه منزعجاً في أحاديثه مع زائريه ومهنّئيه، بعد أن إنتقل إلى مبنى “مجلس الوزراء”، وذلك أزاء قرار إتّخذه رئيس الجمهورية بتعديل “الدستور المؤقت” يقضي بإلغاء “المجلس الوطني لقيادة الثورة” والذي كان مع عدد من قادة “الكتلة القومية” البارزين أعضاءً دائمين فيه.
أنـا:- وكيف أصبح السيد “عارف” نائباً عن رئيس الجمهورية؟؟
الرائد إحسان:- لم يتبوّأ منصب “نائب رئيس الجمهورية” بالمصطلح الرسمي الدارج، بل أن الرئيس “عبدالسلام عارف” قبل أن يرحل إلى “المملكة المغربية” لحضور مؤتمر القمة العربي الثالث بيوم واحد، فقد أصدر مرسوماً جمهورياً بتشكيل “مجلس جمهوري” ينوب عن رئيس الجمهورية طيلة مدة غيابه عن العراق، وقد ضّم كلاً من ((عارف عبدالرزاق، عبداللطيف الدراجي وزير الداخلية، واللواء عبدالرحمن محمد عارف رئيس أركان الجيش وكالةً)).
أنـا:- حسناً… وكيف أعدّ السيد “عارف” للإنقلاب؟؟؟
الرائد إحسان:- مع ظهيرة الإثنين (13/أيلول/1965) إذْ لم يَمضِ سوى يوم واحد على مغادرة “عبدالسلام عارف” للعراق جلبت أسماعي وناظريّ -لكوني مُرافقاً شخصياً له وسكرتيره ومدير مكتبه الخاص- إتصالات هاتفية وزيارات شخصية متلاحقة كررها العديد من قادة “الكتلة القومية” البارزين، وأخص منهم بالذكر ((العميد الركن عبدالكريم فرحان، والعقيد الركن محمد مجيد سكرتير رئيس أركان الجيش، والعقيد الركن هادي خماس مدير الإستخبارات العسكرية، والعقيد الركن عرفان عبدالقادر وجدي آمر/قائد الكلية العسكرية، والمقدم الركن رشيد محسن مدير الأمن العام))، وأشخاص آخرون لم أتعرف عليهم… ولكن، من دون أن أعرف ما يجري بينهم من أمور، أو أستمع إلى ما يدور فيما بينهم من أحاديث خاصة.
لم يمضِ يومان على هذا المنوال، حتى فوجئتُ عصر يوم (15/أيلول) بمجاميع ضباط ذوي رتب صغيرة (ملازمين وملازمين أوّلين) وقد حضروا أو أُوتِيَ بهم تباعاً في سيارات عسكرية ومدنية مختلفة الطُرُز إلى مبنى (المجلس الوطني) الذي تستقر فيه “رئاسة مجلس الوزراء”، حتى بلغ عددهم حوالي (200) ضابط مساءً… ولاحظتُ أن العديد منهم ينتمون لصنف “الصاعقة، المظلّيين، والمغاوير” الذين إشتركوا خلال (1964) بدورات خاصة لدى المؤسسات التدريبية المصرية.
تجمّع الضباط المذكورون في ((قَبـو)) ذلك المبنى الواسع، وباتوا مسلّحين إما بغدارات “ستَرلِنك” أو بمسدسات أو بكليهما معاً… وقد علمتُ بعد ذلك أن الذي أشرف على تجميعهم وتسليحهم هو “العقيد الركن هادي خماس”ó مدير الإستخبارات العسكرية -الذي تواجد في مكتب رئيس الوزراء خلال تلك الساعات- وأنهم سيُستَخدَمون كمجموعات إقتحامية ضمن محاولة إنقلابية لتنفيذ مهمات محددة.
ومع مغيب شمس يوم (15/أيلول)، إستدعى “عارف عبدالرزاق” صديقه الحميم “العميد سعيد صليبي” قائد موقع بغداد وآمر الإنضباط العسكري العام الى مكتبه… وعلى غير عادته في مرات عديدة سابقة، فإن “صليبي” لم يحضر إلاّ محاطاً بحماية حضيرتَين من جنود الإنضباط العسكري ذوي القبّعات الحمراء المدجّجين بالسلاح، وبصحبته “العقيد حميد قادر” -مدير الشرطة العام- صديق الاثنين معاً.
أنـا:- وهل حضرتَ الأحاديث المتبادلة بينهم؟؟؟
الرائد إحسان:- كلاّ بالطبع، فأنا لم أعرف إلاّ بعد أن تطوّرت المواقف سراعاً، أن “عارف عبدالرازق” قد فاتَحَ “سعيد صليبي” حول إنقلاب أَزْمَعَ على القيام به دون سفك قطرة دم واحدة، موضّحاً له أن كل شيء جاهز لإقصاء “عبدالسلام عارف” من سُدّة الحكم بسهولة ويُسر… إلاّ أن “صليبي” أبَى أن يشارك فيه بشكل مطلق، معتبراً ذلك ((خيانة)) لشخص زميلهم وصديقهم “عبدالسلام عارف” الذي ترك العراق واثقاً بهم، وواضعاً كل أمور البلاد بين أيديهم، وأن ضميره لا يمكن أن يسمح بإقصاء “عبدالسلام” من الحكم بهذا الأسلوب.
وعلى الرغم من محاولات عديدة وتشبّثات جدية لإقناعه طالت حتى بعد منتصف الليل، إلاّ أن “سعيد صليبي” أصرّ على موقفه بشدة، ولم يتراجع.
أنـا:- وماذا عن المكالمات الهاتفية التي يفترض -بحكم منصبك- أن تكون عبر هاتفك وعن طريقك؟؟؟
الرائد إحسان:- لإنشغال السيد “عارف” في خضمّ تلكم الساعات فقد أمرني بالإجابة على جميع المهاتفات الواردة، فيما ظلّ السادة آمر/قائد مطار كركوك العسكري “المقدم الطيار نعمة الدليمي” ومثيله في الحبانية “الرائد الطيار الركن ممتاز السعدون”، وكذلك السفير المصري في بغداد “السيد أمين هويدي/أبو هشام” يهاتفونني مراراً للإستفسار عما آلت إليه المفاوضات الجارية مع “سعيد صليبي”، ويستغربون من إستغراقها كل تلك الساعاتó.
أنـا:- وهل كان السفير المصري يتدخّل في مثل هذه الأمور ولهذه الدرجة؟؟؟
الرائد إحسان:- نعم وأؤكد ذلك… بل كان السيد “أمين هويدي”
يتصرف مع السيد “عارف عبدالرزاق” وكأنه أحد قادة “كتلة الضباط القوميين/الناصريين”.
أنـا:- عجيب!!! على أية حال… أسمعني عن التطورات الأخرى الخطيرة في تلك الساعات.
الرائد إحسان:- خلال تلك الليلة علمتُ أيضاً أن مقر الفرقة المدرعة/3 في “معسكر الحبانية” قد تمّت محاصرته بقوة خاصة تابعة لـ”مطار الحبانية” بسبب رفض قيادة تلك الفرقة المشاركة في الإنقلاب المُزمَعó.
أنـا:- وماذا عن أولئك الضباط الشباب المتجمّعين في القبو؟؟
الرائد إحسان:- كانوا ما زالوا متأهبين بإنتظار ساعة الصفر كي يتوجّهوا على شكل مجموعات إلى أهدافهم… ولكن وقتما وصل إليهم خبر رفض “سعيد صليبي” المشاركة في هذه الحركة، فقد إبتغى العديد منهم الإندفاع نحوه لتصفيته جسدياً قبل أن يغادر المبنى… إلاّ أن “العقيد حميد قادر” ومعه “العقيد الركن هادي خماس” إستطاعا تهدئة حماسهم، حتى أن “عارف عبدالرزاق” إضطر لسحب مسدسه الشخصي مُهدِّداً أن يقتل كل من يتقرَّب من شخص “سعيد صليبي”… ولكن ذلك لم يخفّف الغليان الذي إنتاب نفوس أولئك الشباب، حتى عزم البعض منهم الإندفاع لقتل “عارف عبدالرزاق” كذلك… ولولا وقفة “هادي خماس” الحازمة لحصل في مبنى مجلس الوزراء مذبحة كان من نتائجها سفك دماء العشرات من الضباط “القوميين” أنفسهمóó.
أنـا:- وماذا بعد هذه الإرهاصات؟؟؟
الرائد إحسان:- لـمّا هدأ الموقف بعد ذلك التوتر الشديد فقد أصاب اليأس شخص “عارف عبدالرزاق” وقرر ترك مبنى
مجلس الوزراء والإنتقال الى دار سكناه الواقعة على “شارع الربيعي” وسط مدينة الضباط “زَيُّونَة” وبصحبته “سعيد صليبي” لوحدهما، وأنا ثالثهما بحكم منصبي… وإستمرت الجلسة والمناقشات الهادئة نسبياً حتى قُبيل الفجر دون جدوى، حيث كنتُ أشرف على تقديم الطعام والشاي والقهوة أمامهما… حين قرّر “سعيد صليبي” مغادرة الدار بحماية مراتب الإنضباط العسكري.
أنـا:- موقف صعب للغاية… وهل تبرّأ قادة الكتلة الآخرون منه؟؟؟
الرائد إحسان:- كلاّ لم يتبرأوا أبداً… ولكن “عارف عبدالرزاق” ظلّ مهموماً غارقاً في التفكير، حتى جاءه “هادي خماس” و”رشيد محسن” مع طلوع الشمس، فأوضح لهما بأن القناعة قد حصلت لديه ببلوغه أبواباً مُوصَدة في هذه المحاولة التي يقرّ بفشلها وقرّر العدول عنها، وطلب إبلاغ رفاقه هاتفياً وتحدّث مع العديد منهم، موضحاً بأنه في حالة تنفيذ الإنقلاب بهذا الأسلوب فإن معارك دامية ستعم “بغداد” مع أولئك الذين سيُسنِدون “سعيد صليبي” وأقرانه… وأبلغهم بعزمه على ترك “العراق” مع جميع أفراد عائلته، ودعا كل من يرغب في مصاحبته بالسفر معه إلى “القاهرة”، وردّد لمرات عديدة وبعبارات ندم وأسىً، أنه يخشى كثيراً بل ويشعر بالخجل من أن يتواجه مرة أخرى مع شخص الرئيس “عبدالسلام عارف” الذي سيعلم بما إقترفه من عمل غير لائق تجاه صديق عمره ورفيق كفاحه ونضاله.
أنـا:- ومتى غادر إلى “القاهرة”؟؟؟
الرائد إحسان:- نعم، ولم يتأخّر كثيراً، فقد أوصى قرينته بحمل ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وتوجّه ظهيرة يوم (16/أيلول/1965) مع أفراد عائلته إلى “مطار الرشيد العسكري” المتاخم لمدينة “بغداد”، حيث حضر العديد من قادة الكتلة المشتركين معه في تلك المحاولة التي لم تَرْقَ إلى حَيز التنفيذ، وكان من بينهم “هادي خماس، رشيد محسن، عرفان عبدالقادر وجدي، والمقدم فاروق صبري معاون
مدير الإستخبارات العسكرية، والرائد عبدالأمير الرُبَيْعي”، ولكن بشخوصهم دون أفراد عوائلهم.
أنـا:- وماذا عن مشاهداتك للموقف في المطار؟؟؟
الرائد إحسان:- في المطار كان بإستقباله “العقيد عزيز أمين” القائم بمهام آمر المطار وكالةً، حيث شاهدنا طائرة نقل عسكرية من طراز “آنتونوف 12-أوكرايينا” وقد وقف بقربها قائدها “الرائد الطيار طه أحمد”… تلك الطائرة التي كانت مهَيّأة لحمل قناني الأوكسجين كمساعدات من العراق الى دولة “الجزائر” الفتية… وبعد أن إستقر الجميع على مقاعدها المصممة لجنود المظلات، أقلعت الطائرة ظهراً مُتّبِعةً خط الطيران الدولي، وصولاً إلى مطار “القاهرة الدولي”.
أنـا:- وهل صاحبتهم إلى “القاهرة”؟؟؟
الرائد إحسان:- نعم، وقد طلب “عارف عبدالرزاق” مني العودة قُبَيل صعوده الى الطائرة… ولكني أَبَيْتُ ذلك وفاءً مني للقائد الذي راعاني كثيراً وعيّنني مرافقاً شخصياً له منذ ما يقارب سنتين كاملتين.
أنـا:- وما الذي شاهدته في “مطار القاهرة الدولي”؟؟؟
الرائد إحسان:- وقفت طائرتنا في موقع بعيد عن رحبة طائرات الركاب بتوجيه من سيطرة المطار، وكان في إستقبال “عارف عبدالرزاق” قرب باب الطائرة ضابط مصري برتبة “مقدم”، كنتُ قد تعرّفتُ عليه سابقاً، إذْ كان أحد مرافقي الرئيس “عبدالناصر”، وقد أبدى مشاعر الإستغراب من وصول رئيس وزراء العراق ورفاقه الى “القاهرة” بطائرة نقل عسكرية متواضعة من دون إعلام مسبق… ولكنه، من ناحية أخرى، فقد كان قد أحضر معه (3) سيارات مدنية، أقَلَّتْ “عارف عبدالرزاق” وعائلته وزملاءه إلى حيث لم أعلمó.
أنـا:- ومتى عدتم إلى “بغداد”؟؟؟
الرائد إحسان:- أخذنا قسطاً من الراحة في “قاعة الترانسيت” بالمطار نفسه طالت حوالي (3) ساعات، تمّ خلالها إملاء الطائرة بالوقود قبل أن نقلع عائدين الى “بغداد” مساء اليوم نفسه.
أنـا:- وكيف حُقّقَ معك؟؟؟
الرائد إحسان:- تشكلت هيأة خاصة للتحقيق في المحاولة الإنقلابية، فتم حجزي لحوالي (3) أشهر على ذمّة التحقيق، ولكن من دون إتخاذ أية إجراءات حيال “آمر مطار الرشيد العسكري” وكالة، أو بحقّ قائد الطائرة “الرائد الطيار طه أحمد”.. إذْ، وبعد أن أُطلِقَ سراحي، نُقِلتُ إلى “مطار كركوك العسكري” لأعمل فيه عدة سنوات، ثم أُحِلتُ إلى صنف “المشاة” حتى تسنّمتُ منصب “معاون آمر فوج” في شمالي العراق، وقبل أن أُحال على التقاعد برتبة “رائد” عام (1971).
***إنتهى حديث السيد “إحسان عارف بيراقدار”***