” ليس هذا نقداً أدبياً … لكنني أقرأ هذه المجموعة القصصية من خلال فهمي لميكانيكية العوامل الإجتماعية والسياسية والنفسية التي تخيط ُ للإنسان حياته، وتحشرُهُ فيها ارتداءا. هذه المجموعة القصصية التي يجب أن يقرأها كل عراقي وعربي تجمع بين الأدب والتحليل الإجتماعي .. بين الرفض لنظم إجتماعية معينة وبين التحليل لإنسانية الفرد المنتهكة ضمن العقل الجمعي وبين تسلسل السرد القصصي المتين .. أرى فيها نظريات فرانسواز ساغان وعلم المجتمع لعلي الوردي والتألق الأدبي لمحمد خضيروالصوت الأنثوي الأدبي للميعة عباس عمارة”
في المجموعة القصصية التي صدرت في عام 2005، والتي مرّت على الكثيرين بهدوء، بينما لم يقرأها كثيرون اخرون، يفاجؤنا القاص صباح الربيعي بطرح أدبي يضاهي الأدب العالمي .. عراقي بحت بكل أجوائه وتفاعلات شخصياته ممتزجا بنظرة عادلة للمرأة أولا وللإنسان ثانيا. فهو، كرجل وكاتب شرقي، لم يطرح موضوع المرأة بشكله التقليدي الشرقي ولم يعكس رؤية المجتمع للمرأة، الأنثى المكملة لدورة الحياة الفطرية البيولوجية، بل ككائن بشري يتحرك ويعاني ويعمل ويعيش ويُقتل ضمن عالم يحمل الكثير من السلبيات والقليل من الإيجابيات. وبنظر الكاتب – في اعتقادي – فإن هذه المرأة تستحق باقة الورد .. بجدارة.
مجموعة القاص صباح الربيعي تحتوي الكثير مما يستحق التحليل الإجتماعي للعلاقات بين المرأة والرجل وبمشاهد مختلفة. كما إن قراءة هذه القصص القصيرة بحجمها، الكبيرة بمعطياتها، لاتبعث على الملل. بل تنقل القاريء من عالم الى اخر، وتشترك في كل هذه العوالم نساء يرفلن بالزهو ويرزحن تحت ثقل كبير. ورغم أن الكاتب لم يعلن ماهية الثقل بطريقة مباشرة، لكن .. من الواضح أنه يعني الألم الناتج عن لعنة أنوثتهن. وحتى في قصصه التي طرحت قضايا تعني الرجال حصرا، مثل قضية حمل الأسم وحمل النعش ومقاومة الأحتلال، والتي تهم الرجال فقط، فالكاتب يطرحها من وجهة نظرتتعلق بالفهم الأجتماعي لهذه الحالات.
في القصة الأولى ” أشجار الليل” ينقل لنا الكاتب معاناة الرجل الذي أصيبت زوجته بالجنون:” فحلقت شعر رأسها وقررت أن تخرج الى الشارع عارية ” .. جنون مطلق يستنكره زوجها، ولربما المجتمع، و قد يحدث لالاف النساء الأخريات، لكنه يمرّ مرورا عابرا ولربما مصحوبا ً بشيء قليل من الأسف، وماعدا زوجها، فلا أحد يكترث لجنونها ومفردات حياتها اليومية المرتبكة.. ولا أحد يكترث بالسؤال عن ” لماذا” تصل امرأة، أيّ إمرأة، الى هذا الحد القاطع الفاصل مابين الجنون والعقل. يسأل بطل القصة صاحبه:” لماذا تزوجتها؟” ويعني ” إن كانت مجنونة فلماذا تتزوجها” فيجيبه زوجها باستغراب:” لم تكن كذلك حين تزوجتها يا أخي!” وبهذه الضربة، يوصل الكاتب للقاريء استنتاجه في حقيقة أن جنون هذه المرأة ” قد” يكون حصيلة علاقتها مع هذا الرجل، أو نتيجة لظروف القهر التي عاشتها معه والتي أوصلتها الى الجنون. ومن خلال تسلسل الحوار بين بطل القصة وزوج السيدة المجنونة، يصور لنا الكاتب شخصية الزوج وكأنها شخصية غبية مترهلة أو شخصية رجل تشكلت لديه حلول مقبولة ضمن السياق الأجتماعي. فحين أرادت الخروج عارية من بيتها، ربطها الى الشباك بدلا ً من أن يلجأ الى حل ّ إنساني اخر بدلا ً من معاملتها كحيوان مفترس هائج أو.. كعارٍ كان الزوج يحاول أن يبقيه طيّ الكتمان كي لاتلوك الألسن سمعته وسمعة عائلته بسببه.
لكن، وحتى مع ترهل عقله، كان الزوج يدرك أن ” إمرأته” كانت بحاجة الى من ” يقف بجانبها” ، وكان يحاول! وحتى هذه المحاولة، لم تكن وعدا قاطعا بالوقوف الى جانبها. مفهوم المحاولة نفسه، لايمنح أي ضمانات بالتزامه لها. وجهة نظر ذكية أراد الكاتب من خلالها أن يوصل رسالة أخرى تتلخص في انعدام ” الضمان الإجتماعي” مع هذا النوع من الرجال أو الأزواج الذين كان من المفترض أن تربطهم علاقة إنسانية وأخلاقية بزوجاتهم. فبالإضافة الى الثقة والحب المفقودين، لا يحمل تعهد الزوجين بالعلاقة الزوجية معه أي ضمانات.
وينتقل بنا الكاتب الى أجواء الريف العراقي في قصته ” السفر باتجاه مدن الجنوب” ، حيث تتزاحم صورالمشاحيف والندى والدم والقتل السهل وحيث: “ليس مهما إلا أن تموت ويموت ..والقتل ليس سوى لعبة يجيدها الرجال” ! ما أجمل الوصف والتعبير عن وضع اجتماعي مأساوي .. وما أبدع التحدث بصوت إمرأة تعيش لحظات انتظار قتلها ضمن إطار جريمة مقبولة اجتماعيا ومرفوضة إنسانيا في مجتمع يصبح القتل لعبة يجيدها الرجال فقط. فبالرغم من الرفض الكبير لجريمة غسل العار.. يبقى صوت الأديب الرجل هو الأعلى في تقديمه وصفا لمشاعرامرأة تنتظر موتها كي يغسل دمها عار القبيلة. وتتسلسل الأحداث بصخب الرغبة في القتل والأسئلة التي لا إجابة لها حين يصعد عيدان الخليف الى خشبة مسرح الجريمة ” كنت تعشقينه إذن؟ هل ..؟ أم …؟ ” و” ارتفعت صرخة ممزوجة برائحة خضاب الحناء” . تتصاعد أنفاس القاريء حين يخمد صوت المرأة التي تستحق باقة ورد على قبرها المخضب برائحة عشقها وغضب رجال القبيلة وحين تموت أحلامها المزروعة بكل بساطة في رأسها الصغير الذي لا يرى سوى ” الثياب البيضاء والهلاهل ” في ليلة عرسها الى عباس بن الحاج الذي كان يسكن معها في عالمها الصغير الذي لم يكن قادرا على أن يرى “الجانب الاخرمن المسألة” حيث شوارب الرجال المرميين هناك في عالم ذكوري مريع!
وبالطريقة الرائعة نفسها، يتحول الكاتب صباح الربيعي الى محيط الجريمة نفسها، بل القاتل نفسه. فبالرغم من ارتكابه لجريمته ، لم يك ُ عيدان الخليف ليشعر بالسعادة من تخلصه من العار. هو في النهاية إنسان بمشاعرإنسانية .. ولابد أن تكون تلك التي قام بقتلها قريبته: أخته أو إبنته .. لا ضير، فهي إنسانة أخرى لديها مشاعر هي الأخرى .. وكانت جزءا من حياته! وكان عليه أن يقتلها من أجل عيون القبيلة وشرفها. عيدان الخلف، القاتل الأب أو الأخ، كان” يمارس الألم دون أن يشعر به أحد. وكان الألم في الأعماق”! صورة التأرجح بين إنسانيته وعدم قناعته بجدوى ومشروعية قتل إنسانة ليس لأنها استحقت الموت…بل لأنها كانت قد عشقت ومارست شيئا من حقها الإنساني في أن تحلم. بقي عيدان الخليف يتألم بصمت .. بينما ينتقل الكاتب الى كل الأناث في القرية ليصوراستمرارية دورة فعل ” قتل غسل العار” وامتدادها من تجربة الضحية في القصة الى كل الضحايا الأخريات:” أما هي فلم تكن حتى لتوجد . لكنهن كثيرات، كالسنابل لهن التفاصيل نفسها ، والتقاطيع نفسها، الموشومة بزخارف خضراء بسيطة . ورائحة السعد الفواحة في انتظار السكين لكي تمزجها بالدم الحار. اجتمع الجميع ليختلفوا في تحديد أيهن تكون.” ! يصور الكاتب موضوع التمييز الجندري والعنف المنزلي الإجتماعي في واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية.. ومع هذا فالمجتمع يحرض عليها .. وكأن القاتل والمقتول هما مُلكٌ للمجتمع ولآرائه المتطرفة ضد حقوق الأفراد الإنسانية.
تتوالى الصور الأجتماعية” العادية جداً” في المجتمع العراقي، لكن ّ تفاصيلها الدقيقة وأصوات أبطالها الصارخة بألم تلقي الضوء على المعاناة الجماعية لحالات متعددة ينظر اليها المجتمع على إنها أقدارأو ” قسمة ونصيب”. فبطل قصة ” الفرح الغامض”، محمد كريم، يكرّر العبارة التي تقوم عليها ميكانيكية القبول بعدم المساواة كحالة طبيعية ومقبولة بقوله:” هكذا هي الدنيا، لابد أن يكون فيها من يختلف معنا، ونختلف معه. إن أصابع اليد الواحدة لا تتساوى ، فكيف بالبشر!”.
محمد كريم من الرجال الذين ساهموا في وقفات العز والشرف في الحيدرخانة بأجوائها العراقية جدا. شخص يدعى ” سفير سلام ” أو” داعية عدالة ” في مفاهيم اللغة الحديثة لحقوق الإنسان وكرامته. لكن محمد كريم ، ورغم كل أمجاده التي يحترمها مجتمعه في الحيدرخانة ، كان يفهم أن قطار العمر يجري سريعا كي يرحل به الى محطات متقدمة بينما لم تكمل لديه دورة الحياة الأجتماعية ، والبيولوجية ، بشكلها المتوقع حيث لم يرزق بطفل كي يحمل اسمه . وقضية الأسم ومن يحمله ، ليست طارئة على المجتمع العراقي ، لكنها من الموضوعات النادرة التي قلّما يتطرق اليها الكاتب والشاعر في الأدب العراقي رغم حقيقة نهوض الأدب من رحم المجتمع. لربما ينظر اليها البعض على أنها قضية قدرية لاتستحق الأهتمام. لكن الكاتب صباح الربيعي يعتبرها قضية مهمة، ليس لأنها مسألة حياة أوموت، بل لأنها مسألة من مسائل العدالة الأجتماعية حيث يسلط الضوء على نقيضين في مشهد واحد: الرجل الذي لم يجد من يحمل اسمه، والطفل الذي يحمل اسم أب لكنه يضطر الى بيع النعناع في الطرقات كي لايموت فقرا. وكأني بالكاتب يقول لقراءه إن العيش ببطولة وإنسانية مع أسم مقدرله أن يموت، أفضل من تخليد اسم عن طريق طفل يبيع في الطرقات كي يكسب عيشه. ورغم أن الحالتين استثنائيتين، إلا أن التوصل الى ماهية تخليد الأسم ومدى تأثيره على الشخص بعد موته هي المحك من وجهة نظر قائمة على تحليل التوجه الفكري لمجتمع كامل!
وفي انتقالة رشيقة الى قصة ” باقة ورد الى السيدة ” تبدو البطلة وحيدة متألمة ضمن أجواء معتمة، فاقدة الأمل فيها بينما كانت مساحات الفرح تضمحل تدريجيا فيها. وبينما تصل المعلمة ” الست أمينة” الى الخمسين من عمرها، حيث سنّ التقاعد والذبول، ترحل الى مدينتها بصمت، دون أن تخبرحتى تلميذاتها خشية ألم الوداع! عطاؤها المتواصل يمنعها حتى من الإستمتاع باللحظة الأخيرة من حياتها العملية كأمرأة عاملة تربطها العلاقة الأنسانية بتلميذاتها أولا وبعملها أخيرا. وفي لحظة مفعمة بالمشاعر الإنسانية، يفاجؤنا الكاتب بحضورتلميذات الست أمينة مع عاملة الخدمة في المدرسة “الفرّاشة” الى محطة القطار، مع باقة الزهور للسيدة. ينتقل الكاتب بسلاسة من أجواء الندم الى الحزن الى اليأس ثم الحب المتبادل بين المعلمة وتلميذاتها و.. الفرح والعرفان بالجميل. وضمن فلسفة العطاء، فالسيدة المعلمة عملت لسنوات كثيرة، وربّت أجيالا ً من الطالبات اللواتي سينتشرن في المجتمع كنساء واعيات وقادرات على أن يربين أجيالا أخرى.
كانت السيدة، أو الست أمينة، هي البذرة في دورة حياة ” العطاء” المتناقضة مع دورة حياة ” القتل” في القصة السابقة .. ورغم أن السيدة منحت أجمل مافي عمرها للاخرين، تألمت أخيرا لأنها تذكرت أنها تجاوزت الكثير من المراحل التي كانت ستضعها ضمن سياقات التناسق الأجتماعي للمرأة – السيدة المتزوجة – الأم! كانت أمّا للجميع ، لكنها، وفي غمرة انهماكها مع أطفالها غير البيولوجيين أو الإفتراضيين، نسيت أن السنوات ترحل بها الى… الخمسين! هذا الرقم المخيف في حياة كل امرأة شرقية ، بينما يحمل معان ٍ أخرى في مجتمعات أخرى :” هل يعني أن أبدأ من جديد. وكيف يمكنني أن أقبل وضعا أكون فيه الخاسر الوحيد. وتجربتي ، أين أتركها تضيع … أين …كيف… كيف!”
مرارة الشعور بالتقدم في السن وصولا الى الخمسين والشعور بالوحدة وصعوبة التفكير بالإبتداء من جديد .. هو الثالوث الذي تقوم عليه حياة إمرأة خمسينية: ” وبحماسة ذابلة حاولت أن تستعيد أيامها القديمة في المدرسة”! لكن صراع المعلمة مع ذاتها يتلاشى مقارنة بحجم مهمتها الأنسانية ويخفت أمام حبها لطالباتها وحبهن لها ضمن أجواء التوديع في محطة القطار. تلك المرارة التي صاحبت الست أمينة منذ بداية القصة .. كانت مصحوبة بقدسية المهمة التي قامت بها. إمرأة عاملة، في اختيار موفق من الكاتب لنوع عملها كمربية للأجيال وزارعة لبذور تعلّم القراءة والكتابة أولا، كانت المرأة مجسدة بشخصية الست أمينة، مشاركة فاعلة ولربما بطريقة أكثر فاعلية من الكثير مما يقوم به الكثير من الرجال! كانت الست أمينة تستحق العدالة الأجتماعية .. وليس فقط المساواة الأجتماعية! فقد لا تعني المساواة إيفاؤها حقها العادل نظرا ً لكمية ونوع العطاء الذي قدمته.
أما في قصة ” الجرح البارد” فالأجواء تبدأ بالأختناق مرة أخرى في عوالم عدم العدالة والتوازن الإقتصاديين. يخيم الفقر على أجواء بطلة القصة، الأرملة الصغيرة سعدية، والمحيط الخارجي الذي تعيش ضمنه. أجواء من شظف العيش والظلمة والنشالين والأعمال الأخرى التي تفرض على الإشخاص أن يعيشوا مع الفئران، أو كالفئران، في بيوت آيلة للسقوط .. لكن لا أحد يقلق على أمور مهمة مثل: متى ستسقط هذه البيوت المتآكلة لتقتل سكانها؟ في هذا العالم الواهي الذي لا يتوقع، أولا يحلم، فيه أي ّ شخص باحتمالات مساندة الدولة لها أو له ضمن قوانين الضمان الأجتماعي.
سعدية التي تقف عاجزة أمام مسؤوليتها كأم لطفلين جائعين وأحلام ماتت بموت زوجها الذي قُتِلَ دفاعا ً عن الشرف، تقف وحيدة كمحاربة لتدافع عن حياة طفليها. لكنها لاتمتلك سوى جسدها الذي أصبح محط مساومات. فحتى الذين مات زوجها مدافعا ً عن شرفهم لم يقفوا معها في محنتها. وهنا تظهر شخصية ” القوادة ” على مسرح الأحداث لتغري الأرملة بعمل الدعارة.
يصور الكاتب الصراع النفسي لسعدية وهي تقاوم إغراءات القوّادة كي تحافظ على شرف جسدها الذي لايمتلكه أحدٌ غيرها. هي صاحبة القرار، ورغم كل محاولات الإقناع التي مارستها القوّادة، انتصرت سعدية لجسدها أخيرا ً. ورغم تطوّر الحدث الى إهانتها من قبل القوّادة :” أنت لا تعرفين قيمة العمل يا سعدية .. ستبقين شحاذة يا سعدية ..ستخسرين كل شيء” ، كانت سعدية هي المنتصرة لجسدها. ورغم عدم امتلاكها لأي سبب من أسباب القوة، إلا أنها قاومت! هذه القصة، من وجهة نظر أخرى ، تصورآلية عمل المتاجرين بالبشر والجنس. فهم يقتنصون الفرصة، ابتداءا ً بالفقروالحاجة الى العمل، للإنقضاض على ضحاياهم. والكاتب يلفت الإنتباه الى استشراء العامل الإقتصادي وعدم التوازن في قوى الهيمنة على سوق العمل وشحته، والمتاجرة بالكثيرات من النساء بسبب ظروف الفقر وعدم الأمان وغياب الضمان الإجتماعي للأرامل والمعوزات. أليست هذه بادرة تحمل فهما ً للتمييز ضد النساء حين تضمحل خياراتهن لتنحصر في زاوية ضيقة هي: بيع اخر من يملكن وهو: الجسد؟
في قصة : القطار الأخير.. المحطة الأخيرة، يطرح الكاتب شخصية مألوفة في المجتمع العراقي ضمن أجواء القطارات التي يعرفها الكثيرون منا. بين شخصية الشاب الذي يعشق حمامته، والمحيط الخارجي الذي يعيش ضمنه. وبين سطور الأحداث، تنهض فكرة تشكيل الشخصية العراقية منذ الطفولة :” كنت عائما في جو كئيب مشحون بفوضى غامرة. كان الجميع يمارس تعليمي وتهذيبي وإفسادي أيضا..كنت سأصيرنسخة لأي واحد منهم”! ضربة ذكية أخرى للكاتب صباح الربيعي… فنحن كعراقيين لا نتقبل الشخص كما هو، بل نجبره على أن يكون نسخة منا على افتراض أن كلا منا هو النموذج الذي “يجب” أن يقتدي به الاخرون. يتعرض أطفالنا الى الكثير من القهر الأجتماعي والنفسي بسبب منحنا الحق لأنفسنا في صهر شخصيات أطفالنا وتشكيلها من جديد .. كي تكون حسب قياسات فهمنا للشخصية المقبولة.
وكي لا ينسى الكاتب معادلة البطولة مع الحقيقة والمفردات اليومية لحياة العراقي .. أيّ عراقي، فقصتي ” حديث دم ” و “صورة فوق الجدار” ترسمان الصورة الأخرى من أيام الحرب و مقاومة الإحتلال وتغيير المشهد السياسي، بينما بقيت شخصية الإنسان العراقي ومعاناتاه اليومية هي نفسها. بطل قصة حديث دم الذي فقد عائلته في الحرب، لم تكُ أمامه من خيارات سوى المقاومة .. قتل هؤلاء الذين قتلوا والديه. وضمن أجواء الحرب والمتفجرات والقتل العشوائي.. فقد العراقي خياراته السياسية، أو الحياتية! هناك مهمة واحدة فقط كان يمكن له أن يعيش من أجلها: قتل من قتلوا عائلته! حيث لم تك الجريمة، جريمة شخص ضد أشخاص، بل جريمة دولية، سوف لن تجد طريقها الى المحاكم الدولية، وحتى لو حصل هذا، فمقتل والديه سيكون في قاع القائمة التي احتوت على مايقارب المليون اسم لعراقيين ماتوا بسبب الحرب. كان بشار مستعدا لمهمة المقاومة :” أشعر بأسياخ حادة تمزقني، تدفعني الى أن أفقأ تلك العيون النجسة” ! أما في قصة صورة فوق الجدار، فيحقق الكاتب نجاحا باهرا ً في معادلة ثلاثية العلاقة الأنسانية: العاشق وأمه وحبيبته:” كنت تحاول كل شيء، ولكن دون جدوى.. وأمك معلقة في صدرك كيقين وقدر.. وكذلك زينب التي لم تبرح مكانها في فضاء عينيك تلهو في خاطرك كحمامة” !
[email protected]