(القسم الأول)
تحدث في حياة بعض الأشخاص المحظوظين مصادفات غريبة تغير مسارات حياتهم وغالبا ماتكون وراء تلك المصادفات امرأة حنون تفيض عطاء وقدرة على تغييرالمصائر،وعادة مايتبع هذا النوع من النساء حدسهن وإشارات قواهن الطبيعية الخفية في اكتشاف الموهبة والعبقريات الخبيئة لدى أشخاص معينين يضعهم القدر في طريقهن ،ولكن كم من الأطفال العباقرة والموهوبين في بلداننا ضاعت عبقريتهم هباء في ظل نظم التعليم المتخلفة وغياب رعاية الدولة لذوي المواهب مع تفاقم دخان الحروب والاقتتال والعنف اليومي؟ كم من العباقرة حلموا بمستقبل عظيم فحطمت أحلامهم و أرواحهم الغضة أوضاعُ مجتمعنا البائسة وفقر ذويهم وانشغال الحكومات المتلاحقة بترسيخ مواقع الاحزاب والتكالب على المواقع وتقاسم المغانم وإهمال تنمية الأجيال وتطوير قدرات النوابغ؟
يروي البروفيسور وعالم الفيزياء الباكستاني عبد السلام الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء للعام 1979 مشاركة مع فيزيائيين أميركيين من جامعة هارفرد ، يروي في سيرته الذاتية أنه ولد أوائل عشرينات القرن العشرين في إحدى القرى الفقيرة التابعة لمقاطعة لاهور التي كانت تابعة للهند ثم أصبحت جزء من باكستان سنة 1947 بعد تقسيم الهند، وكانت أقصى احلامه وأبعد آماله مع اقرانه الفقراء أن يحظوا بفرصة تعليمية معقولة تؤهلهم للحصول على وظيفة متواضعة في سلك الخدمة المدنية، وكانت الخدمة في وظائف الدولة آنئذ مصممة على غرار النمط البريطاني المتبع في المستعمرات التابعة للتاج البريطاني . يروي عبد السلام انه كان طالبا مجتهدا يحيا حياة رتيبة بسيطة مثل سواه من الطلاب الهنود الحالمين بالنجاح والعمل من اجل رفع المستوى المعاشي للاسرة، ويبدو أنه رغم أحلامه الكبرى كان مستسلما لفكرة الحصول على الوظيفة بأسرع وقت بعد حصوله على قدر مناسب من التعليم، ثم حصل الانقلاب الأعظم في حياته بمحض مصادفة غيرت حياته وقلبتها باتجاه لم يكن في حسبان أحد ؛ إذ زارت المدرسة امرأة تعمل في قطاع التعليم المسيحي الخاص يدعونها عادة ( ماسير- أي الأخت ) وقامت بطرح بضعة أسئلة على الطلاب ، فكان عبد السلام يجيب على اسئلتها بثقة عالية ونباهة ونشاط مما لفت انتباه السيدة التي كانت ترمقه بنظرة حانية مع ابتسامة تضيء وجهها، وما أن انتهى الدرس حتى اقتربت منه وسألته عن أسرته و عمل والده فأجابها عن اسئلتها ، طلبت منه ان يصحبها معه إلى بيته ، وسارا معا مسافة طويلة حتى الحي الفقير في قريته ، وقالت لأهله : ان ولدكم هذا صبي عبقري وأتوقع له مستقبلا باهرا ، ولابد من ارساله إلى مدرسة خاصة في لاهور ، فبهت أهله وأخبروها بأنهم غير قادرين على تحمل تكاليف الدراسة فهم بالكاد يتدبرون لقمة العيش لعائلتهم ، ردت السيدة : لا عليكم ، انا من سيتحمل كل تكاليف ومتطلبات دراسته ، فإذا بقي هنا ستضيع عبقريته المبكرة ، وهذا ماحدث فعلا اذ حصلت له على مقعد دراسي في مدرسة خاصة وتكفلت بمتطلبات دراسته ومعيشته حتى انهى الدراسة الثانوية متفوقا؛ فبذلت تلك السيدة العظيمة كل مابوسعها لتحصل له على بعثة دراسية الى بريطانيا لدراسة الفيزياء والرياضيات في الكلية الامبراطورية للعلوم والتكنولوجيا .
يقول عبدالسلام : ( ثمة أمران جديران بالتقدير العالي، الأول أن تلك المرأة العظيمة هي التي تستحق جائزة نوبل ولست أنا ؛ فلها الفضل في ما وصلت إليه ، والثاني أنني تعلمت منها النظر بعين التراحم والتشارك في معاناة الاخرين وبذل كل مايسهم في مساعدتهم وتحسين ظروف حياتهم)
يتبع
نقلا عن صحيفة المدى