21 ديسمبر، 2024 3:30 م

المدّعون في العلم ،، بين الجهل بالأصول و مخالفة الإجماع

المدّعون في العلم ،، بين الجهل بالأصول و مخالفة الإجماع

للذين يظنون ان الفقه هو قراءة نصوص القرآن وفهمها من لغتها وبناء شرع الله تعالى و مراده على ذلك- او استحصال العلم من الانترنت ومجادلة اهل الإختصاص به- انقل اليهم قول الإمام الأسنوي في مقدمة كتابه التمهيد في الاصول عن علم الأصول انه “مثار الأحكام الشرعية ومنار الفتاوى الفرعية التي فيها صلاح المكلفين معاشا ومعادا و انه العمدة في الاجتهاد” ، وللذين تعجبهم قدراتهم الكلامية او الفلسفية فيظنون انهم بلغوا تلك المرتبة وللذين يتكلمون في العقائد دون علم فيظنون في انفسهم مقدرة الفقه اسرد لهم تعقيبه على قول الامام الرازي “فخر الدين” في كتابه المحصول في علم الاصول: “فعلم الكلام ليس شرطا في الاجتهاد لانه لا علاقة له به فالمجتهد في علم الفروع الفقهية غير المجتهد في علم العقائد وكذلك الفقه لأنه نتيجته ،،يقصد نتيجة الأصول،، . ” وانتهى كلامهما رحمهما الله.
الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية ، ويتوصل الى ذلك بالإجتهاد حتى وان بدا لك -كعامي- ان النص ظاهر المعنى ، فالحكم هو النتيجة والاستنباط هو المراد والاجتهاد هو الأداة فما كان نتيجة لا يكون جزءا من العلم المكوّن للمجتهد بل يمكن لأي حافظ او مطّلع ان يحفظ هذه النتيجة وينقلها -وهذا ما يفعله المشايخ اليوم وهو واجبهم مع تحري الدقة-
ولكن يشترط فيه “أي الاجتهاد” امور كثيرة منها ان يعرف المتصدي من الكتاب والسنة ما يتعلق بالاحكام من ايات واحاديث ويعرف شرحها وله مصنفات في هذا العلم أو مصادر معتبرة يعود اليها ، و أن يعرف ما يتعلق منها بالالفاظ اي المدلولات ويعرف الناسخ والمنسوخ منها ويعرف اسباب نزول الايات واسباب ورود الاحاديث ، ويعرف ما فيها من احكام وما فيها من اختلاف بين آراء العلماء ويعرف الراجح من تلك الآراء ، اي يعود الى مصادر معتمدة يعرف منها ذلك وعنده مصنفات في تفسير ايات الأحكام ، وأخيرا فيجب على المتصدي للإجتهاد أن يعرف المسائل المُجمع عليها ، وهنا نأتي الى تلك الجزئية المهمة التي يدور حولها المقال و يدور حولها النزاع بين المتقولين في الدين اليوم وهي (كيف نعرف الأحكام المُّجمع عليها ولماذا) ،
 اما كيف فهنالك مصنفات يعود اليها المجتهد لمعرفة الإجماع مثل : ”الاجماع لابن المنذر” اذ يذكر فيه مئات المسائل ويبتدئها او ينهيها بقوله : “اجمعوا ، اتفقوا ، لا اعلم خلافا” ، وهو في القرن الخامس – اي متأخر عن ائمة المذاهب – وهذا مهم ، ولكن ”ابو اسحاق الاسفراييني” معاصره قال في مسائل الاجماع انها عشرون الف مسألة .
ويمكن للمجتهد العودة الى كتب أوردت الاجماع وادلّته مثل ”المغني لابن قدامة” او ”المجتهد لابن رشد” او ”المجموع للامام النووي” و”مراتب الاجماع” لابن حزم وغيرها، ثم يأتي السؤال الأهم ، لماذا يحتاج المجتهد معرفة مسائل الاجماع ، والجواب هو انه عندما تعرض عليه مسالة سيبحث حتما في الكتاب والسنة كمصدري الاستنباط الرئيسيين فإن وجد في ذلك نصا أو ظاهرا أو مجملا او مؤولا يعينه علمه وتعينه مرتبته التي بلغها وحفظه وملكاته اللغوية وشروط استوفاها للاجتهاد أن يستخرج منه حكما كان بها ، ولكن قبل ذلك وقبل ان يجتهد او يصدر فتواه عليه ان ينظر في الإجماع ؛ فهل هي من المسائل التي تناولها العلماء من قبل واتفقوا عليها ، ان كانت كذلك فلا سبيل للاجتهاد فيها وهذا هو بيت القصيد الذي عليه مدار الصراع والشبهات اليوم وهو ما لا يعرف ضرورته المدعون- من فقهاء كوكل او المنسلخون ممن انقلب على الدراسة الأكاديمية- بعد ان تخرج منها- ولغاية دنيوية او بدعة ضلالية –
 فانه يحرم الاجتهاد في المسائل المجمع عليها ووجه الحرمة من ماذا ؟ انا اجيبك : فاذا اجتهد المتصدي من علمه وفهمه واستنباطه في مسالة مجمع عليها فسوف يصل الى واحدة من نتيجتين; اما الى نفس الحكم المجمع عليه قبله او سيخالف حكم الاجماع ، فان وصل الى نفس النتيجة فهذا جهد بلا فائدة وضياع للوقت والصحة ، فالحكم أصلا كان امامه ويعرفه أهل النظر في الكتب والمقالات ولم نكن بحاجة لعلمه وجهده ،  وان خالف الإجماع فمخالفة الاجماع حرام ، اما لماذا حرام ان اردت التنطع او أردت حقيقة الفهم فاقول لك : لان العلماء باتفاقهم حين اجمعوا عصمهم الله من الخطا وانت مجتهد فرد غير معصوم من الخطا فيُقدم عقلا قول معصوم على قول غير معصوم او في الاقل قول اقرب للعصمة من قول ابعد عنها -ان اعترضت على عصمة جماعة العلماء وعدم احتمال اجتماعهم على خطا- ، ولأهمية هذه النقطة سأوجز لك الراي فيها ، فهي من آيات {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ ،،} و {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ} ومن حديث “لا تجتمع امتي على ضلالة” الذي قال عنه الحافظ في التلخيص : حديث مشهور له طرق كثيرة، لا يخلو واحد منها من مقال وحسنه بعض العلماء المعاصرين بمجموع طرقه ومعناه: أن أمة النبي صلى الله عليه وسلم التي آمنت به لا تجتمع وتتفق على حكم شرعي، ثم يكون ذلك الحكم ضلالة؛ بل إذا اجتمعت على حكم فإن اجتماعها عليه دليل أنه حق، فهي لا تجتمع ولا تتفق على ضلالة؛  ونستدل من هذا الحديث أن الله عصم علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الاجتماع على أمر باطل” انتهى كلامه .
وهذه العصمة إنما هي لجميع علماء الأمة في أي عصر من العصور ، وأما اتفاق بعضهم أو أكثرهم على أمر ما فليس بمعصوم من الخطأ .و كذلك اتفاق عوام الناس على أمر من الأمور ليس دليلا على أحقيته ؛ لأن العبرة بأهل العلم لا العامة والجهلاء . قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي في سننه : ” وَتَفْسِيرُ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ : هُمْ أَهْل الْفِقْه وَالْعلْم وَالْحدِيثِ “. قال الملاّ علي القاري : “الحديث يدل على أن اجتماع المسلمين حق ، والمراد إجماع العلماء ، ولا عبرة بإجماع العوام ؛ لأنه لا يكون عن علم “.  “مرقاة المفاتيح” (2 / 61)وقال الشاطبي : ” ولا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام”.  “الاعتصام” (1 / 354) انتهى .
ونعرف احتجاج البعض بوجود أتباع كثيرين لأحد الجماعات أو الفرق أو الطوائف الضالة احيانا فنقول : ان هذا ليس دليلاً على أنهم على حق ، فالنصارى أكثر عدداً من المسلمين ، وأهل البدع والضلال أكثر من أهل السنة في بعض البلاد ، فهل يعني ذلك أنهم على الحق ! . قال أبو شامة المقدسي رحمه الله تعالى : ” حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعة ، وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيراً ؛ لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم ” من كتابه “الباعث على إنكار البدع والحوادث”  انتهى. وهذا مبحث آخر طويل يمكنك ان تستفاد مما اوردت لك من مقتبسات بشأنه ، فمن سنن الله في خلقه : أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل ، قال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}. وقال : { إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ }  وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
وقال الشيخ السعدي : ” ودلت هذه الآية ، على أنه لا يستدل على الحق بكثرة أهله ، ولا يدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق ، بل الواقع بخلاف ذلك ، فإن أهل الحق هم الأقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً وأجراً ، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل ، بالطرق الموصلة إليه “. انتهى “تفسير السعدي” (1 / 270). فالحق والصواب يعرف بموافقة كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وما أجمع عليه سلف هذه الأمة لا بكثرة العدد ، وقال الفُضيل بن عِياض رحمه الله : ” الزمْ طريقَ الهدَى ، ولا يضرُّكَ قلَّةُ السالكين ، وإياك وطرقَ الضلالة ، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين “.  وينظر: “الأذكار” للنووي صـ221، “الاعتصام “للشاطبى (1) في ذلك. انتهى كلام العلماء رحمهم الله..
 ثم أنا اسالك : أنت عندما خالفت العلماء ووصلت الى نتيحة جديدة او حكم فهل استندت الى دليل او من غير دليل ، فان قلت لا قد علمت او ربنا شرح صدري او انني عالم او ملهم او “ففهمناها سليمان” او من امثال تلك الاقوال الجديدة فلا قيمة لرأيك فنحن امة الدليل ، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، وان قلتَ : لا ،، معي دليل ، اقول لك نصي نقلي ام عقلي؟ اي موجود في القران والسنة ام وصلت اليه بعقلك؟ ان قلت لا هو موجود في الكتاب والسنة فنسالك : اطّلع عليه العلماء من قبلك ام نزل عليك حديثا بعد ان ماتوا ، فلا يمكنك ان تقول نزل علي وحي بنص جديد الا اذا كنت مسيلمة جديدا ، فهو دليل اطلع عليه العلماء قبلك ولم يعملوا به ؟ اذن هو عندهم اما منسوخ او مؤول ولكنك لا تعرف ذلك لعلمك المحدود في اصول الفقه والاجتهاد وقصورك في تحصيل ادواته لانك لم تعلم -لجهلك واغترارك- لماذا اعرض العلماء عنه فظننت انه فاتهم وتمسكت بنص راه العلماء منسوخا او اوّلوه ، وكم من نصوص من القران والسنة صحيحة النقل لكن لا يعمل بها ، فآيات موجودة
 في القران تتلى كل يوم ولا يعمل بالتشريع الذي فيها لانه نسخ ، واحاديث صحيحة موجودة في البخاري ولكن لا يؤخذ منها حكم لانها نسخت بما بعدها ، فلماذا تروى ؟ تروى وتتلى لنعلم ان الله كان ارحم بنا من انفسنا وانه اعلم بصالحنا وكيف يدرّح لنا التشريع ليخفف علينا وكذلك لتكون لنا قدوة في التدريج والمواكبة في الأحكام والقوانين إن اقتضى الحال ، أقول : فإن توصلت الى حكم جديد خالفت به الاجماع مستندا الى دليل عدل العلماء عنه “وقد بينّا لماذا عدلوا للتوّ -فهم مصيبون وانت مخطى وان اصرّيت فانت مبتدع ضال ، وان كان بناء على دليل عقلي فاجتهاد فردي اخطات فيه حين خالفت جماعة المسلمين وفي كل الاحوال وقعت في خطا كبير ،
ولذلك اشترط العلماء ان يطّلع المجتهد على الاحكام المجمع عليها فينقلها كما هي ان تطابقت الحالة الحديثة مع الحالة القديمة . ثم من شروطه “المجتهد” أن يعرف  حال الرواة ، وان يعرف اللغة افرادا وتركيبا ، لأن الادلة من الكتاب والسنة عربية ولا بد به من معرفة اللغة العربية وفهمها فهما يعينه على الاجتهاد ،وأن يعرف شرائط القياس ، فالقياس لوحده بحاجة الى عالم فاحيانا يقال بشروط المجتهد انه عليه ان يعرف اصول الفقه ويعرف القياس ، لأن اصول الفقه فيه ادلة ودلالات الفاظ وفيه تعارض والقياس دليل من الأدلة تارة وتارة هو الاداة التي بها يستطيع المجتهد استنباط الحكم ،
فمن جهل كل ما تقدم وكثيرا غيره لا مجال لتفصيله- من علوم ومراتب ومراقي وحفظ وتدبر مشفوعة بعدل وتقى وورع مشهود وتوحيد صاف وإيمان ومذاكرة ومعاودة واشتغال بالعلم دون انقطاع ومدارسة اهل الشأن ومراجعة العلوم التي توصل اليها السابقون من المعتبَرين- فلا قیمة لكلامه الا عند نفسه وعياله ولا أثر لقوله إلا عند الضالين امثاله و لا هدف لما يقول إلا ما اوكل له اولياؤه من مهمة خرق الدين أو لمال يكسبه او جاه يتسلمه ، وسيُنبذ قريبا كما نُبذ مئات قبله وآلاف حفلت لهم حقبات التاريخ . والله حافظ دينه من المتربصين وبالغ امره في الى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.