7 أبريل، 2024 7:28 م
Search
Close this search box.

المدينة الفاضلة في الفكر الإنساني

Facebook
Twitter
LinkedIn

إن عبارة المدينة الفاضلة  Virtues Cityأو المدينة المثلى Ideal state أو اليوتوبيا Utopia توحي لدى سامعها أو قارئها أنها مدينة تقوم على فكرة التخصص والعدالة والإنصاف والحق، يكون فيها مفهوم العدالة قائم على إعطاء كل ذي حق حقه، ولا يبخس منه شيء، فضلاً عن كون هذه المدينة أو الدولة مطمح كل إنسان يصبوا إلى سعادته وفضائله الخلقية وكمالاته العملية والنظرية، هذه الدولة أو المدينة نظامها يقوم من ضمن ما يقوم على محاربة كل أنواع الرذائل والفساد والقيم اللاأخلاقية، وبالتالي لا تجد في هذه المدينة الدولة أي نوع من أنواع الشرور والآثام والعدوان والتناقض.
ويشكل النظر والتفكر في هذه المدينة الفاضلة مسعى ومطمح كل البشر وخاصة منهم الحكماء والمفكرين والمصلحين والسياسيين على مر العصور والآجال. إذ لا يوجد مفكر أو فيلسوف أو مصلح سياسي كبير عبر تاريخ الفكر الإنساني والسياسي منه بوجه خاص إلا ووضع قلمه فيها مفكراً وموجهاً ومنظماً لآليات قيامها وطرائق الوصول إليها ووسائل الحفاظ عليها.
لهذا تجد أن عملية التنظير لهذه المدينة (الدولة) لم يكن خاص بأمة أو قوم معينين دون غيرهم، إذ أسهم في تصورها ومحاولة بنائها مفكرون وفلاسفة كثر. ولكن المشهور بين هؤلاء المفكرين والحكماء من الذين زودنا تاريخ الفكر الإنساني بسيرهم، إذ أن أول من تحدث فيها وتصورها على شكل نظام سياسي وتربوي ومعرفي وأخلاقي متكامل هو الفيلسوف اليوناني أفلاطون (ت348 ق، م)، وذلك في محاوراته أو كتبه، ولاسيما كتاب الجمهورية أو السياسة Republic ، فضلاً عن محاوراته الأخرى مثل القوانين Laws، ورجل الدولة.
 ثم جاء من بعده فلاسفة وحكماء نسجوا على منواله وإن اختلفوا في تصوراتهم في بناء هذه المدينة الفاضلة أو الدولة المثلى، ونخص هنا بالذكر صنوه اليوناني الفيلسوف والمعلم الأول أرسطو (ت 322 ق،م)، إذ أودع تصوراته عن ذلك في كتابه السياسيات Politics، لينفتح بعد ذلك الفكر الإنساني على مصارعه في التأليف والكتابة في المدينة (الدولة) الفاضلة.
بعد هؤلاء الفلاسفة، جاء آخرون كتبوا في هذا الموضوع ولكن من منظور مختلف بحسب واقع وبيئة أعصرهم، ومن هؤلاء الفيلسوف المسيحي القديس أوغسطين (ت440م) في كتابه مدينة الله City of God، ثم تلاه من منظور عربي إسلامي الفيلسوف أبو نصر الفارابي (ت 339هـ/950م) في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة، وهو الكتاب الأوسع والأشمل بين كل من كتب في المدينة الفاضلة بعد أفلاطون، محدداً فيها صفات رئيس الدولة الفاضلة وما هو الواجب الذي عليه وما هي مؤهلاته أو صفاته حتى يكون رئيساً لها، وما هي مضادات هذه المدينة من مدن جاهلة أو ضالة.
وحتى لا نبتعد عن مدلول المدينة الفاضلة في تاريخ الفكر الإنساني، نجد أن الفلاسفة والحكماء قد استمروا في التأليف فيها والكتابة عنها، ومنهم الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد (ت595هـ/1198) في كتابه تلخيص السياسة، والذي تميز عن سابقيه بالنظرة الواقعية للسياسة والحكم، وقد طبق مقولات أفلاطون في المدينة الفاضلة على عصره وزمانه ودولته، ناهيك عن الفلاسفة الانجليزي توماس مور في كتابه اليوتوبيا، الذي هو الآخر أسهم اسهامة كبيرة في تأسيس نظام حكم قائم على النظر الفلسفي المحكم، والفرنسي جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي، وكامبلانا في كتابه مدينة الشمس، والألماني هيجل في الدولة المثلى البروسية، والفرنسي غاستون باشلار في المدينة العلمية، التي يقودها العلماء والحكماء. لذا سيكون محور حديثنا هنا على وفق النقاط الآتية:
أولاً- الدواعي والأسباب عند الفلاسفة للكتابة في المدينة الفاضلة
أن الحديث عن المدينة الفاضلة وما تحويه من نظام حكم فاضل وكامل وعادل ومثالي قائم على تحقيق ذلك على وفق نظام تربوي وقيمي محكم يأخذ بنظر الاعتبار الدوافع والميول النفسية للبشر وأعمارهم ومراحل تطورهم المعرفي والعقلي والنفسي، لم يكن بالإمكان التفكير فيه والعناية به لولا وجود التناقضات الاجتماعية والسياسية والتربوية والفكرية والنفسية الحادة والكبيرة في المجتمعات الإنسانية من التي عايشها الفلاسفة والحكماء وغيرهم في زمانهم ودولهم ومؤسساتهم الدينية والسياسية والتربوية، فوجدوا هؤلاء الفلاسفة والمفكرون أن الحل الأمثل هو ببناء نظام سياسي فاضل ومثالي، غايته الرئيسية إنقاذ البشرية مما هي فيه من شرور وغرائز عدوانية وميل للحروب والاستحواذ على حقوق الغير وتجاوز على تخصصاتهم في أعمالهم وأموالهم وما يملكون.
إن هذا التناقض بين التصور والمثال والواقع المعاش يبرز بشكل جلي من وجهة نظر الفلاسفة في أشكال الحكم السياسي القائم ونظمه في عصر كل فيلسوف أو مفكر كبير، ولهذا نجدهم قد اهتموا أول ما اهتموا به هو تحديد أشكال الحكومات غير العادلة أو المناقضة للحكم الفاضل المثالي، وحددوها بأنواع هي الحكم التمكراسي (الأرستقراطي) والحكم الأولغاركي (حكم القلة من الأغنياء) والحكم أو النظام الاستبدادي الطغياني، وأخيراً الحكم الجماعي (الديمقراطي)، وهذه النظم أو الحكومات تعدُّ من وجهة نظرهم الأشكال المناقضة أو المضادة بالكلية للحكم المثالي الفاضل، وأشد مناقضة له هو الحكم الطغياني أو الاستبدادي، لان نظام حكم يقوم على الفرد المستبد. وإن وجدت هناك أشكال أخرى للحكم غير الفاضل فإنها تنضوي تحت أو في ظل هذه الحكومات أو النظم الأربعة التي حددوها.
ومن وجهة نظري أرى أنه لولا وجود هذه النظم السياسية أو الحكومات غير الفاضلة العادلة لما وجد الفلاسفة والمصلحون من مجال ليكتبوا فيه هذه المؤلفات ويحاولوا من خلال بناء وإعداد إنسان عادل فاضل يكون نواة للدولة المثالية العادلة، فهذه ليست مهمة الفلاسفة فقط، بل مهمة الأنبياء والرسل الذين يحملون رسالة الإصلاح للبشر، وإنقاذهم مما هم فيه من براثن الضلال والرذيلة. ويتمثل ذلك بقول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): إنما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق.
هذا من جهة، ومن أخرى يبدو أن النوازع الشريرة في أصل نفوس البشر متأصلة، كما يرى الكثير من الفلاسفة والتربويين الكبار وعلماء النفس والاجتماع والسياسة، إذ تدعو هذه النوازع إلى العدوان والحروب والعنف والتدمير، وإلى كل ما هو غير أخلاقي، وهذه الجبلة في الطبيعة الإنسانية ليست محصورة بنوع من البشر ولا بأمة دون أخرى، ولكنها على ما يبدو مشتركة بين الأمم، وهو ما نجده في حالات العدوان والحروب والتنابذ والاستحواذ على أموال الغير وحقوقهم واستعمار بلدانه وإظهار القوة والغلبة عليه.
من كل هذا وغيره، وجد الفلاسفة والحكماء والمصلحين والأنبياء عليهم مقاومة هذه النوازع الشريرة في نفوس البشر، عن طريق اجتثاث الرذيلة والعدوان من نفوسهم وزرع الفضيلة والعدل فيها، ولا يكون ذلك إلا من خلال غرس الفضائل الخلقية والكمالات النظرية والعملية عن طريق التربية وعبر مراحل زمنية محددة يرافقها نظام معرفي وعلمي يأخذ بنظر الاعتبار استعدادات الإنسان لتقبلها وغرسها في نفسه.
ثانياً- كيفية تصور بناء المدينة الفاضلة
يرى معظم الفلاسفة من القدماء وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد وتوماس مور وكامبلانا وهيجل وماركس و المعاصرين منهم اليوم،  أن الإنسان كائن أو موجود أو حيوان سياسي بطبعه، يحب الاجتماع مع الآخرين لإكمال متطلبات حياته واجتماعه، إذ لا يستطيع بمفرده هو أن يكمل جميع متطلباته، فلابد من اجتماع الناس والبشر فيما بينهم لإكمال هذه الحاجات الأساسية والضرورية والتي حددوها بخمسة حاجات أساسية أسموها بالحاجات الضرورية تميزاً لها عن الحاجات الكمالية، وهذه الحاجات الضرورية، هي: المأكل والمشرب والمسكن والملبس والزواج، ثم أضافوا إليها حاجة تعد من أهمها وبها يكمل هذا الاجتماع ألا وهي حاجة الأمن.
إذ تعدّ هذه الحاجات الضرورية أصل كل اجتماع سياسي إنساني، وهي نواة قيام أي اجتماع سياسي أو تشكيل حكومة أو نظام، ذ بدونها لا يمكن قيام أي شكل من أشكال الحكم السياسي، وهناك من الفلاسفة والحكماء من أعتبر هذا الاجتماع الذي يقوم على الحاجات الضرورية هو أصل، و تتفرع منه بقية النظم أو الحكومات السياسية. إذ أشار أفلاطون لذلك في كتابه الجمهورية و شاركه ابن رشد الرأي في كتابه تلخيص السياسة. وإنْ كان الاجتماع الضروري القائم على تلبية الحاجات الأساسية للبشر، ينتظم في أي شكل من أشكال الحكم السياسي وفي كل زمان ومكان، لكن الفلاسفة يريدون من خلال هذا الاجتماع إقامة الحكم المثالي أو الفاضل.
 لهذا وضع الفلاسفة والحكماء طرائق عدة للوصول إلى هذا الحكم، ومن هذه الطرائق الاعتماد على نظام تربوي صارم يأخذ بنظر الاعتبار متطلبات وحاجات وغرائز الإنسان الفاضلة فينميها ويقاوم ويكافح الغرائز والميول العدوانية والعنفية فيجتثها من أصلها، ليبني من خلالها إنسان لا يبغي غير العدل وإحقاق الحق في نفسه أولاً ثم في مجتمعه جميعاً.
لهذا عمد الفلاسفة وعلى رأسهم أفلاطون في كتابه الجمهورية في تحديد معنى العدالة أولاً، فهي بنظرهم المنطلق الأساسي لقيام المدينة أو الدولة الفاضلة، فجاء تعريف العدالة في الكتاب الثاني من جمهورية أفلاطون، وقد تابعه في ذلك أرسطو في السياسيات وابن رشد في تلخيص السياسة وغيرهم بقوله: هو إعطاء كل ذي حق حقه على وفق ما تؤهله قدراته العقلية والجسمية، وهم بذلك يَِِردوُنَ على التعريف المتداول للعدالة الذي يرى أنها تحقيق مصلحة الأقوى، مهما كان هذا الأقوى، ومهما كانت دوافعه وقيمه ومواقفه والأدوات التي يستعملها في تحقيق العدالة، إذ أن العدالة على وفق مفهوم الأقوى هي أقرب إلى الحكم السياسي الذي يقوم على شرعة الغاب التي يغيب فيها حقوق الشعوب والأمم والإنسان الذي لا يستطيع أن يقاوم الأقوى الغاشم، وأن الأقوى الغاشم هو الذي يملي إرادته على الآخرين ويرى أن ما يقوله ويفعله هو الصحة والحقيقة وما على الآخرين إلا الإذعان لذلك، وهذا نموذج واضح لتطبيق مفهوم العدالة الذي رفضه الفلاسفة من قبل واعتبروه غير صحيح، وإن نجد مجال تداوله يعاد اليوم على أرضنا وشعبنا في العراق من خلال ما قام به الاحتلال الأمريكي للعراق وتطبيق المفهوم العولمي الجديد للأفكار التي تبناها ساسة أمريكا الجدد وكأنهم يقرءون أفكار السابقين على أفلاطون في العدالة ويطبقونه اليوم.
أما المفهوم الفلسفي للعدالة الذي هو إعطاء كل ذي حق حقه على وفق ما تؤهله له قدراته العقلية والجسمية، فهو الذي أراده الفلاسفة للتطبيق في الحكم السياسي للمدينة الفاضلة أو الدولة المثلى من خلال تطبيقه على فئات أو شرائح أو طبقات المجتمع كافة دون تمييز، ومن خلال وسائل أو طرائق كما قلنا، هي طرائق التربية التي تأخذ أبناء المدينة الفاضلة منذ نعومة أظفارهم سوية (الذكور والإناث) وتبدأ بتعليمهم أولاً وقبل كل شيء فني الرياضة والموسيقى، من اجل بناء أجسامهم وتهذيب نفوسهم، وهذا التعليم يكون مترافقاً من الناحية الزمنية والمكانية، ويكون على وفق قواعد صارمة، هي باستعمال الرياضة التي تنمي وتقوي أعضاء الجسم بشكل متناسق، مع سماع الموسيقى التي تكون ألحانها ألحاناً تهذب النفوس وتبعد الخشونة والاضطراب عن الجسم والنفس، بحيث يشترط هؤلاء الفلاسفة المربون أن لا نسمع الأطفال أي لحن أو نعلمهم أي رياضة تدعوا إلى الخشونة المتجاوزة للحد أو الميوعة والتخنث الذي يجب أن لا يتصف به أبناء الدولة المثلى. وهذه المدة للتدريب مستمرة معهم إلى حين.
بعد ذلك يبدأ تدريبهم على معلومات علمية وصناعات تخدم المجتمع والدولة، يختص قسم منها بعلم الحساب والهندسة، وقسم منها بعلم الفلك والقوانين القائمة في المجتمع وكيفية الحفاظ عليها، مع إسماعهم لقصص وحكايات مروية بطريقة تربوية صارمة، هذه القصص تدعوا إلى بناء الشجاعة لديهم والحفاظ على دولتهم، ونبذ كل أسباب التفرقة والحرب بينهم، مع الأخذ بنظر الاعتبار كيفية إطعامهم حتى لا يصابوا بأي نوع من الأمراض التي يصعب شفاؤها، لأن الدولة المثلى كما يتصورها هؤلاء الفلاسفة لا يوجد فيها مكان لقاضٍ أو مكان لطبيب أو مستشفى، وإن وجد القاضي أو الطبيب فلضرورة قصوى، ولكن الأصل أن أهل هذا النوع من الحكم أو الاجتماع السياسي لا يحتاجون إلى طبيب أو قاضي لفض المنازعات بينهم، لأنهم أدركوا معنى العدالة، عن طريق فهمه أن كل إنسان يعمل على وفق مقدرته العقلية والجسمية، وأن كل فرد فيها لا يعمل بأكثر من مهنة أو وظيفة، لأن العمل بأكثر من مهنة أو وظيفة يفسد مفهوم التخصص الذي يمتاز به المجتمع الفاضل.
الدولة أو الاجتماع السياسي هنا يقوم على تقسيم المجتمع كما قلنا إلى ثلاثة فئات رئيسية هي: فئة الحرفيين أو العمال والصناع، وفئة الجند أو الحراس، وفئة الحكام، فئة الحرفيين مهمتها توفير الطعام وأدوات العمل وبقية أنواع الحاجات العملية التي يحتاجها الإنسان في حياته ومعيشته، هذه الفئة تؤمن مع نفسها أن مهمتها العمل فقط، ولا تتجاوز إلى الفئة الأعلى منها وهي فئة الحراس التي سيظهر منها الحاكم الفيلسوف الذي يرأس الدولة المثلى أو المدينة الفاضلة، التي أمتحن واختبر مستواها العقلي والجسمي فتجاوزت إلى هذه المرحلة.
تمتاز فئة أو طبقة الحراس بحصولها على قدرات معرفية أعلى مثل معرفتها مثل قدرتها على معرفة أصول الهندسة والحساب والقضاء والتشريع وكيفية بناء المعسكرات والدفاع عن الدولة من هجمات الخارجين عليها، مع تأمين قدر أعلى من التربية لهذه الشريحة، تعلمهم فيها أن الدفاع عن المدينة واجب ضروري وأن الوقوع في الأسر ممنوع ومحرم وأن الدولة المثلى لا تطالب بمن وقع في الأسر إطلاقاً، لأنه متخاذل وجبان، لأنه بحسب تشريع هذه المدينة وقوانينها لا يجوز وجود شخص لا يؤمن بالدفاع عن مدينته أو يتصف بالجبن والتخاذل، كما ويوجد في تشريع هذه الدولة أن القتال يكون وجهاً لوجه، وإنّ وجد جندي أو حارس قتل من ظهره فهذا يعني أنه لم يقاتل دفاعاً عن دولته فلا يستحق أي تكريم ولا يمكن اعتباره شجاعاً يستحق لقب الشهيد.   
هؤلاء الجند أو الحراس للدولة مهمتهم الحفاظ على الحكم الفاضل، وهناك من يسميهم بالحفظة،  ويجب عليهم أن يصفوا بصفات محددة وضعها الفلاسفة لهم في المدينة الفاضلة، وهي الشجاعة أولاً، والوفاء لأبناء دولتهم ثانياً، والشراسة والقسوة مع أعدائهم مهما كان نوع هذا العدو ثالثاً، ويجب أن لا يعتدوا على أبناء مدينتهم ولا يسرقون أشيائهم ولا يسلبون حقوقهم بأي شكل من الأشكال رابعاً، لأن أبناء مدينتهم هم إخوانهم وآباؤهم وأبناؤهم.
 إن اختيار هذه الصفات أو المزايا أو الخصال لجند أو حراس المدينة (الدولة)، إنما تم على وفق مواصفات أختارها الفلاسفة، مقاربين بين هذه الصفات وصفات بعض الحيوانات التي تتآلف مع الإنسان، ولاسيما الكلب، إذ يمتاز هذا الحيوان بالتعاطف مع من يعرفة والضراوة والشراسة مع الغرباء الأعداء، كما انه يمتاز بحدة البصر وسرعة الحركة والقتال بقوة، وغيرها من الصفات الجميلة الأخرى.
إن هذه الفئة أو الشريحة من شرائح المجتمع  والدولة تمتاز بأنها تدخل في عدة تجارب وامتحانان وفحص لإمكانياتها النفسية والعقلية والمعرفية والجسمية، كما أنها تتلقى علوماً ومعارف على مستوى عالٍِ من التخصص في التشريع والقضاء والعلوم الميتافيزيقية والرياضيات والفلك ومعرفة شرائع الأمم المجاورة الأخرى.
كما أن على هذه الشريحة من الحراس أن تجتاز الامتحان الذي يعد لها بنجاح، والذي ينجح في الفحص والامتحان، هو الذي تكون له قدرة القيادة والحكم والإدارة، بعد أن بلغ من العمر الأربعين حتى الخمسين، فتسلم له أمور الدولة والحكم، وقيادة المجتمع وتنظيم الشرائع والقوانين، وليس أي شخص يقوم بهذه المهمة، لأنه إن قام بها أي شخص فسوف يحل الخراب والدمار والحروب والمناحرات والمشاحنات بين أبناء المجتمع الواحد.
هذه الفئة أو الشريحة التي اجتازت الامتحان بكفاءة نادرة ومؤهلات خاصة يطلق عليها فئة الحكام، وهذه الفئة تختار من بينها من هو أجدرها، بكافة المؤهلات التي ذكرناها لكي يكون هو الرئيس أو الملك لتلك الدولة، على أن يتصف بصفة أساسية ملازمة له ألا وهي صفة الفيلسوف الحكيم، إذ بدون هذه الصفة لا تقوم المدينة الفاضلة. مع صفات أخرى وضعها الفلاسفة لهذا الرئيس الملك الفيلسوف.
وقد عدّها الفلاسفة من أفلاطون ومروراً بأرسطو والفارابي وابن رشد وتوماس مور وغيرهم، باثنتي عشرة صفة رئيسية، يكون إذا ما توفرت فيه هو الملك الفيلسوف أو الرئيس الذي لا يرأسه احد.
وهذه الصفات أو المزايا أو الخصال، هي: أن يكون عادلاً في نفسه، ويرغب في تحقيق هذه العدالة في دولته ومجتمعه، شجاعاً، تام أعضاء الجسم لا خلل جسمي فيه، جيد الحفظ، عديم النسيان، له القدرة على الحدس والنباهة بمعرفة ما يريده أهل دولته، وله القدرة على توصيل ما يريده إلى أبناء دولته بعبارات بليغة وواضحة، وله معرفة تامة بالشرائع السابقة والمعاصرة لدولته، وله مقدرة على التشريع ووضع القوانين، وان يباشر أمور الحرب والجهاد بنفسه، أي يكون قائداً عاماً للجند في كل ما يتصل بأمن دولته، وأن لا يملك أي مالٍ أو مسكنٍ، وغير ذلك من المزايا المادية، وان يكون له معرفة بكافة علوم عصره التي يعيش في ظلها. وان يعرف خصال ومزايا وقيم أهل دولته وما يرغبون نحو تحقيق الفضائل الأخلاقية والكمالات المعرفية والعلمية.
فضلاً عن ذلك، إن الدولة المثلى ذات نظام حكم سياسي يقوم على المؤهلات العقلية والمعرفية والنفسية والجسمية القائمة على نظام تربوي صارم، وليست على وفق مؤهلات عائلية أو مواقع وظيفية محددة أو سمعة محددة نالها شخص بأي شكل من الأشكال.
ولكن، مسألة قيامها نظاماً سياسياً وحكماً مثالياً عادلاً ليس بهذه السهولة، بل أن الصعوبات كثيراً ما تكتنفها وتحيط بها، وأول هذه الصعوبات هو كيفية إعداد هذا الإنسان تربوياً في ظل مؤثرات اجتماعية كثيرة تلعب دورها في نشأته وتكوينه المعرفي والعقلي والنفسي، فضلاً عن أن هذه الدولة تغيب فيها الملكية الشخصية وتنتظم فيها أمور الزواج والولادات للأطفال برعاية صارمة من قبل الدولة، ولا توجد ثمة خيارات شخصية للإنسان فيها، الكل يعمل من أجل صالح الدولة ونظامها العادل، ولا توجد حرية فردية أو قرارات شخصية بمعزل عن الدولة، وإن بعض هذه النظم في الدولة المثلى يخالف بطبيعته نوازع الإنسان الغريزية المجبول عليها بطبعه لا بتطبعه أو تعلمه، ومنها حب الملكية الشخصية والأثرة بامتلاك بيت خاص به وزوجة خاصة به وأولاد ينتسبون له.
فضلاً عن ذلك، نجد من الصعوبة بمكان أن تجد رئيساً للدولة أو حاكماً يدير شؤونها بهذه المزايا التي حددها الفلاسفة لرئيسها أو ملكها. إذ من الممكن ان تجد صفة أو صفتين أو حتى ثلاثة أوأربعة لكن لا يمكن ان تجتمع هذه الصفات كاملة في شخص واحد.
لهذا كله، ولغيره هي دولة أو نظام حكم مثالي يوتوبي، لا يمكن ان تجد له مكاناً على الأرض، ولهذا اتخذت صفة يوتوبيا (= اللامكان، أو المكان الخالي من التناقض والتشاكس والعدوان والحرب واللاعدل والبغضاء والشحناء وغيرها من الصفات السلبية).
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الفلاسفة ينظرون إلى الإنسان على أن فيه ثلاثة قوى نفسية تتحكم فيه، هي القوة الشهوية البهيمية، والقوة الغضبية الانفعالية، والقوة العاقلة الفلسفية، فهذه القوى تتصارع فيما بينها في داخل نفس الإنسان، فأيهما تنتصر هي التي تسود على بقية القوى الأخرى. فإن سادت على سبيل المثال القوة الشهوية تحول ذلك الإنسان (الحاكم للمدينة) إلى إنسان أقرب في تصرفاته إلى غرائز الحيوانات، أما أذا سادت قواه العقلية نفسه تحول إلى إنسان حكيم عادل، وهذا ما يريد الفلاسفة لحكام الدولة المثالية، ولهذا كانت مهمة الفلاسفة هي محاربة القوى الشريرة في داخل نفس الإنسان من خلال القضاء المبرم تربوياً على متطلباته الشهوية التي لا حدود لها، وغرز القوى الفلسفية العاقلة فيه. وهذه مهمة صعبة وغير ميسورة لأي إنسان يكون في سدة الحكم أو على رأس السلطة. فكيف ببقية أبناء المجتمع الذي تتألف نمنه الدولة المثلى.
إن هذا التصور اليوتوبي لشكل الحكم السياسي كما تصوره الفلاسفة والمصلحين والحكام، إنما كان رد فعلٍ إيجابي ضد أشكال الحكم الأخرى القائمة في زمانهم، والتي حصروها بأربعة أشكال اعتبروها نظماً وحكومات ناقصة غير عادلة.
هذه النظم السياسية أو الحكومات غير العادلة، هي:، الحكم الأرستقراطي أو التيموكراسي، وهو الحكم القائم على السمعة والشرف والوجاهة العائلية وغيرها من الصفات، وإن كان هو أقرب في نظرهم للحكم المثالي، لكنه لا يمكن أن يقيم حكماً أو نظاماً مثاليا بسبب أن رئيس الدولة يأتي عن طريق المكانة العائلية والوجاهة الاجتماعية .
أما الشكل الثاني من الحكم فهو حكم غير فاضل لأن قائم على المكانة المالية والثروة، ويسميه الفلاسفة بالحكم الأولغاركي، وفيه ينقسم المجتمع إلى فئتين كبيرتين، هما فئة الأثرياء من أصحاب المال، وفئة الفقراء وهم الكثرة الكاثرة في المجتمع. وهذا الحكم يحمل بذور فنائه من داخله، بسبب تسلط الحكام على رقاب الناس من خلال المال والثراء الذي بأيديهم، ويسمى هذا الحكم بحكم النذالة والخسة، بحسب تسمية الفلاسفة له.
ومن هذا الحكم ونتيجة للإفراط في إيذاء الفقراء من قبل الحكام والساسة الأغنياء، تحدث الثورة التي تطيح بهؤلاء الحكام وتقتلهم، وترميهم خارج الدولة، وتتحول عندها الدولة أو الحكم إلى ما يسمى بالديمقراطية أو الحكم الجماعي، وهذا النوع من الحكم يقترن عند الفلاسفة بالفوضى وضياع الحقوق العامة والخاصة بسبب سيطرة مجاميع من هؤلاء على سدة الحكم، وهم يأتون إليه لا من كفاءة أو سمعة أو تعلم أو غير ذلك، كما أن في هذا الحكم تحدث الفوضى الخلاقة، الكل يعتقد انه جدير بحكم الشعب وقيادته.
 كما ونجد في يعيش في ظل هذا النوع من الحكم فئات المجتمع كافة ومن كل المواصفات المعرفية والأخلاقية وغيرها، كما تكثر فيه الحوادث في ظل غياب القانون والنظام المتعارف عليه، فلا يوجد أي وازع أخلاقي أو ديني أو عرفي أو قانوني، فهو كما يسميه الفلاسفة بالحكم الجماعي، ويشبهون أهله وشكل نظامه السياسي كالثوب الموشى الذي تلبسه النساء، فيه كل الألوان، ولا يوجد لون واحد يميزه.
وقد حمل الفلاسفة الذي نادوا بالدولة المثلى على هذا النوع من الحكم السياسي الديمقراطي، والسبب في ذلك كما اعتقد، هو نتيجة ما عايشه هؤلاء الفلاسفة من هكذا نظم سياسية في زمانهم، وما أحدثته من مشاكل سياسية واجتماعية وقيمية وأخلاقية ومعرفية لا تُعدّْ ولا تحصى.
ولربما سوف لن يقبل الكثير من السياسيين اليوم على موقف الفلاسفة هذا في وصفهم للديمقراطية أنها نظام الحكم الجماعي أو حكم الجمهور أو حكم الشعب نفسه بنفسه ممن جاء عن طريق الديمقراطية التي هي قرين الفوضى، مستندين إلى معطيات العصر الراهن وما قبله، وما أحدثه هذا النظام الديمقراطي من تحقيق للحريات الفردية والجماعية وتأسيس مؤسسات ومنظمات مجتمع مدني تقوم على مبدأ الاختيار الحر والانتخاب عبر صناديق الانتخاب، وعدم استبداد الحكام بالسلطة ليوم مماتهم، وتركها من بعدهم جمهوريات أو ممالك وراثية. وخير مثال على ذلك ما يقوم في المؤسسات وأنظمة الحكم في المجتمعات الغربية من حكومات ديمقراطية ومجالس نيابية وصحف وإعلام ديمقراطي يستطيع فيه الإنسان في تلك المجتمعات أن يتكلم بكامل حريته ويريد بكامل إرادته وغير ذلك من حسنات للنظام الديمقراطي.
 ولكن هل يصلح النظام الديمقراطي لمجتمعات ظلت لمدة وحقبة طويلة تعيش على شكل نظام سياسي واحد مركزي السلطة ولا يؤمن بصناديق الاقتراع ولا مجالس النيابة المنتخبة بحرية من قبل الشعب، أظن ان هذه المسألة تحتاج إلى تربية على النظم الديمقراطية وأولها القبول برأي الآخر واحترامه وعدم تكميم أفواه الناس حتى لو أختلف معه بالعقيدة أو الموقف أو الرؤية. وبالتالي تصبح الديمقراطية سلوك لا قول وفعل لا تمنيات وأحلام، ونظم تربوية ومؤسسات تعليمية وتثقيفية، مع احترم رأي الأخر مهما كان لونه أو عقيدته أو مذهبة أو نظرته التي تختلف بالكلية عني.
وعود على بدء، أقول: أن الحكم السياسي الديمقراطي كما يرى الفلاسفة، تحدث فيه وتقوم الفوضى العارمة في النسيج الاجتماعي للمجتمع ونهب الثروات وتفكيك  بنية الدولة، عندها، يقوم مواطنو تلك الدولة بالاستغاثة والبحث عن رجل قوي مخلص يخلصهم من هذا النظام الديمقراطي الفوضوي الذي لا شكل له ولا لون، وفيه لا يوجد أي حق لأي مواطن، ليستعينوا به، فيظهر هذا الرجل من بينهم فيسلموا له زمام الأمر كي يقيم لهم نظاماً وحكماً سياسياً يحفظ حقوقهم كاملة كما يعتقدون، ويؤمن لهم سبل الحياة وطرائق العيش والتنقل وهو ما نصطلح عليه اليوم بلغة السياسة توفير الأمن كاملاً، لأن بتوفيره تقوم مقومات الحياة الاقتصادية والاجتماعية بصورتها الصحيحة. عندها يقوم هذا الرجل الذي ظهر من بينهم وأعطوه زمام القيادة كاملة، أن يقدم لهم كل ما يريدون، ويوفر لهم ما يرغبون، ويمنيهم بالمكرمات والأعطيات، ويكون لهم كما يقول هو لا غيره في خطاباته معهم، خادماً مطيعاً لهم، ينفذ كل رغباتهم وتطلعاتهم.
لكن، وهنا بيت القصيد، هذا الرجل وبعد ان يسيطر على يتسلم مقاليد الحكم السياسي برمته ويسود ومن خلال أعوان له أشداء في ذلك، يستبد ويطغى في الأمر كله، ويكون هو الرجل المستبد الذي يضرب عرض الحائط كل ما قاله لهؤلاء المواطنون الذي سلموا له مقاليد الحكم، ويبدأ بشحن الحروب بين المواطنين في دولتهم وإثارة النعرات والنزاعات مع جيرانه، وإفقار أهل بلده الذي يحكمه، حتى لا يستطيعون التآمر عليه وقلب نظام حكمه. وهنا يتحول شكل الحكم السياسي من حكم ديمقراطي إلى حكم استبدادي طغياني بامتياز.
لكن صفة المستبد الخاصة به دون غيره أنه (طرون) لا يسمع إلا صوته وصوت حاشيته والمحيطين به ممن يزينون له سوء فعاله حسنات، وسوء تصرفاته وأحكامه فضائل، فيسهمون من حيث لا يدرون بحفر قبورهم بأيديهم، قبل غيرهم، ألا ساء ما يصنعون، وساء ما يزرون. ولات حين مناص.
هكذا إذن تُفرخ الأنظمة الديمقراطية عندنا، نظماً استبدادية من داخلها، فيها  يُنكَس الناس على رؤوسهم في هذا النظام الاستبدادي يبحثون عن مخرج ورطوا أنفسهم فيه بأنفسهم، فهل من مخرج، إلا بقوة دولة من خارج غاشمة محتلة مبددة للثروات قاتلة لأرواح الناس في البلد المحتل.
وهكذا دواليك تقوم الأنظمة غير العادلة وهكذا تسقط في دوراتها الحياتية عبر مسيرة التاريخ. وهو ما وعاه وقرأه الفلاسفة عبر التاريخ ونبهوا له وكتبوا فيه، لكن لا يوجد من يقرأهم من السياسيين والحكام، وإن وجد فلا يدرك ويفهم المغزى، لأن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب