وضع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في قصيدته ( غريب على الخليج ) محنة الذات والوطن أمام هذا المسطح المائي الذي كان بوابة لسندباد البصرة ليصنع لنا حكاياته الأسطورية .
حتى إن البصرة في الغرب تُعرف من خلال السندباد أكثر مما تعرف من خلال الفراهيدي وعتبة بن غزوان وشط العرب.
القصيدة في دهشتها هي غربة للشاعر والمكان .ودائما غربة الشاعر هي في فقدانه لوطنه وهو فيه وفي عدم قدرته نيلَ الحلم والراحة والأمان والرغيف والدواء .ولهذا تكون المناجاة هي رد الفعل ومناجاة الشعراء هي القصيدة حين ترتدي الدمعة والدمعة حين تصير رسالة.
البصرة ثغر العراق والرئة التي نتنفس منها بهارات الهند ونسائم البحر وبضائع الصين .ومنها تذهب تمورنا إلى أسواق العالم ومنها يذهب نفطنا ليُشغلَ مصانع تيوتا ولوكهويد والروز رايس …
وفي مصيبة اخرى : منها تبدأ حروب الوطن .لنذهب مع شبل زين القوس المسكين لنحتل المحمرة وعبادان ونصل حتى مشارف الاحواز .وفي صولة اخرى نعبر جبل سنام وقضاء سفوان نغزو الكويت في خطأ تأريخي ندفع ثمنه اليوم سعالا وشرجياً قاتلا وفسادا منظما يتشابه فيه سراق المال العام مع سُراق حاويات ميناء الأحمدي والمحمرة القدامى.
حتى إنني ذات يوم في مطلع التسعينيات ذُهلت حين قرأت عبارة كتبها طالب كويتي على رحلة مدرسية في مدرسة عراقية بأهوار الناصرية سُرقت من أثاث مدارس الكويت تقول : وأنت تجلس عليها لن تنهلَ بعلم لأنها مسلوبة.
ومن 1991 وحتى الساعة ونحن ندفع الثمن جوعا وقادة فروع وفيالق وفرق ومقابر جماعية وجوازات لاتوصلنا سوى إلى دمشق وعمان وغذاء منتهي الصلاحية في بطاقة التموين وبالات ملابس مستعملة ومليشيات ونوابا يكتسحون الصناديق في غير أمكنة ولادتهم وسجونا (لا) أقفال فيها وهي تحتوي الأخوة الأعزاء لابن لادن والزرقاوي وفتاوى ما انزل الله عليها من سلطان من قتل الحلاقين حتى عزل الخيار عن الطمامة في بسطية بائع الخضرة.!
من بين هذه المعمعة والجعجعة نالت البصرة حصة لايستهان فيها …وحين تنفست الصعداء لتعيش كواحدة من ممكنات خيال ألف ليلة وليلة لم تجد ما يسرها ..بقيت ( بصرة ) منكسرة الخاطر والخجل حتى في تظاهراتها .
هي تريد أن تكون البصرة .( جنوبا ) يليق بها .محملة بأصالة ماورثت ، نخلها وثقافتها وأحلام هيوة زنوجها وتوابلها وكل عاطفة مميزة لهذه الأسطورة التي تلتصق بعطر الحناء ودموع الشهداء بقدر تاريخي كبير .
لم تهنأ …كل يوم تأتيها فتوى من هيمنة ما …المحافظ يحمل وعوده وامتيازاته وتثقل جيوبه ويمضي ويجئ جديد ويمضي..
يرسمون لها فدرالية ويرسمون لها أبراجا كما في دبي ومدن العاب كما في والت ديزني والكهرباء عنها مقطوعة .
يبنون فيها ملعبا لكرة قدم ولأسبوع فقط لضربات الجزاء وصافرة الحكم وجيوب المقاولين والمنتفعين وفقراءها يلتهبون حرا وجوعا وشوارع مكسرة وبنى تحتية حتى في إدامتها هناك سُحتاً هائلاً.
ينتظرون وفود أهلنا في بطولة الخليج لتسعدهم فرقة الخشابة وزنبورة الرائع ( سعد اليابس ) وماصول تومان البصري ثم يعودون وقد صرفت على وهم هذا الكأس مليارات الدنانير والتي بها نبني 1000 مدرسة لألف عام قادم أفضل من أن نبني بها ملعبا لأسبوع من طلب رضا الإخوة في المنامة ودبي ومسقط ونحن حتى ولا ولن نصير أعضاءً في مجلس التعاون الخليجي فيما تم قبول طلب المغرب القابعة في الشمال الإفريقي العربي وطلب الأردن …
نصرف مليارات ومليارات على كأس وهم وميناء الفاو المقترح يرتعش هلعا وهو على أوراق مخططاته ولا احد يريد المضي به خوفا من أجندة الجار والمستجار .
مافائدة من ميناء الفاو .فلقد بنت الكويت ميناءها قبلكم .وهذا في منطق السيادة بالنسبة لها حق حتى وأن خنق الفاو من ( البلاعيم ).
سنبنيه …وسيكون كما ملعب كأس الخليج صرحا هائلا لرياح السموم …والتجاذبات ودوري الفرق الشعبية .
لا أحد يريد أن يرحم البصرة ..ويتفاهم مع جيرانها بعقل المنطق والسياسة .
مليون تصريح ومليون تهديد ومليون مجاملة ..والبصرة تعطش وتشرب الماء المالح وتكنس الأتربة مدامع أهلها في مزادات البرلمان وأروقة ووزارات المحاصصة .وكأنها تدفع أثمان أزمنة التهور والفيالق والبيانات الحماسية ، فيما أولياء الأمر يفكرون كيف ينجحون كأسا نستضيفها لأسبوع واحد
والمستفيد من كل هذا واحد هو من نفذ هذا المشروع بملايين الدولارات . وبعض منتفعي الصفقات .وكأس الخليج أصبحت وهماً بعد أن يقرر إخوة السكين في الخاصرة أن لايأتوا ولا يلعبوا على الأرض البصرة وكما يدعون خوفا على حياتهم.
ربح المقاول وخسرت البصرة وكان الأولى بهذه الملايين أن تصير مدارس ومشافي وحدائق ومشاريع ماء لمدينة يلتقي عندها نهران وتشرب الماء المالح .
فالملعب الرياضي قد يؤجل لكن عطش الناس وتعليمهم لا يمكن تأجيله أبدا
لماذا لا يتكلم البرلمانيون عن وهم كأس لا ندري إن كنا نفوز به أو لم نفز وقد اخذ من ميزانية الدولة مليارات الدنانير على حساب مشاريع أهم منه ولم يلتفتوا ويدققوا حتى التقارير التي ظهرت في صحيفة العالم حول الأداء والفساد في تنفيذ مشروع المدينة الرياضية في البصرة
أنها معضلة ومهزلة …
نعم كرة القدم وبنيتها التحتية وجها حضاريا لكل بلد ..ولكن اللاعب الأسطورة بيليه يقول : الموهبة يخلقها الله وليس ملعب وينبلي .. فكل مواهب العراق الكبيرة في هذه اللعبة صنعتها الساحات الشعبية في مدن العراق ولم تصنعها ملاعب المليار دولار.
أنها مع معضلة …أيها السياب أن تقف البصرة ترنو إلى الخليج …وعيونها تدمع رمياتً ركنية وتصريحات َوهمية وبطاقات تموينية..