مفهوم المدنية في العراق أصيب بوعكة اصطلاحية، جعلت منه مفهوماً لعدة اصطلاحات، حسب المزاجات والميول والسوق الانتخابية والذائقة الشعبية، مما جعله يعني الانحلال تارة من وجهة نظر انحلالية، تحاول تبرير انحلالها بأي صورة كانت، وتارة هو السلوك السياسي القائم على التلويح بالقوة دون استخدامها، حسب رأي احد القيادات المليشياوية، ليكون محل نزاع في إثبات نسبه لأي طرف منهما، وكلا الطرفين يشوهانه !
انقسمت القوى السياسية المحلية الى ثلاث أقسام، يلاحظ عليها الجنوح المدني بشكل كبير وواضح، فبعضها أملته عليها ضرورة البقاء في المشهد السياسي، وبعضها الاخر اصيل وناتج عن منظومة فكرية وممارسة سياسية مترسخة في عمق فلسفة ومتبنيات هذا التيار أو ذاك، لنكون في قسمها الاول امام احزاب وتيارات علمانية، تنتهج السلوك اللاديني المادي، القائم على الفصل بين الدين والحياة العامة فصلا تاماً، تحاول اختزال ( المدنية ) بسلوكها وفلسفتها ومتبنياتها، لتنكرها على غيرها، لتتجسد عندها المدنية في الحرية المطلقة من كل قيد أو حد، سواء الحدود المادية أو الاخلاقية لتصل حد الانحلال الخلقي .
قوى وأحزاب دينية أو كما يسميها البعض بالأحزاب الاسلاموية، تكون في القسم الثاني من تصنيفنا، بسبب الظروف الاستثنائية للواقع العراقي، اختزلت جميع متبنياتها وسلوكها وفلسفة عملها بالجانب العسكري، حتى رادفت بين اسلاميتها وعسكريتها في الكثير من الطروحات السياسية والاجتماعية، لتحاول الان الظهور بالزي المدني من حيث الخطاب، بينما استحال عليها الخلاص من السلوك العسكري حتى في الأجواء المدنية الحقيقية، لتصاب بلعنة العسكرة الفكرية، لتكون كمن يتحدث عن الستر وهو عار العورة امام الآخرين، حين حديثها عن المدنية والتعايش السلمي والأمن المجتمعي ! .
القسم الثالث ليس محاولة الجمع بين المتمدنين والإسلاميين، ليظهر الامر وكأنه محاولة للجمع بين الأضداد، لأن مدنية الاول تترادف مع الانحراف، بينما إسلامية الثاني اكذوبة، لنكون امام نوع ثالث يحترف السياسة، مسلم متمدن اصيل وليس بدخيل، كون المعاني تعرف بأضدادها، والمدنية تعرف بعد معرفة العسكرة، والتيار الحكيم هو من استطاع الموائمة بين فكره الديني وسلوكه السياسي وممارساته المدنية، ولَم يَصْب بوعكة اصطلاحية لا في اسلاميته ولا في سلوكه المدني .