22 نوفمبر، 2024 11:17 م
Search
Close this search box.

المدنية لا تنتج وحوشا تصلح للعنف

المدنية لا تنتج وحوشا تصلح للعنف

تعقيب على سؤال الأستاذ عبد الزهرة زكي (هل نحن أمة تختزن طاقاتها لتدمير ذاتها؟)
تخبرنا مزامير التاريخ أن المدن والدويلات والحواضن الحضرية والمتمدنة لا تنتج بسهولة مقاتلين أشداء ووحوشا جُردوا تماما من إنسانيتهم، ومرويات التاريخ قدمت لنا نماذج كثيرة من تلك الجيوش الجرارة التي إنطوت عقيدتها على الإيغال بالقسوة والبطش وجز الرؤوس ببرودة أعصاب والتلذذ بالتمثيل بالجثث، وهي – أي الشعوب المتمدنة – أسرع الى الهزيمة أمام الجيوش الغازية، وهذا ما دفع بالعديد من الحواضر الى بناء القلاع لتحمي نفسها من ضاريات الغزو القادم من المناطق التي ألفت الحياة القاسية، وأحد أهم الأمثلة على ذلك هو سور الصين الذي بنته أحد أكثر الشعوب القديمة تحضرا، لصد غزوات شعب كالمغول لا يشكل تعداده رقما يذكر بالنسبة للكثافة السكانية للصين.        
الهون والعرب (الفاتحين) والتتر والمغول والترك والفايكنغ والبربر، نماذج لشعوب نشأت في ظل ظروف قاسية وصعبة غلب عليها الحرمان والكبت والعيش الضنك وأيضا على المعاناة من  الظلم والتخلف وخنق الحريات، هذه البطون أنتجت عنصرا بشريا (يضمر ثأرا وحقدا وموقفا لا إنسانيا من الآخرين)، فمعظم مشاهد العنف (الحيواني) التي قرأنا عنها سابقا والتي نشاهدها الآن يوميا بـأبشع صورها، كانت وراءها صناعة رديئة للكائن الحيواني (الإنسان) !!…..
في عراقنا على سبيل المثال ، بدأت (ماكنة) الصنع البشري الحديثة والمتطورة تطرح أنتاجا بشريا يلائم العصر الإنساني الحديث، أو يلامس الى حد ما المنتج البشري للبلدان المتحضرة إبتداءا من تأسيس الدولة العراقية الحديثة عقب هزيمة ما يسمى بـ (ثورة العشرين) وإنتصار المدينة والمدنية على يد الجيش البريطاني المحتل !!…. بدأ مجتمع العراق يعيش تطورا إيجابيا تصاعديا للسلوك الفردي والمجتمعي، رافقه إتساع رقعة المدن، مع إحتفاظها – وهذا الأهم – بحق فرض تقاليدها  ونموذج حياتها وطرز معيشتها على القادم إليها من الريف.
وقد وقع هنا العديد من المتابعين لهذا الشأن في خطأين جسيمين (وبعض منهم كتاب معروفين دخلت معهم في سجال قبل أن يقتنعوا بالمنظور الذي نتحدث من خلاله)، الأول هو : تصورهم أن المدينة هنا هي العاصمة بغداد !، وفي هذا مجافاة للحقيقة وخروج على شرعة التطور والتلاقح الذي تشهده كل مدن وشعوب العالم بلا إستثناء، فالمدينة هي المدينة أينما كانت في ربوع العراق، وهي تشكل بالتتابع البناء الهرمي الذي تنتهي قمته في العاصمة، وعلى سبيل المثال، كنت شخصيا من المولعين بالسفر الى أي مدينة عراقية كلما وجدت فرصة الى ذلك، فـ – مع فروقات بسيطة – كانت الموصل والبصرة وبعقوبة والرمادي والعمارة مدن تكاد تتشابه في عمرانها وتعاطيها مع مستلزمات الحاضر في حينه (الحديث هنا عن فترة الستينيات)، ولم يكن ذلك مقتصرا على مراكز المحافظات،  بل وجدت تلك المدَنـيّة في أغلب أقضية العراق، من سامراء الى سوق الشيوخ الى هيت الى قلعة صالح الى الصويرة الى راوندوز !!.
أما ما يخص الخطأ الثاني، هو تصور البعض أن الحديث عن هذا الموضوع يخص مجموعات عرقية بعينها، وفي هذا أيضا مجافاة للخصائص والاصول السكانية لمجتمعات المدن الكبرى في العراق، فكل القوميات والمذاهب والعرقيات العشائرية وغيرها تقصد العاصمة والمدن الكبرى وتشكل بعض من نسيجها، بل وتتقدم على أبناء المدن الأصليين في إبداعاتهم العلمية والثقافية والأدبية والفنية والرياضية الى ما غير ذلك.     
عود على بدأ، فإن التطور المجتمعي المتصاعد كان واضح الملامح طوال العقود الثالث والرابع والخامس والسادس من القرن الماضي، ……. لكن الفيصل الذي قطع دابر ذلك النمو السليم  جاء في تموز من العام 1958 بيد ضابط عراقي (حسن النية)، ليكون مسؤولا عن تلك الصناعة، (صناعة الإنسان) !، فجانبته الظروف المحلية والأقليمية، وعصف بالدولة العراقية رياح، بدأت منذ ذلك الوقت بتمزيق نسيج المجتمع العراقي، …… فأخطأوا حكام العقد الستيني  في نسب المواد الاولية الداخلة في صناعة الإنسان!!، ما جعل المنتج يأخذ طريقه الي التردي، وليفتح الطريق أمام صراعات مختلطة النزاعات والميول …… حتى جاءت الكبوة الكبرى في العام 1968 عندما هزمت المدينة أمام بدوي غازٍ وصلها من أرض يابسة وقاحلة، (وعلينا هنا التفريق بين الريف الاخضر الذي يحتضن الأنهر، والريف القاحل الذي يشكل إمتدادا للبوادي والصحاري)!………. جاء الأعرابي وهو يضمر حقدا غير مسبوق  لأي معلم مديني، إبتداء من الناحية تكريت – التي ينتمي إليها إداريا ريفه اليابس – وإنتهاء بالعاصمة التي دخلها هاربا من ملاحقة عشيرة الشهيد النبيل سعدون الناصري.
بدأ – ذا النزعة البدوية – يبطش إبتداءا برفاقه (الحَضَر)، على حد وصف القيادي البعثي تايه عبد الكريم، وإنتهاء بالشاب المراهق الذي يرتدي بنطالا يتبع الموضة……. وتمكن بالتالي من تغيير كل المواد الاولية الداخلة في (الصناعة) البشرية تغييرا شاملا، …. عن سابق قصدٍ و تصميم، بل وصرح بذلك علنا عندما قال ( اللي يشبع ويعيش منغنغ ما يعرف يكاون) !!.
 وهكذا فسد إنتاجنا البشري، وهكذا عدنا الى ما قبل الدولة الحديثة – كما تفضل الأستاذ زكي –  …. فمعظم الطاقات التي يختزنها الانسان العربي اليوم هي طاقات سلبية وتدميرية ، وما نراه اليوم هو فعل متوقع من إنسان ولد وعاش في ظل سلطات بدوية وقهرية وغرائزية !.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 إضافة أخيرة لها علاقة بموضوعنا :
( برغم كل السيئات – المؤكدة – للسلطات السوفياتية الشمولية التي إمتد حكمها لسبعين عام ، فإن ما سجله المراقبون المعنيون بالعلوم الإجتماعية، كان مفاجأ ً لهم، ما إستدعى الى دراسته كظاهرة إنسانية ملفة للنظر …….. فعندما سقطت تلك السلطة الحديدية وغابت أذرعها البوليسية لأيام غير قليلة، لم تسجل هناك أي من الحوادث التي تستحق الذكر، من قبيل الهجوم على دوائر الدولة أو سرقة مخازن أو نهب محلات أو ممتلكات عامة !!!. (ونحن هنا نتحدث عن دولة بحجم قارة) …..  ودلالات ذلك واضحة للدارس الاجتماعي، أبرزها .. أن خلطة المواد الاولية التي كانت تدخل في ماكنة صنع الانسان ظلت خلطة متوازنة تخلو من العناصر الرديئة والضارة والعفنة ) !!….
[email protected]

أحدث المقالات