تحدثنا في مقالات سابقة عن كتاب (الإباضية فرقة إسلامية بعيدة عن الخوارج)، وسبب تأليفه، كما تناولنا (مدرسة الإباضية كيف نشأت. ومن هم علماؤها ورموزها)، و (الإباضية والخوارج.. اختلاف أم اتفاق؟) و(الفكر السياسي للإباضية وأسس التعامل مع الأنظمة التي عارضوها)، واستكمالاً لهذه السلسلة نتناول في هذا المقال موقف المدرسة الإباضية وأتباعها من الصحابة رضوان الله عليهم، وكما قلنا في مقالات سابقة فإننا اعتمدنا المصادر الإباضية في تبين موقفهم من القضايا المختلفة من باب “أهل مكة أدرى بشعابها”.
أولًا: الصحابة عند الإباضيّة
يرى الشيخ علي يحيى معمّر: أنّ الدعاية التي سلّطها المغرضون على الإباضية، والإشاعات التي يطلقونها زاعمةً أن الإباضية يكرهون الصّحابة أو بعض الصحابة، ثمّ موقف بعض المتطرّفين من الإباضية واستجابتهم للتحدّي وردّ الفعل في مواقف إحراج – مما سهل كلمات انفلات منهم أحياناً كلّ ذلك يقتضي أن نعرض هذا الموضوع لنوضح رأي الإباضية الحقيقيّ فيه بعيداً عن الإشاعات والتطرّف:
– جاء في رسالة لأبي مهدي عيسى بن إسماعيل شيخ العزابة في حينه يردّ فيها باسم عزابة بني مصعب على أبي علي بن أبي الحسن البهلولي ما يلي: فنبدأ بمسألة الصحابة رضوان الله عليهم وذلك قولك بلغنا عنكم أنكم تبغضون بعض الصحابة، فيا سبحان الله: كيف نبغض الصحابة مع ورود النصوص في فضائلهم والثناء عليهم كتاباً وسنّةً يأبى الله ذلك والمسلمون، بل هم عندنا في الحالة التي ذكرهم الله عليها من العدالة والنزاهة والطهارة والثناء والمدحة:
قال تعالى:﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾[آل عمران:110]، وقال تعالى:﴿ وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾[البقرة:143]
وغير ذلك من الآيات وهم بالحالة التي وصفهم بها صلى الله عليه وسلم إذ قال: “إنّ الله قد اختار لي أصحاباً فجعل منهم أصهاراً وأختاناً، فمن سبّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”. وقال أيضًا: “لا تؤذوني في أصحابي فلو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه”، وقال أيضًا: “اقتدوا بالذين من بعدي”.
وقوله عليه الصلاة والسلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، وغير ذلك من المدح والثناء عليهم، اللهم زدنا حبهم واحشرنا في زمرتهم، يا أرحم الراحمين، بل لهم السهمُ الأوفر وسلكوا الطريق الأقصد ولزموا السبيل الأرشدَ، فيهم أئمة السناء ونجوم الهدى، وأعلام الدين، ومنار الإسلام، وكلامهم حكمة، وسكوتهم حجّة، ومخالطتهم غنيمة والاستئناس بهم حياة، والاقتداء بهم نجاة، ويلٌ للزائغ عن طريقهم الراغب عن سبيلهم. ويضيف أبو مهدي إلى هذا الكلام ما يلي: “كان أبي رحمه الله ينهى من ينكر ما جرى بينهم إلا من يذكر عنهم خيراً، رضي الله عنهم ورحمهم، فهذا اعتقادنا في الصحابة رضي الله عنهم”.
كما يذكر أبو العبّاس الدرجيني في كتابه الطبقات ما يلي:
الطبقة الأولى: هم أصحاب رسول الله (ﷺ)، وأفضليتهم أشهر وأسماؤهم ومزاياهم أظهر، فلا يحتاج إلى تسميتهم، لأنهم رضوان الله عليهم تحصّل من سيرهم وأخبارهم في الدواوين، ومن آثارهم محفوظاً في صدور الراوين، ما أغنى عن تكلف تصنيف وانتحال تأليف وحسبهم ما قال رسول الله (ﷺ): “لا يشقى من رآني” وقوله (ﷺ): “أفضل أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” وأحاديث كثيرة في فضائلهم، فإذا ثبت هذا فاعلم أن من الصحابة من لم يخالفنا في تقديمهم مخالف، فقد امتلأت بذكر فضائلهم الصحائفُ ومنهم من لم ينلْ حظاً من الإنصاف عند أهل الخلاف وهم عندنا في جملة الأكابر والأسلاف.
كما يقول أبو الربيع سليمان الجيلاني: وأما الإنكار على بعض الصحابة فكذب وفريّةٌ علينا وهذه كيفية صلاتنا على النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأميّ وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته أجمعين كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. فمن حسنت شيمته وسلِم من داء الحسد والبغض والغيبة، إذا تأمل هذه العبارة وفهم معناها يجدها شاملةً لكل صاحبٍ وآل وزوجةٍ وذرية قريبةٍ أو بعيدة اتباعاً لقوله تعالى:
﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ﴾ [الشورى: 23] والمودّة الصلاةُ والترحّم، ونحن – والحمد لله-وفّينا بما أمر الله به، والجهّالُ المتشدّقون عسى الله أن يرحمنا ويكفينا شرّهم، وشرّ أنفسنا وشرّ القوم الظالمين.
وقال أبو يحيى زكريا بن يونس الفرسطائي: كنت في الحج فطفتُ بالبيت فلما أتممت أخذ رجل بيدي فأخرجني من الناس، فسألني عن علي، فقلتُ: فارس المسلمين، قاتل المشركين، وابن عم رسول رب العالمين وله فضائل.
وقال الشيخ محمد بن أبي القاسم المصعبي في رسالة يردُّ بها على بعض من تناول الإباضية في الجزائر بغير الحق وقد عرض المصعبي عقيدة الإباضية وفي آخرها: وندين لله تعالى باتّباع كتابه واتّباع سنة نبيه محمد(ﷺ) وما عليه الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابعي التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين واعتقادنا في الصحابة رضي الله عنهم أنهم عدولٌ وأنهم أولياء الله وحزبه ألا إن حزب الله هم المفلحون فهذا اعتقادنا وعليه اعتمادنا، فالله ربنا ومحمد نبينا والقرآن إمامنا، والكعبة قبلتنا والصحابة قدوتنا، وقد مدحهم الله في كتابه في غير موضوع، ثم يذكر الآيات التي نزلت في بعضهم خصوصاً، ثم الأحاديث التي وردت فيهم عموماً ثم الأحاديث التي وردت في بعضهم خصوصاً ثم يقول: في أحاديث كثيرةٍ في عمومهم وخصوصهم رضي الله عنهم نسأل الله تعالى أن يثبتنا على طريقتهم واتباع مسيرتهم وأما ما وقع بينهم من الحرب فإن الله طهر منها أيدينا ونحن نطهر منها ألسنتنا لقوله (ﷺ) “إذا ذُكِرَ أصحابي فأَمسِكوا”.
وقال الإمام أبو إسحاق إبراهيم اطفيش: في رده على الأستاذ محمد بن عقيل العلوي ما يشبه ما سبق فقد جاء في رسالته الصغيرة: النقد الجليل للعتب الجميل ما يلي: أما ما زعمت من شتم أهل الاستقامة لأبي الحسن علي وأبنائه فمحض اختلاق. ويقول في نفس الكتاب: “والأصحاب يتحرون تطبيق حكمي الولاية والبراءة لا تشهيًا، وهما ينطبقان على كل فرد مهما عظمت منزلته مالم يكن من المعصومين ولا معصوم إلا النبي أو الرسول. أما الصحابة فلهم مزية عظيمة وهي مزية الصحبة والدفاع عن أفضل الخلق وإراقة دمائهم في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى فيختار الكف عن تلك الحوادث المشؤومة.
ويقول بعد أسطر: وأيضاً لا غبار على من صرح بخطأ. المخطئ منهم بدون الشتم بعد التثبيت من ذلك والتبين وإن أمسك لعموم الأحاديث الواردة فيهم وترك الأمر إلى الله فهو محسن. ويقول أيضاً في نفس الكتاب: ولم يكن يوماً من الأصحاب شتم ولا طعن: اللهم إلا من بعد الغلاة وهم أفذاذ لا يخلو منهم وسط ولا شعب.
وقال قطب الأئمة في أمير المؤمنين عثمان بن عفان: ولد قبل رسول الله (ﷺ) بسنتين، ولقب بذي النورين، لأنه تزوج بنتي رسول الله (ﷺ) رقية وأم كلثوم بعد رقية. قال رسول الله (ﷺ): لو أن لي أربعين بنتًا لزوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا تبقى منهن واحدة، وقيل لأنه كريم في الجاهلية والإسلام. وذكر قطب الأئمة في أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب: وهو من شهر، ولا يحتاج إلى ذكر فضائل من نسب وزهد له عقل وعلم وشجاعة وعدل.
ثانياً: الإباضيون ومواقفهم من الأحداث الدامية والنزاعات بين الصحابة
يقول العلامة أحمد الخليلي وهو المفتي العام لسلطنة عُمان: “وبعدما خلت القرون عليهم وانطوت العصور بعدهم فإنه من الأسلم أن تطوى صفحة أحداثهم، وتلجم الأفواه، وتقطع الألسن عما شجر بينهم، فلا يذكروا إلا بمناقبهم ومآثرهم الحسنة، فإن هذا الذي يقتضيه قوله تعالى:﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[البقرة: 134].
ويضيف قائلًا: “ولكن الذي دعانا إلى أن نتعرض لبعض ما حدث من بعضهم، ونستدلّ للحقِّ في ذلك بنصوص القرآن وأحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام هو أن كثيرًا ممن خاض في هذا لم يكن مستهدٍ فيما يقوله أو يؤثره ببصيرةٍ من القرآن أو ببينةٍ من سنة الرسول (ﷺ)، وإنما كان فيما يقوله متأثرًا بعاطفةٍ رعناء ومندفعاً بعاصفة من الهوى، لذلك أغمض عينيه عن الواقع الأبلج وأصمّ أذنيه عن حجج الشرع التي تصخ الأسماع، فكم تجد في كلامهم تبرئة ساحة من خرج عن الخليفة الشرعي لقصد استلاب الخلافة منه وتحويلها إلى ملكٍ عضوض”. وكذلك قال: “وقد تجاهل هؤلاء المموهون ما صدر على هؤلاء من الحكم بالبغي على لسان رسول الله (ﷺ) بما تواتر عنه من الأحاديث الصحيحة”.
على هذا، فالأمور يجب ألا يحكم فيها إلا بعد الإحاطة بملابساتها، والتعمق في أبعادها، والنظر في بداياتها ومآلاتها، واستحضار حكم الله ورسوله فيها. ولذلك من خلال رجوعنا إلى هذين المصدرين الكبيرين؛ أيّ القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وضحت لنا قضايا لا بد من الأخذ بها في الاعتبار، وهي:
القضية الأولى: أن جيل الصحابة هو أفضل الأجيال بالنظر إلى ما كان يتميز به مجموعهم من رسوخ الإيمان وصفاء القلوب وصلاح العمل وانتشار البر وقلة الفجور مع ما أكرمهم الله به من لقاء رسول الله (ﷺ) والتلقي عنه.
القضية الثانية: أنهم لم يكونوا معصومين فإنهم كغيرهم عرضة للشيطان ووساوسه وعرضة للوقوع في الزلل، ولذلك أقيمت عليهم الحدود المشروعة في الإسلام كالزنا والسرقة والقذف، وإنما العصمة للنبيين وحدهم.
القضية الثالثة: أنهم يناط بأفعالهم خيرًا أو شرًا جزاؤهم العادل في الدنيا والآخرة، فقد حظوا في الدنيا بنصر الله لهم وتمكينه إياهم جزاء ما فعلوه من الخير كما أنهم مجزيون على ذلك أحسن الجزاء في الدار الآخرة، وفي مقابل ذلك يشملهم العدل الإلهي فيجزون في الدنيا على ما يرتكبون من هتك محارم الله مثل ما يجزي غيرهم. ولذلك لم يعفوا من الحدود الشرعية، فأقيمت عليهم كما تقام على غيرهم. وكذلك يتوجه إليهم الوعيد الأخروي كما يتوجه إلى سواهم، فهم في غير مأمن من العقاب إن لم يتوبوا مما أتوه.
القضية الرابعة: أنهم في حكم الاصطفاء والولاية ويشمل حب المؤمنين لهم في الله تعالى بالنظر إلى عمومهم، أما أفرادهم فيرجع ذلك إلى ما يصدر عنهم من استقامةٍ أو ضدّها فهم في برهم يعاملون بما يستحقّون، وإن لم يبرّوا فكلٌّ منهم يتحمل تبعة ما فعل.
القضية الخامسة: أن النبي (ﷺ) كان يتولى من يتولاه منهم بحكم الظاهر عندما تظهر لهم منهم الاستقامة والبر إلا إن أوحي إليه في أحد بعينه أنه مرضي عند الله، فيتولاه بموجب ذلك ولاية الحقيقة بحيث يقطع بسعادته وتكون ولايته غير منوطةً بما يأتيه من الأعمال وإنما هي معقودة على ما علمه قطعاً من رضى الله تعالى عنه.
القضية السادسة: أن من ثبتت ولايته بالحقيقة يعامل في الدنيا بموجب ما يصدر عنه من العمل كما يقتضيه شرع الله ولا تعصمه ولايته من إجراء الأحكام الشرعية عليه وإن بقيت ولايته راسخةً لا يزعزعها ما صدر عنه من عمل.
لا يتسع الحديث في هذا المقام عن ذكر مواقف الإباضية من الصحابة جميعاً، ولكن مهما يكن، فقد اعتبر أتباع المدرسة الإباضية من علماء وفقهاء كبار بأن جيل الصحابة هو جيل الصفوة وجيل عظيم وجيل التأسيس، وجاء ذكرهم في الفكر الإباضي بأنهم خيرة الناس كما وصفهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وفي المقابل، فقد وقف الإباضيون من الأحداث الدامية التي جرت بين الصحابة في خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وفي بداية العهد الأموي موقف الحياد، واعتبروا _ في مقدمتهم العلامة أحمد حمد الخليلي كما أسلفنا – أن علينا الأخذ بالمآثر الحسنة لجيل الصحابة، وعلينا ترك الخلاف الذي جرى بينهم، وهم أحوط لحاضر المسلمين ومستقبلهم.
المراجع:
أحمد حمد الخليلي، أجوبة مختارة، دار الكلمة الطيبة مسقط، سلطنة عمان، ط1 1438ه، ص 17-22.
جوابات الإمام السالمي، تنسيق ومراجعة د. عبد الستار أبو غدة، إشراف: عبد الله السالمي، الطبعة الثانية 1419ه،1999م، 5/ 433.
علي محمد محمد الصلابي، الإباضية مدرسة إسلامية بعيدة عن الخوارج، دار ابن كثير، بيروت، لبنان، 2018/2019.
علي يحيى معمر، الإباضية بين الفرق الإسلامية، مكتبة الضامري للنشر، عمان، الطبعة الثالثة 2014، ص. ص 303-307.