18 ديسمبر، 2024 7:48 م

المختلف وتدمير كتبه وذاكرته

المختلف وتدمير كتبه وذاكرته

حتى لحظتنا هذه لا يزال هناك تدمير متعمد للكتب في عالمنا. وسواء كان الكتاب المدمر ألواحا سومرية أو مخطوطات إسلامية… فإن المشكلة تكمن في الموقف العلني لهؤلاء الذين يدمرون الكتب.

في القرن الخامس قبل الميلاد قاضى الأثينيون الديمقراطيون المتصوف بروتاغوراس بتهمة الإلحاد وأحرقوا كتابه “عن الآلهة” في محرقة عامة. وحسب رواية ديوجينس ليريتوس كاتب سيرة أفلاطون، الذي أوصى بإقصاء الشعراء من جمهوريته الفاضلة، وحاول إحراق كتب ديموقريطوس ثم قام بحرق قصائده هو عندما اِلتقى سقراط.

ولم يتردد شخص متسامح مثل ديفد هيوم الفيلسوف البريطاني في أن يطالب بمنع وحظر جميع كتب الميتافيزيقا. وفي سنة 1910 نشر المستقبليون بيانا دعوا فيه إلى تدمير جميع المكتبات وفنون الماضي وتراث الأمس.

وفي 1967 أحرق الشعراء الكولومبيون من جماعة ناديستا رواية ماريا لجورج ايزاك وأعلنوا ضرورة تدمير الماضي الأدبي للأمة، كيف لشعراء أن يفعلوا ذلك؟ كيف لمثقفين أن يصدروا حكم الإعدام على رأي في كتاب وهم يعلمون أن الثقافة تراكمية ولا توجد من فراغ؟

جوزيف غوبلز نعرفه جميعا كارها خطيرا للثقافة والكتب وهو الذي نظم في 1933 المحرقة النازية الكبرى للكتب في ساحات برلين، وفي 1939 قام مسؤولو مكتبة سانت لويس العامة في الولايات المتحدة بمنع كتاب “عناقيد الغضب” لجون شتاينبك وأحرقوا نسخه علانية أمام الجماهير(…)، وحتى لحظتنا هذه لا يزال التدمير المتعمد للكتب يطغى على جميع الأحداث الخسيسة في عالمنا.

وسواء كان الكتاب المدمر ألواحا سومرية أو مخطوطات إسلامية أو كتبا ماركسية أو كتبا هندوسية فإن المشكلة تكمن في الموقف العلني لهؤلاء الذين يدمرون الكتب لأنها تخالف ثقافتهم، ونعثر على مثالهم في جميع الثقافات القديمة والمعاصرة، حيث يقسم معظم البشر عالمنا إلى “نحن” و”هم”، ومن الطبيعي أن نكون “نحن” الأفضل والأجدر بالحياة فنحن من يستحق البقاء وسوانا لهم الجحيم. وبتطبيق هذا المعيار في إلغاء الآخر، تمارس الرقابة والشوفينية والعنصرية والطائفية الإنكار الدائم لحقوق وثقافات الآخرين.

عندما مات انتوني كومستوك سنة 1915 انزاح كابوس الرعب عن الكتّاب وأصحاب المكتبات وعشاق الكتب في أميركا، فقد عرف كومستوك بكونه الرقيب المروع الذي أقام محارق لأطنان من الكتب على امتداد الولايات المتحدة حين حكم على الكتب والمطبوعات بالحرق من وجهة نظر محض أخلاقية دينية، وكان لتشدده وعدم اعترافه بأي فكر مختلف عما يؤمن به مسوغه الوحيد للتدمير، وكان يملك يقينا راسخا مفاده أن الشيطان يسيطر على عقول الأدباء والكتاب وأن رسالته الدينية في الأرض تنحصر في القضاء على هذا الرجس، ولم يثنه شيء عن شن حربه الصليبية الأخلاقية على الكتب والكتّاب حتى نهاية عمره.

لطالما احتقر كومستوك كتابات جورج برنارد شو الكاتب الاشتراكي البريطاني وكرهه أكثر عندما صاغ شو مفردة “الكومستوكية” وشاعت في العالم الغربي كتعبير عن فظاعة الرقابة المفرطة التي سعى كومستوك لفرضها على المطبوعات بعمله على استصدار قانون أقره الكونغرس سنة 1872 يفرض إرسال نسخة إلى البريد من كل كتاب يصدر لمراقبته من وجهة نظر أخلاقية وتقرر إدارة البريد حسب تعليمات كومستوك حظر الكتاب أو السماح بتداوله.

وكان معروفا عن كومستوك تفاخره بعدد الأدباء الذين دفعهم للانتحار حتى قيل إن عددهم تجاوز الاثني عشر كاتبا منتحرا، وظل قانون كومستوك ساريا لعقود طويلة واستفادت منه الحملة المكارثية إلى أقصى الحدود وبموجبه تم منع كتاب “عناقيد الغضب” لجون شتاينبك وحظر كتاب “عشيق الليدي تشاترلي” في 1959 من قبل دائرة البريد!
نقلا عن العرب