في جلسة خاصة جمعتني باصدقاء، مؤخرا، كنا نتبادل خلالها المواقف الطريفة، ذكر احدهم، وهو عسكري سابق، حكاية جعلتنا نضحك كثيرا، اذ قال، ان دورية عسكرية كانت في مهمة روتينية باحدى الاماكن الصحراوية الحدودية، وهناك وجدوا رجلا بدويا او قرويا، ولما سألوه سؤالا عابرا عن سبب وجوده في هذا المكان، رد عليهم بعفوية (انا شغلي ياسوس) اي جاسوس، كونه يلفظ حرف الجيم ياء !
اضطربت آذان عناصر الدورية العسكرية وارتبك الضابط الذي لم يكن امامه الا ان يامر جنوده بالقاء القبض عليه ليسلمه للجهات المعنية .. لااطيل عليكم، والكلام للصديق الذي روى الحكاية، استغرقت اجراءات التحقيق وكتابنا وكتابكم بين الجهات الامنية، مدة ثلاثة اشهر فبل ان يخرج هذا (الياسوس) الذي لم يكن سوى رجل بسيط يرسله قومه او عشيرته البدوبة او الفلاحية ليستطلع الارض او (يجسها) في اماكن بعيدة عن عشيرته او منطقته من اجل العثور على بقعة فيها ماء وعشب للغنم والابل ليعود ويخبر الناس بذلك ليحصل على مكافاة من عمله هذا الذي تشابهت تسميته مع تسمية (الجاسوس) التي لايمكن فهمها الا باعتبارها عملا خطيرا يهدد امن البلاد والعباد!
هذه الحكاية، استحضرتها وانا استمع الى مايدور اليوم بشان (المخبر السري) الذي يطالب البعض بانهاء عمله او عدم اعتماده كمصدر موثوق للمعلومات الامنية، التي تسببت بالاذى للكثيرين من الناس.. في الحقيقة ، يمثل هذا الامر احد المعضلات التي تواجه العمل الامني في عراق مابعد الاحتلال، لان المنظومة الامنية لم تبن على اسس مهنية ، وانما بنيت على المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية وبذلك تعددت ولاءات الكثيرين منها ، الامر الذي جعلها في مهب الاهواء المتناشزة، وخلق فيها ثغرات كبيرة سهّلت على الارهاب اختراقها المستمر، وهنا تكمن المشكلة التي كان من نتائجها مطالبة الناس بالغاء عمل المخبر السري، مع انه بالنسبة للجهاز الامني ضرورة لايمكن تعويضها، وعلى الرغم من حساسية الامر، لكن القول ان عمل المخبرين السريين، لم يكن كله مهنيا، له مايبرره في الواقع، اذ ان استعداد البعض للتعاون مع اجهزة الامن من خلال العمل كمخبر سري، لايعني بالضرورة، ان هذا البعض جاء بقصد التعاون، وانما قد تكون له مآرب اخرى، تتعارض مع فلسفة الامن، اي انه قد يكون معبأ باجندة معينة، او يقصد ايقاع الاذى باشخاص له خلافات معهم او قد يكون عمله لاثارة البلبلة وخلق المشاكل للاجهزة الامنية والدولة مع المواطنين، لتهيئة الارضية للتذمر والانفجار، وكذلك لاننسى ان يكون يعمل لحساب جهات سياسية معينة ويدخل لعبة صراعاتها مع الاخرين، والسبب في كل ذلك، هو ان الامن بشكل عام وفي اي بلد، يعد جزءا من ثقافة الدولة وفلسفة النظام فيها، اي ان الاتحاد السوفيتي السابق له اجهزته الامنية في اطار دولة اشتراكية شمولية، واميركا فيها اجهزة امن في اطار دولة علمانية ليبرالية، وكلا الجهازين يتمتعان بمهنية عالية، لان منتسبيهما جاءوا وفق سياقات واضحة، وان اختلفت على مستوى فلسفة الدولة والنظام السياسي، الا ان المهمة الاساسية تبقى هي المحور، وهي خلق اجواء امن وطمانينة في المجتمع وهذا هو الهدف، اما في عراق اليوم، فالامر مختلف كثيرا، فالدولة لم يتفق الفرقاء على توصيفها ان كانت ديمقراطية ليبرالية، ام اسلامية ولو بشكل مخفف نسبيا! ام دولة مركزية ام فيدرالية واقاليم الخ من الاسئلة التي مازالت تدور بين اصحاب القرار السياسي، ومن هذا الواقع يصعب ايجاد منظومة امنية منسجمة، وهذا ليس اتهاما بل توصيفا لواقع ندفع ثمنه باستمرار بما يحصل لنا كمواطنين بتنا نحن الضحية لهذا الصراع للاسف.
نعود الى حكاية (الياسوس) التي لاشك ان لها علاقة بما يحصل مع المخبرالسري، اذ ان هناك اختلافا واضحا على توصيف الارهاب لاسيما عندنا في العراق، وان الذي يراه البعض ارهابا قد يراه البعض الاخر غيرذلك، وان بعض الناس اخذوا بالشبهات بسبب عدم فهم المخبرالسري لمهمته بشكل دقيق، اي عدم قدرته على التفريق بين( الياسوس) و(الجاسوس) ووظيفة كل عبارة في سياقها الاجتماعي والثقافي، او اختلاط الاوراق عليه بفعل غياب الفلسفة الامنية التي يجب ان تكون بعيدة عن المحاصصات الطائفية والحزبية، وبعيدة عن صراع القوى السياسية، وهو ما يجب ان تكون عليه المنظومة الامنية في الدول الديمقراطية، لتحمي الناس ، مثلما ان انسجامها العقائدي في الدول الشمولية كالشيوعية وغيرها، يحمي الناس ايضا، بغض النظر عن الموقف من النظامين السياسيين … اين نحن من هذا، لاادري !!! .