المحكمة الاتحادية في العراق – العدل فوق الملك

المحكمة الاتحادية في العراق – العدل فوق الملك

أكد مصدر في المحكمة الاتحادية العليا في العراق، الاثنين 30 حزيران ، أن المحكمة عادت لاستئناف عملها برئاستها الجديدة، وأن القضاة التسعة الذين قدموا استقالاتهم خلال الأسابيع الماضية قرروا العدول عنها، والعودة إلى مزاولة مهامهم القضائية ضمن هيئة المحكمة، وذلك بعد إحالة رئيس المحكمة، القاضي جاسم محمد العميري، إلى التقاعد لأسباب صحية.
وأوضح المصدر أن قرار العدول عن الاستقالة جاء بعد “زوال السبب الرئيس الذي دفع القضاة إلى الاستقالة، والمتمثل بتدخلات أضعفت استقلال المحكمة وحرّفت مسارها القضائي,, كما بيّن أن القضاة المستقيلين كانوا قد اشترطوا صراحة خروج العميري من المحكمة كي يعودوا لمزاولة مهامهم، مبررين موقفهم باعتراضهم على ما وصفوها بـ”الاجتهادات الفردية” من قبله في إصدار القرارات القضائية، والتي كانت قرارات مخالفة للدستور، ولأحكام القانون، ومواد قانون أصول المرافعات المدنية، التي جعلت القرارات تفقد قيمتها القضائية وتأثيرها القانوني ,, ويذكران رئاسة الجمهورية أصدرت مرسوماً جمهورياً بتعيين القاضي منذر إبراهيم حسين رئيساً للمحكمة الاتحادية العليا
وتتلخص مهام المحكمة الاتحادية بـ”الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة، وتفسير نصوص الدستور، والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية، والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، والفصل في المنازعات القضائية والإدارية التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية، والفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، والتصديق على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب
وخلال فترة تولي العميري رئاسة المحكمة الاتحادية، وُجهت إلى المحكمة اتهامات كثيرة بشأن التعامل “غير المهني” مع عدد من القضايا الحساسة، وأنها محسوبة على “الإطار التنسيقي”، ومن بين قراراتها المثيرة للجدل، سحب السلطة المالية من كردستان، وإقالة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، وإيقاف العمل بقانون العفو العام بطريقة غير قانونية، وانتزاع حق تشكيل الحكومة من الكتلة الفائزة في انتخابات البرلمان عام 2010، كانت آنذاك “ائتلاف العراقية” بزعامة إياد علاوي، ومنِح المالكي فرصة للبقاء لولاية ثانية. كذلك حكمت بإعادة فرز الأصوات يدوياً في انتخابات 2018، بناءً على طلب زعماء أحزاب، وأبرزهم المالكي، وقضت أيضاً بعدم دستورية قانون النفط والغاز لحكومة إقليم كردستان العراق وإلغائه، ثم الحكم بمنع تمويل رواتب موظفي الإقليم، وأخيراً الطعن باتفاقية خور عبد الله مع الكويت، التي تنص على ترسيم الحدود المائية بين العراق والكويت.
وكانت المحكمة الاتحادية العليا قد شهدت خلال الفترة الماضية، أزمة داخلية إثر استقالة 9 من أعضائها، بينهم 6 قضاة و3 احتياط، ما أثار مخاوف من تعطيل قرارات المحكمة,, استقالة قضاة المحكمة الاتحادية يعكس هشاشة الخط الفاصل بين القانون والسياسة،محمّلاً برسالة واضحة: لا مكان في قاعات المحاكم للضغوط، ولا مجال للتلاعب في قضايا تمس السيادة الوطنية، فخور عبد الله، بأهميته الجغرافية والسياسية، تجاوز كونه مجرد ملف حدودي، وأصبح رمزًا لصراع الإرادات بين من يطالب بالحقيقة، ومن يسعى لتكييفها حسب المصالح. الذين غادروا مواقعهم لم يغادروها هربًا، بل احتجاجًا، أرادوا أن يُسمع صوتهم خارج جدران المحكمة، بعد أن ضاق بهم المقام داخلها، لم تكن الاستقالة هروبًا من المسؤولية، بل صرخة في وجه واقع يتراجع فيه القانون
وجاءت الاستقالات مع موعد مفترض لعقد المحكمة الاتحادية جلسة قضائية للنظر في دعوتين مقدّمتين من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، بشأن ملف خور عبد الله المتنازع عليه مع الكويت, واشار مصدرالسبب إلى “الضغوطات الحكومية” التي تُمارس على المحكمة بشأن قضية خور عبد الله من قبل رئسا الجمهورية والحكومة واتهم رائد المالكي، عضو اللجنة القانونية في البرلمان، الحكومة وجهات أخرى لم يحددها بالوقوف خلف الأزمة الحالية داخل المؤسسة القضائية, ،وقال إن الحكومة وجهات أخرى تريد للمحكمة الاتحادية أن تكون أداة طيعة بيدها لتنفيذ ما تراه بحجة حماية المصالح العليا”، مؤكداً أن “هذا الوضع لا يمكن السكوت وأضاف المالكي أن “القيادات الشيعية المتصدية أثبتت فشلها في بناء دولة مؤسسات تحترم سيادة الدستور والقانون”، مشيراً إلى أنه “سيتم التشاور مع بقية النواب لاتخاذ موقف موحد من هذه القضية، التي تمثل سابقة خطيرة,, وكشفت وثائق عن تقديم رئيس المحكمة الاتحادية جاسم محمد محمود، طلباً إلى رئيس مجلس النواب، دعا فيه السلطات لعقد اجتماع للفصل في الأزمة بين محكمة التمييز والمحكمة الاتحادية. وجاء في طلب رئيس المحكمة الاتحادية: “ندعو جميع السلطات إلى عقد اجتماع، وبحضور جميع أعضاء إدارة الدولة وخبراء في الدستور والقانون لمناقشة ذلك،ألا ان رئيس البرلمان محمود المشهداني رفض ذلك, عاداً إياه “تدخلاً في عمل السلطة القضائية
المسار الذي اتخذته المحكمة خلال السنوات الماضية، خصوصاً بعد 2010، ثم بشكل أكثر وضوحاً بعد احتجاجات تشرين 2019، يشير إلى تحوّل خطير من كونها سلطة دستورية عليا إلى أداة سياسية في يد قوى النظام، تُستخدم لإضفاء الشرعية على الانحرافات، والتضييق على الحريات، بل وعرقلة التحوّل الديمقراطي نفسه
في مراجعة سريعة لبعض أبرز قرارات المحكمة الاتحادية، نجد أنها كثيراً ما لعبت دوراً سياسياً صريحاً يتجاوز وظيفتها القضائية. قرارها الشهير في 2022 بشأن إلغاء قانون النفط والغاز في إقليم كردستان، على سبيل المثال، جاء في سياق صراع مركزي سياسي، وليس قانونياً، ليمنح بغداد غطاءً قضائياً لإعادة الهيمنة على موارد الإقليم. ثم جاء قرارها في الطعن بقانون تجميد عمل هيئة رئاسة البرلمان (2023) ليتحوّل من مسألة دستورية إلى تدخل مباشر في صراع المحاور السنية الشيعية حول رئاسة البرلمان وختمها رئيس المحكمة جاسم العميري بنهاية مأساوية لهذه المحكمة باستدعائه الأحزاب السياسية للتدخّل المُباشر في القضاء الدستوري ,, رفضت المحكمة طعنًا تقدّم به ناشطون مدنيون ضدّ قوانين تغلّف الرقابة المجتمعية باسم “الآداب العامة” في مرّات عديدة، بدت المحكمة وكأنها تُفسّر الدستور لا وفق مبدأ “نص وروح”، بل وفق مبدأ “ما يطلبه النظام”. قراراتها المُتعلّقة بتفسير الكتلة الأكبر، والثلث المعطّل، جاءت في سياقات سياسية ضاغطة، وكانت نتائجها محسومة قبل صدورها.
لم تكتفِ المحكمة بقيادة العميري بإسكات الخصوم السياسيين، بل راحت تمسّ جوهر الحريات المدنية, وفي مارس/ آذار 2023، رفضت المحكمة الاتحادية الطعن المُقدّم لإلغاء قانون حظر استيراد المشروبات الكحولية وبيعها، رغم مخالفته الصريحة للدستور العراقي الذي يضمن احترام التعددية الدينية والثقافية. هذا الرفض مثّل انتكاسة واضحة لحرية المُعتقد ونمط الحياة في بلد متنوّع الأديان والطوائف، وضرباً صريحاً لمبدأ حيادية الدولة تجاه الأديان، وتحوّلاً إضافياً نحو فرض إرادة أيديولوجية تحت غطاء القضاء. ووقفت خصما للحريات , واصبحت بل جزءاً من منظومة “تقييد التحوّل الديمقراطي”. ومع غياب التوازن بين السلطات، وتغوّل السلطة التنفيذية
الحديث عن “إصلاح” المحكمة الاتحادية بات متأخّراً , وربما بدأ الان باستقالة العميري , وانها فرصة جديدة للابتعاد عن النفوذ السياسي وان تصبح أهم ضمانات الاستقرار والتداول السلمي ووقف الانتهاكات الدستورية , والبرلمان مطالب الان بأصدار قانون جديد للمحكمة الاتحادية — لا ديمقراطية دون قضاء مستقل، ولا حرية من دون محكمة عادلة. وما لم تُسترد المحكمة الاتحادية إلى موقعها حارسةً للدستور وحقوق الناس، فإنّ الحديث عن “تحول ديمقراطي” سيظلّ مجرّد وهم، أو بالأحرى غطاءً لمزيد من السيطرة والاستبداد المقنّن.