نشرت باسمي المستعار (تنزيه العقيلي).
لنأخذ هذا النص القرآني بالتحليل بشكل سريع ومختصر. يقول النص: «هُوَ الَّذي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ»، أو «لاكِنِ اللهُ يَشهَدُ بِما أَنزَلَ إِلَيكَ أَنزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشهَدونَ، وَكَفى بِالله شَهيدًا»، فيفترض المؤلف أن المتحدث هو الله، فيتكلم عن لسانه، بقولٍ يزعم [أو يعتقد] أنه صادر منه تعالى، ومُنزَل منه إليه، أي إلى المؤلِّف، أو الناقِل، أو المبلِّغ، وكأنه أي المصدر المدَّعى، الذي يُفترَض أن يكون الله سبحانه، يخاطب المؤلف عبر مَلَك أرسله إليه أسماه (جبريل)، فيقول له مؤيدا صدق المؤلف أو الناقل أو المبلِّغ، نعم إن الله يشهد لك بأنه هو الذي أنزله إليك، وليس هو من تأليفك، أو من تلقين أو تعليم شخص آخر أو عدة أشخاص لك به، ويضيف إلى شهادة الله شهادة الملائكة، الذين بكل تأكيد لن نراهم أو نسمعهم في هذه الحياة كي يدلوا بشهادتهم، كما أننا لن نستطيع سماع شهادة الله هذه. وهذه الشهادة تسمى عند المناطقة بالدور، أي إن الدليل على صدق المدَّعي شهادته هو على صدقه، ومثل هذه الشهادة لا يأخذ بها القضاء العادل عادة. فهو إذا ما سُئِل من أين لنا أن نتيقن إن هذا الذي تتلوه علينا هو من الله، فكأننا به يقول اسألوا القرآن الذي هو كتاب الله، فيما إذا كان حقا هو كتاب الله، فسينبئكم بصدقه، وبصدقي. بينما المتسائلون لم يصلوا بعد إلى التسليم بمُدَّعى أنه كتاب الله، بل ما زالوا يشكّون أو يحتملون أو يعتقدون أنه من تأليفه هو، أو من تعليم معلم له، ولو كانوا قد اقتنعوا بأنه كتاب الله لما طرحوا هذا التساؤل.
ثم لنأت إلى ذكر المحكمات والمتشابهات، فيقول النص: «مِنهُ آياتٌ مُّحكَماتٌ … وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ»، أي نصوص لا تحتمل إلا معنى واحدا، وأخرى تحتمل أكثر من معنى، وتحتاج بالنتيجة، وبالضرورة، إلى تأويل. ثم يصف من يحاول تأويله على غير ما يريده المؤلف أو الناقل بأن «في قُلوبِهِم زَيغٌ»، وأنهم «يَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابتِغاءَ الفِتنَةِ وابتِغاءَ تَأويلِهِ». شخصيا كنت ممن مارس التأويل في الدروس القرآنية التي ألقيتها، وفي المحاضرات التي قدمتها كداعية للإسلام أو محاضر إسلامي، من أجل جعل النصوص منسجمة مع ضرورات العقل، ووجدت في أكثر الأحيان ما أستطيع به الدفاع عن القرآن، بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات، وإلى العقل وضروراته، وقسّمت نصوص القرآن إلى ما يمثل الجوهر الثابت، وما يمثل الشكل المتغير. ولكني مع الوقت، وجدت أنه لمن خلاف الحكمة الإلهية، وخلاف اللطف الإلهي بعباده، أن يكلفهم فوق طاقتهم، والقرآن نفسه الذي يفترض أنه كلام الله يقرر «إِنَّ اللهَ لا يُكَلِّفُ نَفساً إِلاّ وُسعَها»، وهذا ما يقره العقل، فمن غير المعقول أن يبعث الله للناس كتابا يحتاج إلى جهد استثنائي، لا يقدر عليه إلا نخبة محدودة، تصل إلى المعاني المنسجمة مع ضرورات العقل ومُثُل الإنسانية، ثم لا يتفق معهم معظم المسلمين، بل معظم العلماء والمفسرين والكلاميين والفقهاء والأصوليين. إضافة إلى الكثير الكثير الذي وجدته مما يتنزه الله بلطفه وحكمته وعدله ورحمته عنه تنزُّها كبيرا، ويتعالى عنه تعاليا عظيما.