23 ديسمبر، 2024 11:16 ص

قصة قصيرة
مهداة الى زميلي د ماجد
اتخذ له مكانا في الصف الخلفي من الحافلة ( دك النجف) .. استل علبة سجائر الجمهوري من جيبه  وما ان فتحها حتى تطلع الرجل الذي يجلس بجانبه اليه ونظراته تتنقل بين عينيه وبين العلبة! ناوله سيجارة فتلقفها بسرعة وراح يبحث في جيوب سترته عن قداحته ..اشعل سيجارته واشاح بوجهه الى النافذة بامتعاض.. أخذ يدخن بهدوء وينفث الدخان نحو السقف.. لماذا طب الموصل؟! كم مرة يسأل نفسه هذا السؤال؟! ..ألم تقبل معدلات اقل مما نلته ؟! فلماذا ابعدت الى الموصل .. حاول ان يعترض .. طرق عدة ابواب لكن الجميع نصحوه بعدم الاعتراض .. قالوا له : لا فائده.. مديرة التسجيل قالت له : داوم في الموصل وسوف تنقل الى بغداد في المرحلة الثانية .. هاهو في  الصف الثاني ولم يجاب طلبه .. من قرية ( ام عين )الى الموصل !! .. مسافات طويلة قدر له ان يطويها معذبا ومنذ الصغر!! كان يقطع  في اليوم عشرة كيلومترات او اكثر من ام عين الى الميمونة  حيث مدرسته ، مشيا على الأقدام .. تحت زخات المطر وفي الصيف ورباحه التي تشبه الجحيم الذي ينفثه التنور …مد يده الى جيب سترته الداخلي .. نقل مصرفه الى الجانب المحاذي للشباك .. خمسة دنانير!! ترى هل تكفيه مع الملحقات لمدة شهر كامل؟! تسائل بصمت .. قال سأتناول غداء دسما في اليوم الاول ثم أعود الى الخبز والحلاوة او المرقة البدون !! في احسن الأحوال..
قال ابوه : ها انت ترى …انا ومسحاتي والسماء!!! اذهب الى  معهد المعلمين او الكلية العسكرية ! اما كلية الطب وسنواتها الست .. لا استطيع .. أردف بحسرة: يبطي على الجوعان ناعم الثريد… يا ابني ..!! لكنه أصر على ان يدخل كلية الطب .. قال لابيه : سوف اشتغل حمالا في العطلة وأوفر مصرفي .. في السنة الاولى باعت امه بقرتها واعطته ثمنها وهي تحلم بان ترى ابنها وقد صار طبيبا..بعد ان اجتازت النيرن علي الغربي راح في نوم عميق ..
ترجل من الحافلة في ساحة الطيران ..تزاحم الركاب على الصندوق الجانبي وهم يستلون اغراضهم .. قامت امه بلف خرقة خضراء حول فم الكيس كعلامة مميزة وتعويذة من السراق!!  نبهه ابوه على تلك الخرقة المميزة وحذره من اختلاط الكيس مع اغراض المسافرين ..والحقيقة كان يقصد ان لا يغفل ابنه ويضيع الكيس..كانت (صوغة) كلف ابنه ان يوصلهاالى اخته التي تسكن في حي الثورة في بغداد ! تناول حقييبته ، لاح له الكبس في عمق الصندوق .. تأكد من وجود الخرقة الخضراء.. بدى له الكيس رطبا! لم يشأ ان يرمي سيجارته مسكها بشفتيه واسنانه وراحت عيناه تصارع الدخان المتصاعد منها..حمل حقيبته بيد وأخذ يسحب الكيس بالاخرى على الرصيف ثم وقف جانبا واتكأ على حائط مجاور.. راح يكمل سيجارته بنهم وعصبية .. كان يراقب سائقي  سيارات الفورد  وهم ينادون : ثوره جوادر .. ثوره داخل ..القى نظرة على ساعته بملل ، كانت تشير الى الرابعة بعد الظهر.. يتحرك قطار الموصل في السابعة .. مر أمامه رجل طويل القامة وقد لف جسمه بعبائة صوفية وغطى نصف وجهه بكوفيته .. اجتازه ببضع خطوات ثم توقف هنيهة واستدار نحوه وهو يردد وكأنه يكلم نفسه.. ؛ رائحة اخضيره !!
اشاح بوجهه نحو الجهة الاخرى .. سحب نفسا عميقا من سيجارته .. شعر ان انفه يكاد ان يتجمد .. هبت ريح باردة كانها الصقيع ..تلوت معدته الخاوية.. لسعها ريقه الملوث بمرارة التبغ..تذكر اليوم الاول له في الموصل..دخل الى غرفته التي سبقه  اليها زميل له من مدينة العماره.. كان متعبا وهو يحمل حقيبة كبيرة وبطانية وكيسين .. كان زميله يجلس على حافة سرير حديدي.وأمامه طبلة وقد وضع غدائه عليها .. حلاوة شعرية وخبز.. اعتذر عن إجابة دعوته له ثم دفعه الجوع الى مشاركته في تلك العزيمة!! خبز وحلاوة شعرية!! تذكر طعام امه اللذيذ .. كانت تخلط العجين بصغار السمك المتبل ثم تخبزه .. كان يقف بمحاذاتها وما ان تخرج الخبزة  من التنور حتى يتناولها .. تكوي راحته فيقوم بنقلها من كف الى أخرى وهو ينفخ عليها .. يتنحى جانبا ويجلس القرفصاء وهو يقضم بلذة وعينه تراقب امه وهي تقتلع الخبز وتلقيه في طبق الخوص المزخرف بألوانه الزاهية..سحب نفسا آخراً من سيجارته تذكر إلحاح ابيه وهو يوصيه ؛ المسكينة عمتك لم تذق الطيور الحرة منذ وفاة جدتك قبل ثلاثة اعوام!! .. لفحت وجهه الريح الباردة .. رسم خارطة لرحلته المكوكية..سأذهب بالفوردات الى الثورة ، أعود الى العلاوي استقل سيارات البياع ثم انزل في المحطة العالمية!… قال منزعجا..عاد الملثم توقف امام الكيس الرطب .. تعمد ان يشم بعمق وهو يتصنع الشعور باللذة …أف أف .. افييه ، اخضيره!! هؤلاء المتحدرون من العماره ؛ لا يغريهم شيء كرائحة السمك والطيور الحرة !! انهم كالقطط يشمونها على بعد اميال..تسحبهم من خياشيمهم ويتبعونها وهم فاقدي الوعي !!
القى عليه نظرة طويلة ثم قال بتعال: تشتري؟!
مد الرجل يده الى كوفيته وأزاحها عن وجه طغت على ملامحه فرحة النصر.. أجاب بسرعة : نعم اشتريت !! قال بنبرة خشنة بدا عليها تصنع لم يعبر على الرجل: الزوج بدينارين ونصف !! أضاف : عبر اثني عشر دينارا ونصف وخذهم مع الكيس … قال الرجل وهو يفتح الكيس ويسكب ما فيه على الارض : ارحم بنا يا خالي .. لن اتهنأ بهن … تناول زوجا منها.. كانتا ذكر وانثى مذبوحتين وقد ازيل الريش من البطن والظهر فبدا الجلد اصفر ذو حمرة خفيفة ،، اما الأجنحة فكانت ذات لون اسود براق وخطوط خضراء .. والأرجل كانت حمراء اللون .. خضيري حر ..قال له مؤكدا قربهم الى انفه وعب نفسا عميقا .. مد يده الى جيبه واخرج ورقة بنفسجية .. عشرة دنانير.. امسك يده بقوة ووضع الورقة فيها وأغلق اصابعه عليها وهو يقول: قل شايف خير بعد عمك!!! أردف متوسلا: عمي والله لن أربح منهن غير زوج واحد فقط سوف يهنأ به الجهال هذه الليلة المباركة!!! وسوف تدعوا لك أمهم بالرزق والعافية… قال بعد ان فكر قليلا …غلبتني بالجهال والله يا عم ..شايف خير ..سارع الرجل باعادتهم الى الكيس وحمله وهو يركض نحو سيارة الفورد….
حمل حقيبته وركض يبحث عن اقرب محل لبيع السكائر ..!!! اشترى علبة سكائر روثمان !!لا زالت الورقة البنفسجية في كفه واصابعه تمسك بها بعنف.. فتح يده تطلع اليها بفرح ولهفة .. طواها برقة ودسها في جيب سترته الأيسر .. استأجر سيارة تاكسي وجلس متباهيا في المقعد الخلفي .. قال للسائق بدون ان يعامله : الى محطة القطار!!
اتجه مباشرة الى مطعم المحطة الفاخر.. وضع حقيبته على الارض وجلس على كرسي وثير ..امرالنادل:  ربع ويسكي واحجز لي على قوزي وتمن !!!