العراق بلد النخيل ، هذا ما تعلمناه منذ الصغر والسبب في انتشار هذه التسمية إن عدد أشجار النخيل في منتصف القرن الماضي كان يزيد عن عدد السكان ، وفي هذه الأيام يتناقص عدد أشجار النخيل في العراق ليصل إلى اقل من نصف عدد السكان لا بسبب الزيادة السكانية وإنما نتيجة قلة الاهتمام بالنخيل وتجريف بعض البساتين لتحويلها إلى أراضي سكنية أو زرعتها بمحاصيل تدر مردودات اقتصادية أكثر مما تنتجه النخيل ، ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة بخصوص أعداد النخيل في العراق حاليا ، فان الأرقام المتفائلة تتحدث عن وجود 11 مليون نخلة أكثر من 70% منها تنتج التمور منخفضة الجودة ( ألزهدي ، الساير ) ، أما الأرقام المتشائمة فإنها تتحدث عن وجود 6 ملايين نخلة وربما انخفض هذا العدد بعد العمليات العسكرية التي استهدفت داعش في بعض المناطق والمحافظات التي تتواجد فيها بساتين النخيل بكثافة ، وانخفاض عدد النخيل في بلدنا يفقدنا العديد من مزايا هذه الشجرة التي باركها الله ورسوله الأعظم ( ص ) فهي مصدرا للغذاء ووسيلة مهمة لحماية البيئة والإصحاح البيئي وتوفر فرص العمل للسكان ويمكن استخدامها للأغراض الغذائية والدوائية وللصناعة وفي زيادة الإنتاج النباتي من خلال استخدام ظلالها في الزراعة المنتجة .
ولهذه الأسباب وأسباب نبيلة أخرى أطلقت الدعوات لحماية النخيل وإنشاء مزارع نموذجية للتكثير والحماية من الآفات الزراعية وتجويد الأصناف والمحافظة على الأصناف الكثيرة بعد أن اخذ بعضها بالانقراض ، وتبنت هذا الموضوع الأجهزة المعنية في وزارة الزراعة وبإسناد وتشجيع من وزارة البيئة وغيرها من الوزارات والدوائر ذات الصلة بالموضوع ، فضلا عن المنظمات والمؤسسات الجامعية والعلمية والمجتمع المدني ، وتطلب ذلك تخصيص الأراضي اللازمة لذلك والاستعانة بالخبرات المحلية وتوظيف أعداد كبيرة من العاملين ، وكان المعنيون والمتابعون يتوقعون ظهور نتائج ايجابية تتناسب مع حجم المشكلة بما في ذلك الزيادة المضطردة في عدد النخيل وإعادة الأصناف التي اختفت من المزارع المحلية من خلال الحصول على الفسائل من الدول التي انتقلت إليها ، كما كانت من الطموحات بان يتم ولوج التقانات الحديثة في مجال الزراعة النسيجية والمكافحة الإحيائية وإدخال المكننة ي جميع مراحل الزراعة والتلقيح والمعالجة والجني لتقليل الاعتماد على المجهودات البشرية أو تبسيطها للحدود الممكنة بشكل يقلل من التكاليف ، باعتبار إن المردودات الحالية من زراعة وبيع التمور لا يوازي التكاليف التي يتكبدها الفلاح ، آخذين بنظر الاعتبار تخلف الوسائل المستخدمة في التسويق وعدم إشغال تسويق التمور العراقية لمساحات مهمة في الأسواق العالمية .
ولو أجريت دراسات معنية وموضوعية للوقت الذي مر به إنشاء هذه المحطات والمردود والتزايد الحاصل بعدد النخيل استنادا إلى المؤشرات المتحققة في بعض البلدان مثل الإمارات والسعودية وعمان ، التي دخلت منافسا قويا للعراق في مجال زراعة وتكثير النخيل و تصنيع وتسويق التمور ، لو جدنا نتائجنا متواضعة لا ترقى إلى مستويات الطموح ، كما إن الجهد في مجمعاتنا المحمية يركز على الموضوع الزراعي أكثر من الأولويات الأخرى المتعلقة بإنتاجية النخلة وكيفية تحويل التمور من منتج موسمي إلى سلعة سنوي عن طريق إنشاء المخازن المبردة وتصنيع التمور من خلال التعامل معها ليس كمنتج نباتي وإنما إلى مادة قابل للتحويل من خلال الصناعة والإضافات لكي ترضي مختلف الأذواق والاستخدامات ، بما يجعلها قابلة للتسويق في الأسواق المحلية والعالمية لتكون المبيعات جزءا من الناتج المحلي الإجمالي وبما يعزز الدخل القومي وميزان المدفوعات ، وحين نذكر هذه الملاحظات البسيطة التي يمكن أن نضيف لها مواضيع معمقة ، فان الغرض ليس المساس بكفاءة ملاكاتنا المحلية في مجال النخيل وصناعة التمور فقد تكون لديهم العديد من الأفكار والأحلام ولكنها مؤجلة حتما بحكم الإمكانيات المتاحة لهم ، كما إن الموضوع يتعلق بالدافعية والإحباط وما يمكن أن تصطدم به الأفكار والطموحات من بيروقراطية وشحة الإمكانيات ، فهذه المحطات هي عبارة عن دوائر حكومية تطبق فيها التعليمات الإدارية والمالية على غرار ما يطبق في كل قطاع ضمن الجهاز الإداري الحكومي .
وما نود الوصول إليه ، إن مهمات من هذا النوع تمتزج فيها الأهداف المهنية بالوطنية وتحتاج إلى قدر واسع من المبادرات و الصلاحيات وهامش في المرونة ، فمن الخطأ إخضاعها إلى البيروقراطية الإدارية الحكومية في ظل ظروف انتشار الفساد الإداري والمالي وإمكانية التشكيك بالانجازات الإبداعية وتناقص إمكانيات الدولة ولجوئها إلى التقشف الذي أدى إلى تخفيض كبير في الموازنة التشغيلية وشبه توقف في النفقات الاستثمارية ، وفي مجالات الزراعة التي بأمس الحاجة لأعمال التجريب والمختبرات وانتظار نتائج الأعمال بعد أشهر وربما سنوات ، ربما تؤدي هكذا ظروف إلى وأد المبادرات والإبداعات واحتضار مزارع النخيل وتحولها إلى مقابر جماعية في مراحل التكثير أو التحسين بدلا من نموها وازدهارها وعودة أنواعها المنقرضة أو المهاجرة إلى خارج العراق ، وكمعالجة لهذه الحالات ولكي لا تكون الجهود بهذا الخصوص متقطعة أو مبتورة ومرهونة بظروف الدولة من حيث توفر التخصيصات المالية واللجوء إلى الاختصار أو التأجيل ، فانه من المناسب أن يتم إسناد هذه الأعمال إلى القطاع الخاص الحقيقي والاستثمارات ، بشرط أن يكون من يدخل هذا القطاع من ذوي الخبرات ولهم انجازات سابقة وملاءة مالية وقدرات علمية وعملية وعلاقات إقليمية ودولية بهذا الخصوص ، بشكل يجعل الجميع مطمئنا لتحويل ملكية وإدارة تلك المجمعات بأراضيها وموجوداتها ، على أن يتم تقديم تعهدات بالمحافظة على الهدف الأساسي وعدم التلاعب في الاستخدامات من خلال تقديم ما يلزم من ضمانات ، وفي مقابل ذلك تطلق لهم التسهيلات اللازمة كتوفير المياه والحماية والتسهيلات المصرفية وغيرها من عوامل النجاح التي قدمت منها كميات ونوعيات عديدة ولم يتحقق ما هو مطلوب عندما كانت ترتبط بالزراعة أو غيرها من الجهات ، وسيكون من المناسب أن تبقى العلاقة التعاونية مع الزراعة والبيئة والموارد المائية وغيرها من الجهات الحكومية وغير الحكومية ، فالقطاع الخاص ليس عدوا للأجهزة الحكومية إذ يفترض أن يكون احد الروافد المهمة لبناء وتطوير الاقتصاد ، فبهذه الأفكار وغيرها تطورت الدول وبنت اقتصادياتها لأنها اعتمدت الطرق الصحيحة من خلال التكامل والترابط بين القطاعات المختلفة في البلاد .