تشكل العقيدة القتالية رأس حربة في مجموعة القيم والمعارف الميدانية التي تتحشد داخل ارض المعركة وفي مواجهة الطرف المعادي. ويزداد دورها اهمية في حالات القتال الصعبة التي تتطلب بذل اقصى جهد بدني ونفسي وعقلي، الى حد ان ارجع بعض المحللين العسكريين ترجيح كفة مقاتل على مقاتل آخر الى قوة العقيدة القتالية وعمق رسوخها، لانها ترتبط- إضافة الى محتواها الفني المتمثل في الطريقة التي تدار بها الحرب – بمضمون اخلاقي وهو عدالة القضية التي قامت من اجلها الحرب.
ولكل امة او شعب او حتى قبيلة عقيدة قتالية خاصة بها، يتم غرسها في نفوس ابنائها قبل واثناء تدريبهم على فنون القتال. وقد تدخل ضمن العملية التربوية منذ الصغر. فهي اذن صيغة من صيغ توحد المجتمع داخل اطار ثقافة سيكولوجية تستمد مقوماتها الاساسية من رغبة هذا المجتمع في الحفاظ على استقلاليته وروحه التراثية ونظرته الى المستقبل بعيداً عن تهديدات الغير.
وفي ضوء هذا المعنى، يكون لكل طرف من طرفي الحرب عقيدة قتال خاصة به.. لكن تبقى عدالة القضية هي المقياس في تغليب طرف على الطرف الآخر مهما امتد زمن الصراع واشتدت ضراوته. وكل الحروب التي افتقدت هذا العنصر الجوهري، افتقدت اخلاقيتها ومن ثم شرعيتها، وحكم عليها بالفشل في تحقيق اهدافها المركزية حتى لو انتصرت في بعض مراحلها او في اجزاء كثيرة منها. والامثلة على ذلك كثيرة، منها الحرب الطويلة بين العرب والغرب الاوروبي في القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين، والتي سميت بالحروب الصليبية. فبرغم الكفاءة القتالية للمقاتل الاوروبي الصليبي وكفاءة معداته وخططه الحربية، الا ان القضية التي دفع من اجلها الى الارض العربية لم تكن مقنعة بالدرجة التي تكفي لثباته، وهو الغريب عن الارض، امداً طويلاً في ميدان المنازلة.
ان عقيدة اي قتال تقوم على مشاعر غامضة- كحماية الاماكن المقدسة التي لم يرها المقاتل الاوروبي ولم يرتبط بها ارتباط مصير – كانت غير كافية لاطالة امد ثباته امام ابناء الارض المعتدى عليهم، والذين هرعوا للدفاع لا عن الاماكن المقدسة وحدها، بل عن ارضهم وثقافتهم ووجودهم العربي كله. ولم يكن غريباً ان يعين ذلك العدوان، بكل ما حمله من بطش وسفك دماء العرب على توحيد صفوفهم ونبذ حالات الضعف التي كانوا يعيشونها. واكثر من هذا، دفعهم لتفجير طاقاتهم المبدعة في ارض الحرب، فاكتشفوا اسلحة اكثر تطوراً واشد فتكاً من تلك التي كانت في ايدي الغزاة، وهي العراوات.. او البيض المتحرك الحارق، كما كانوا يطلقون عليها آنذاك.
وفي الحرب العالمية الثانية، كان طبيعياً ان يتحطم الزحف النازي في نهاية الامر. لا لأن الحلفاء كانوا قوة معادلة للقوة النازية المتفجرة، بل لانهم كانوا يدافعون عن الحضارة الانسانية وعن مصير العالم من فوضى الدمار.
وقياساً على ذلك، فإن الحروب التحريرية دائماً ما تأخذ بشعوبها الى حد الانتصار ودحر المعتدي، مهما استغرق ذلك من زمن ومهما كانت قوة العدوان، لأن ابناء الشعوب يستمدون مقاوماتهم العنيدة من تراثهم البطولي والثقافي والروحي، ومن ارتباطهم السيكولوجي والعقائدي بالارض التي يدافعون عنها.
وعقيدة القتال بهذا المعنى، تتجلى اكثر ما تتجلى في حالات القتال الصعبة وداخل رقعة محدودة من الارض، كحرب الشوارع والكمائن والاغارات وقتال الخنادق، حيث لا تتعدى المسافة بين المقاتل وخصمه سوى امتار قليلة. وابرز امثلتها العربية حديثا القتال حول وداخل حصون خط بارليف وفوق جبل الشيخ عام 1973، وقتال المحمرة وشرقي البصرة في الحرب العراقيةـــــ الايرانية والحرب العدوانية الامريكيةالاخيرة على العراق .
واذا كنا قد ركزنا في هذا التقديم على الجانب الاخلاقي في عقيدة القتال، فليس يعنى هذا التقليل من حجم الثقافات الميدانية الاخرى، كالروح المعنوية وروح الفريق والكفاءة القتالية وكفاءة المعدات. بل انها تمكن عقيدة القتال من اثبات دورها كعامل اساسي وحيوي في ترجيح كفة اصحاب القضية العادلة.
* عقيدة القتال (المحتوى التاريخي)
قبل معركة ذي قار عام 610 ميلادية بين العرب والفرس، كانت معارك العرب وحروبهم تتم في اطار المنازعات القبلية، فقد كانت كل قبيلة تشكل بمفردها مجتمعاً قائماً بذاته، يعتمد معيشياً وثقافياً وحربياً ودينياً –قبل الاسلام- على ما تمتلكه من ثروات، ومنها الثروة البشرية التي يشكل شبابها جهاز امنهاً الدفاعي والقوة التي تردع غوائل القبائل الاخرى.
ورغم تعدد الديانات والمنازعات داخل الجزيرة العربية الا ان العديد من السمات المشتركة كانت تجمع القبائل كلها في اطار الدولة التي يمكن ان تكون.
فقد كان هناك تشابه في العادات والتقاليد واللغة الواحدة التي حملت لنا آدابها طبائعهم واخلاقياتهم والمكان المقدس الواحد (الكعبة) التي كانوا يحجون اليها كل عام، وكذلك اخلاق فروسيتهم التي تمثلت في نصرة الضعيف والعفو عند المقدرة وصون حق الجار ونجدة المستجير الذي يطلب عوناً.
ولذا لم يجد هانئ بن مسعود صعوبة في جمع العديد من القبائل العربية على كلمة واحدة، وتوحيد صفوفها في مواجهة جيش الفرس القوي، اذ اشتبك معه في معركة ضارية في ذي قار تمكن فيها من تدميره وهو الذي يفوقه عدداً وعدة. وهي المعركة التي وصفها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) فيما بعد قوله “هذا يوم انتصف فيه العرب من العجم”.
وكما كانت معركة ذي قار نقلة مهمة في جهاد العرب الموحد ضد الاجنبي، فان الاسلام جاء ليدعم هذه الروح ويؤكدها كمعنى اخلاقي متكامل وموحد في ضمير المقاتلين العرب “كأنهم بنوا اب وام واحدة” كما وصفهم الخليفة الراشد ابو بكر، من اجل اقامة مجتمع عربي يسود فيه العدل وقوة الشكيمة.
وكل معارك العرب وفتوحاتهم التي تلت ذلك، كانت وسيلة لنشر العدل بين الشعوب ولم تكن هدفاً في حد ذاته، وبقيت غاية السلم هي المهيمنة على الاعمال القتالية، وكانت عدالة القضية في طليعة العوامل التي
ساعدت على انتشار الفكر الاسلامي التحرري قبل ان تصل قوات الفتح. فقد كان المقاتل العربي يرى نفسه جزءا من الرسالة العربية التي قواها الاسلام قبل ان يكون مقاتلا في جيش. فمضى يجتاز الاصعدة والامصار ويعبر الموانع الطبيعية الصعبة بعقيدة قتال سمحة صفاها الاسلام من كل نزعة عدوانية.
فعندما يوصي ابو بكر قائده يزيد بن ابي سفيان قائلاً: “لا تغلوا، ولا تعصوا، ولا تجنبوا، ولا تهدموا بيعة، ولا تغرقوا، نخلاً ولا تحرقوا زرعا ولا تشجروا بهيمة، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تقتلوا شيخا كبيرا ولا صبيا صغيرا. وستجدون اقواما حبسوا انفسهم للذي حبسوها فذروهم وما حبسوا انفسهم له. وستجدون اقواما قد اتخذت الشياطين اوساط رؤوسهم اصفاصا فاضربوا على اعناقهم”. فانما كان يؤكد الشق الاخلاقي لعقيدة القتال العربية السمحة، التي حولت سيوف العرب الى وسيلة لبعث الطمأنينة والامن وحفظ ماء الحياة رقراقاً في جدولها… الا ما هو معوج ويستحق التقويم.
وعندما يكتب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الى سعد بن ابي وقاص قائلا: “اذا وطئت ارض العدو فاذك العيون بينك وبينهم، ولا يخفى عليك امرهم، وليكن عندك من العرب من تظمئن الى نصحه وصدقه، فان الكذوب لا ينفعك خيره وان صدقك في بعضه، والغاش عين عليك وليس عينا لك، وليكن منك عند دنوك من ارض العدو ان تكثر الطلائع وتثبت السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا امدادهم ومرافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم، وانتق للطلائع اهل الرأي والبأس من اصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فان لقوا عدوهم كان ما تلقاهم القوة من رأيك، فاذا عاينت العدو فاضم اليك اقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع اليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الارض كلها كمعرفة اهلها بها فتصنع بعدوك كصنعه بك”.
فانما كان يؤكد شق العقيدة القتالية الذي يرتبط بطبيعة الحرب وتكتيكاتها داخل ارض العدو وفي مواجهته. ولا يخلو في الوقت نفسه من طابع الرحمة وخلو النزعة العدوانية المسبقة… حين يطالبه بألا يكون البادئ بالقتال ما لم يستنكره قتال.
بعد ذلك تواصل زحف عقيدة القتال العربية حتى وصل الى بلاد الاندلس، ينشر في جنباتها حضارة العرب وفكرهم الانساني المبدع، ويقدم الى شعوبها الشكل الحقيقي للأخلاقية العربية في توجهها الحضاري المستنير. على عكس ما ارتكبه الصليبيون بعد ذلك من وحشية وآثام، حين اقدموا على ذبح السكان في القدس وفي غيرها من المدن العربية التي طالتها ايديهم، دون تمييز بين مسلم او مسيحي.
وبعد انحسار الوجود العربي في الاندلس، تغير مسار عقيدة القتال العربية من الهجوم الحضاري الى الدفاع عن الحضارة العربية، بل عن الذات العربية نفسها التي تكالبت عليها قوى العدوان.
* عقيدة القتال العربية (المحتوى النضالي القومي)
وفي العصر الحديث، خاضت الامة العربية – وما زالت تخوض- مجموعة من الحروب القومية المتعاقبة في اعقاب عهود طويلة عاشها العرب معطلي الارادة والقوى. وكانت حرب عام 1948 اولى هذه
الحروب القومية في مواجهة الخطر الجديد الذي افرزته حركة الاستعمار العالمي، وهو الغزو الصهيوني الاستيطاني الذي استهدف منذ بدايته خلع شعب عربي من ارضه، كخطوة على طريق فرض الهيمنة الاجنبية الكاملة على الارض العربية كلها.
ومن المصادفات الغريبة، ان يحل هذا الخطر الجديد في الوقت الذي بدأ فيه الجسد العربي يتحرك في اتجاه النهوض ويدخل مرحلة الافاقة من تحكم السيطرة الاجنبية التقليدية، والتخلص من عهود التخلف والتبعية والتشتت القطري. وهو توقيت متعمد قصد من ورائه ابقاء العرب في حالة من الضعف ومن فقدان الهوية القومية. وقبل عام 1948 كان الحس النضالي العربي يستنفر قطرياً لانشغال كل قطر بمشاكله وقضاياه عن بقية الاقطار الاخرى، نتيجة للسياسات الاستعمارية التي رمت الى تجزئة الوطن العربي الواحد وتجزئة قضيته الواحدة الى عدة قضايا.
وبتحديد هوية الغزو الصهيوني تحرك الحس القومي تلقائياً، فتقدمت الجيوش العربية من الشرق والغرب باتجاه فلسطين، ولكن دون خطة قتال موحدة ودون فهم كامل لطبيعة الحرب وطبيعة العدوان الجديد، اضافة الى اسباب اخرى عديدة اهمها التواطؤ السياسي وعدم اكتمال الاستقلال لدى الكثير من الاقطار العربية التي شاركت في هذه الحرب. وكانت هزيمة العرب في تلك الحرب بمثابة الشرارة التي فجرت الوعي القومي الى اقصاه ووحدت اطره السياسية.
واكتسبت عقيدة القتال العربية منذ ذلك التاريخ وعياً قومياً مستعاداً، تمثل في ضرورة جمع الشمل العربي اولا قبل الدخول في مواجهات عسكرية مع الآخر. وجمع الشمل العربي يعني توحيد الجهود العسكرية والاقتصادية والسياسية من خلال رؤية نضالية ذات ابعاد تاريخية. وصياغة ذلك كله في جملة منطلقات اساسية يعبأ بها المقاتلون على خطوط التماس، وتبصيرهم باهمية الذود عن الحق العربي والاستشهاد في سبيله، في عملية ترميم للذات العربية ورفعها تعبوياً الى مستوى المهام القتالية المرتقبة.
وبقدر النضج السياسي المتقارب، الذي يستتبعه بالضرورة نضج على المستويات كافة، كانت تقاس حركة الامة في تصديها ونجاحها في الوصول الى موقع قتالي متقدم. وما فشلت فيه حرب عام 1967، نجحت فيه حرب عام 1973، من حيث الاستناد الى ركيزة التراث العربي في معنى التضحية والبطولة والاستشهاد دون الحق. او بالاحرى الاستفادة من منطلقاته الروحية التي اوصلت المقاتل العربي في يوم ما الى قهر اعلى قوتين واجهتاه منذ انطلاقته البطولية خارج الجزيرة العربية، وهما الفرس والروم. ثم تصديه من بعدهما لغزوتين وحشيتين (الصليبية والتترية) ودحرهما.
وكانت هذه هي الحالة الثقافية المستعادة التي قدمت العرب في عام 1973 ومنذ مئات السنين كمقاتلين اشداء، ذوي وعي قتالي استمدوه من استيعابهم لتراث امتهم في “النصر او الشهادة” دون ان يكون ذلك على حساب صلتهم بحاضرهم وبتقنياته من خلال استخدامهم المريح لأعقد معداته الحربية.
وكانت “بدر” هي كلمة السر التي انطلقت منها الحرب. وهي الكلمة نفسها التي اطلقت على القوات المصرية التي حوصرت داخل سيناء لصمودها رغم شدة الحصار الذي فرض عليها لأكثر من ثلاثة شهور.
واذا كان العرب قد توصلوا في عام 73 الى ان في مقدورهم تحقيق النصر في اشد المعارك ضراوة، فانهم في حروبهم ومجابهاتهم الاخيرة قد أكدوا هذه المقدرة من خلال عشرات المعارك التي خاضوها.. بل هي مواجهات خاضها العرب وظهورهم الى التاريخ ووجهتهم المستقبل. فقد استحضرت هذه المواجهات منذ شرارتها الاولى كل الحروب العربية الكبرى في صدر الاسلام، بل واخذت الاخلاقية العربية نفسها.. في انها مواجهات وحروب ضد عدوانات ضد رغبتها في فرض الهيمنة المسلحة على ارض الغير، وفي مسعاها السلمي دون التخلي عن الحقوق المشروعة.