23 ديسمبر، 2024 2:31 م

المجمع العلمي العراقي .. رهان صعب وتحدٍ كبير

المجمع العلمي العراقي .. رهان صعب وتحدٍ كبير

ان تبدأ من جديد رغم شدة الرمضاء وطول الطريق خير من ان تنتظر ظلالاً وقد لا تأتي الا بعد حين. وان تواجه الهدم بالقليل من امكانات البناء افضل بكثير من ان تظل محدقاً في الخراب… هكذا كانت رؤية العاملين في المجمع العلمي من اعلى سلم المسؤولية حتى ادنى مستوياتها.
 لقد تعرض المجمع العلمي كغيره من مؤسسات الدولة العراقية الى التخريب والنهب والحرق، وكان نصيبه من الدمار قد ادمى قلوب الناس جميعاً، وخصوصاً اولئك الذين اعتادوا على ارتياده بين الحين والآخر، ليستمعوا الى محاضرة او يقدموا تعقيباً في مناظرة او ندوة فكرية او يطلعوا على كتاب جديد صدر عنه.
 لقد اتت عملية الهدم والتدمير والحرق في المجمع العلمي، على كل ما فيه من كتب ومخطوطات ووثائق واجهزة وبناية.. كان المنظر مروعاً يدعو الى اليأس بقدر ما يدعو الى الحزن. ولم يكن احد يتوقع ان يتحول هذا الصرح العلمي الى رماد واكداس.. لكن بهمة العاملين فيه تكاتف الجميع من اجل اعادة اعمار المجمع ومواصلة العمل في رحابه.
 وفي هذا السياق، عادت مجلة المجمع للصدور، وتبعتها في السياق ذاته اغلب دوائر واقسام المجمع العلمية والفنية ـــــــــــــ على الرغم من غياب بعض اعضاءه ـــــــ  لتواصل اداء رسالة علمية وطنية ليس لها من مرجعية غير الوطن وطموحات اعماره.. انساناً، وبُنى، ومؤسسات… لكي يستعيد عافيته على طريق تحرير ارادته.
 مهما كانت المشاكل التي يعاني منها المجمع العلمي، فلا شك في ان من حقه ان يفخر بالمكانة المتميزة التي احتلها عراقياً وعربياً، وحتى عالمياً. وهو أمر لم يعد مثار شك، فأستمرارية عمل المجمع لأكثر من ستين سنة، على الرغم من كل الظروف المأساوية التي مرت على العراق، ونوعية الاصدارات التي ينشرها، وتأثيراتها الفكرية، واستمرار صدور مجلته الرئيسة في وقت اختفت فيه معظم المجلات المثيلات او تعثر صدورها، وعلى الرغم من التخصيصات المالية المحدودة جداً، بقي محافظاً على نهجه واستقلاليته العلمية والمهنية… وبخاصة في تقديم نموذج متميز للعمل المؤسسي البحثي العلمي، سواء داخل العراق او خارجه… كلها امور تدعو الى الاعتزاز بالانجاز على رغم كل الصعوبات التي لا يزال المجمع يواجهها والتي يخطط لتجاوزها.
 ان تجربة المجمع العلمي خلال السنوات الماضية (بعد 9/نيسان/ 2003) مثال صغير ومتواضع لما يمكن ان تصنعه الارادة، على رغم صعوبة كل الظروف المحيطة به. وما كان من الممكن تحقيق كل ذلك من دون تعاون وتكاتف وحرص معظم اعضاء الهيئة العلمية والادارية والفنية للمجمع، كما لم يكن ذلك ممكناً من دون رئاسة المجمع المتميزة، كفاءة، واخلاصاً للعمل، وفق “ليس بالامكان افضل مما كان”.
 فقد حرصت رئاسات المجمع ابتداءاً من  ماضيا وراهنا على اختيار نهج العمل المؤسسي والعقلانية الصارمة في ادارة شؤون المجمع البحثية والعلمية والترجمية… من خلال اعتماد مبدأ المؤسسية وتوفير اطرها التنظيمية والادارية والعقلانية للبرنامج العلمي، معتمدة على قواعد صارمة لا تقبل الانتهاك، وهو ما ضمن للمجمع العلمي مبدأ الحوار الداخلي عبر دوائره واقسامه وشعبه، ومبدأ الاحتساب الصارم في كل ما يتصل بشؤون تنفيذ برامجه العلمية. وبذلك، يعد المجمع من المؤسسات العلمية الفريدة ليس في العراق فحسب بل في الوطن العربي، كونه يعمل على وفق منهج الاكاديمية المرموقة في العالم.
 للمجمع العلمي هيكل تنظيمي منصوص عليه في القانون التأسيسي، مؤلف من رئاسة المجمع تشرف على البرنامج العلمي له، وامانة عامة مخولة بمتابعة تنفيذ ذلك البرنامج، من قبل دوائر علمية يرأسها عضو وعدد من الباحثين والمؤازرين، ويشترط فيهم ان يكونوا من كبار العلماء في مجال تخصصهم، وكذلك الحال بالنسبة للعضو المؤازر والمشارك، فضلاً عن طاقم عمل مكون من اداريين وفنيين ومدراء اقسام…
 وتحمل اغلب الفئات العاملة في المجمع مواصفات فنية راقية تتعلق بتخصصها وامتلاكها الخبرة والسمعة المهنية والعلمية المتحققة عن اسهاماتها النظرية او التطبيقية، ولها الاقدمية في دخولها هذا المجال العلمي من بين ذوي الاختصاص نفسه.
 يمثل حملة الشهادات الاكاديمية، الجزء الاعظم من العاملين في المجمع، وحيث ان امتلاك البعض من هؤلاء للشهادات العليا، تعني تعرضهم خلال سني دراستهم لعمليات الاحتكاك والتكيف للبيئة الجامعية والمجتمعات المتميزة ثقافياً وحضارياً بحكم تواجد الجامعات المتقدمة فيها. اضف الى ذلك، اطلاعهم المستمر على ما ينشر من نتاج فكري في مجال اختصاصهم وقراءاتهم المستمرة، مكنتهم من امتلاك خزين معرفي متنوع ليس بقليل. وعلى هذا الاساس، فان البناء العلمي البحثي للمجمع العلمي يتمتع بنسبة عالية من الملاكات المتميزة بثقافتها وقدرتها على التواصل والتفاعل مع بيئات ثقافية مختلفة، والانتفاع منها بالقدر الذي تحتاجه. وقد حرص المجمع العلمي منذ تعديل قانونه الاساس عام 1995، على ان يكون مجمعاً علمياً شاملاً للمعرفة، كما نصت على ذلك قوانينه وانظمته المختلفة.
 عُرف عن المجمع تخطيطه العلمي لبرامجه البحثية، وقد تضمنت عناوين الاولويات العلمية، ان على صعيد الكتب- مؤلفة، محققة، مترجمة- التي كلف باحثين ومحققين ومترجمين، بانجازها، او على صعيد تلك التي يتقدم بها باحثون الى المجمع.
 فراعى فيها مدى الانسجام بينها وبين اولوياته قبل الموافقة على طبعها ونشرها، او على صعيد المخطوطات المعروضة عليه والخاضعة لتحكيم موضوعي دقيق.
ويقوم البرنامج العلمي للمجمع على مجموعة وسائل لتنفيذ خططه العلمية:
1- برامج البحث الموجهة التي يصنعها المجمع ويدعو الباحثين والمحققين والمترجمين من مختلف الاختصاصات الى المساهمة في انجازها من خلال التعاقد حسب الأصول المرعية في المجمع وهي الارقى عراقياً حتى اليوم بشهادة العديد من الاكاديميين.
2- الندوات العلمية التي تدور موضوعاتها ومناقشاتها حول موضوع من موضوعاتها  في الفكر والتاريخ والتراث والحضارة والاجتماع والاقتصاد والترجمة… مما يعده المجمع من الموضوعات ذات الاولوية في برامجه العلمية.
3- الحلقات النقاشية، وهي ندوات مصغرة ضمت عادة بين الخمسة مشاركين والعشرة، لكنها توسعت في الآونة الأخيرة، واصبحت تستوعب عدداً اكبر من المشاركين يصل احياناً الى العشرين. والغالب على حلقات المجمع النقاشية تناولها لموضوعات تقع في صميم برنامجه العلمي او تفرضها ظرفيات ومتغيرات ضاغطة تقتضي حواراً حولها لبناء رأي في معطياتها وكيفيات التعاطي مع نتائجها.
4- اصدارات المجمع من الكتب، ويدخل في جملتها انتاجه المباشر من مشاريع علمية (بحث، تحقيق، ترجمة…) كلف المجمع عدداً من الباحثين بانجازها او مخططات كتب بادر مؤلفوها الى عرضها على المجمع قصد نشرها وخضعت لتحكيم علمي من قبل خبراء اعتمدهم المجمع من كافة التخصصات. وقد اصدر المجمع منذ عام 1950، وحتى كتابة هذا الموضوع ( كذا ) كتاب، وهي في مجموعها بالمستوى العلمي الرفيع الذي يشهد به كثيرون تمثل مكتبة مرجعية لا غنى عنها لأي باحث او اكاديمي او قارئ متابع.
5- مجلة المجمع الاساسية التي بلغت اعدادها حتى نهاية عام 2013، اكثر من ستين مجلد . وقد انتظم صدورها ولم تتوقف حتى في احلك ظروف البلد الصعبة، وقد واكبت المجلة بالرصد والتحليل مجمل المنعطفات التي شهدها العراق ولا سيما في السنوات الاخيرة. ومجمل الاشكاليات الفكرية التي انطرحت على الوعي العراقي في هذه المدة، وهي اليوم، بهذا الرصيد الغني مصدر مميز من مصادر المعرفة الذي لا غنى عنه لأي اكاديمي ومثقف في المجالات التي تكرست المجلة للاطلالة عليه.
6- ومن خلال المحاضرات والحلقات النقاشية تمكن المجمع من خلال هذا النهج دعوته العديد من رموز الفكر والثقافة والعمل الاكاديمي في العراق الى القاء المحاضرات، غير ان التخصيصات المالية المحدودة للمجمع لم تسمح بالذهاب في هذا الاسلوب بعيداً ولاسيما بعد 9 نيسان ومع ذلك، فقد تمكن من تنظيم (كذا) محاضرة خلال الاعوام الاخيرة، ويتطلع المجمع الى تحقيق انتظام المحاضرات بحجم تطلعه…
7- آمن المجمع منذ تأسيسه بالحاجة الحيوية الى التعاون مع المؤسسات العلمية العراقية والعربية المختلفة لتحقيق الاهداف المشتركة، وسعى من جانبه في بناء الجسور واواصر الصلة مع الكثير منها. وكان من ثمار ذلك، ان قامت علاقات تعاون بينه وبين بعضها، وقد نجم عن ذلك التعاون الكثير من النتائج العلمية، من ندوات وحلقات نقاشية ومشاريع ابحاث….
ان المجمع العلمي العراقي، قد طرح اهدافاً علمية عراقية بعيدة المدى، اما في صورة غير معلن عنها، على نحو ما ورد في بيان التأسيس وفي نظامه الاساسي او بشكل غير معلن، ولكن يجري تنفيذه بتؤدة وحرص علمي.
واذ حرص المجمع اشد الحرص على الوفاء بما التزم به، وهو في ذلك انفرد عن المؤسسات العلمية والبحثية الأخرى، وقدم من تجربته ثلاث ملاحظات تشهد له بالتفرد:
الاولى: هي ان المجع العلمي هو اهم مؤسسة علمية عراقية اشتركت المئات من الاقلام العراقية والعربية في برامجه العلمية من مختلف التخصصات، ومن سائر التيارات الفكرية، وهو ما تشهد به وله مئات المقالات والدراسات المنشورة في مجلته.
الثانية: هي ان المجمع ما توقف يوماً على وفرة  من تعامل معهم من الباحثين والمحققين والمترجمين وحتى الكتّاب، عن البحث الدؤوب عن طاقات فكرية جديدة من الاجيال الناشئة من الباحثين ودعوتها الى الاشتراك في برامجه العلمية عبر الكتابة في مجلته او الدعوة الى المشاركة في الندوات والحلقات النقاشية او استكتابه لاعداد دراسات موسعة قصد نشرها في كتب.
الثالثة: تتصل بسعة الصلات التي نسجها المجمع مع الباحثين من خارج العراق على امتداد مواقعهم الجغرافية المختلفة.
اخيراً، من الجدير بالملاحظة، ان العمل الان في المجمع يمضي قدماً على الدوام دون ان يصل شعور الى خارج نطاقه بمشكلة المشاكل فيه، وهي التخصيصات المالية اللازمة التي تحد من الكثير من طموحاته.
ان المجمع العلمي الذي نهض بادوار لم تنهض بها جامعات ومؤسسات علمية مماثلة في المجالات البحثية وبأقل الامكانيات المالية، لا يستطيع اليوم ان يؤمن لنفسه مبلغ (كذا)… يغطي به مشاريعه الطموحة، فهل ثمة من خجل على المال العراقي اكثر من ترك مؤسسة عراقية علمية بأهمية المجمع لمواجهة هذه المصاعب الخطيرة على مستقبله ومستقبل العمل العلمي العراقي؟!!
Waleedkaisi @yahoo.com