الفساد في العراق ذو شجون يستطيع المتناولون له التعلق باي شجن يشاؤون، فمنهم من يحاول صادقاً تسليط الضوء على الفساد والفاسدين خدمة للعراق وشعبه ومنهم من يختار مايشتت الانتباه عن الفاسدين لعدة أسباب ومنهم فاسدون أصلا يشنون حملات اعلامية لتشويه سمعة من يتصدون لمكافحة الفساد فيألبون الرأي العام ضدهم، فاختلط الامر على المواطن البسيط وغابت أو غيبت عنه الحقيقة.
استطيع ان اسوق عددا من الامثلة وبالاسماء على كل نوع من هذه الانواع الثلاثة ولكني آثرت ان لاافعل ذلك كي لايتخندق القراء لان غالبية الشعب العراقي متخندق الآن خلف “رموز” حزبية أو طائفية أو قومية أو دينية وعيونهم كعيون من وصفهم الشاعر بقوله: عيون الهوى عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا.
أود ان الفت انتباه القارئ الكريم الى ان الفساد الذي يجب ان نكافح هو ليس الفساد المتجذر اجتماعياً فهذا النوع اضراره خفيفة ويمكن التعايش معه الى حين. اقصد بهذا النوع هو الرشى أو التوسط والعزائم والذبائح لتمشية المعاملات الرسمية، ولو انه تفاقم بعد عام 2003 لأن مدراء الدوائر وآمري الوحدات والمراكز اشتروا مناصبهم وصار عليهم ليس فقط استعادة الاموال التي دفعوها رشىً من أجل المنصب فحسب بل جني ارباحأ غير مشروعة على حساب المواطن الفقير. فلا يخدعنكم مسؤول يعتقل بعض موظفي الدوائر المرتشين ويدعي انه يكافح الفساد رغم ان هكذا جهداً لابأس به لكننا نعرف انها محاولة لذر الرماد في العيون وأمر قد يبدو حقا لكن يراد به باطل فربما يكون المراد منه التغطية على عجزه عن مواجهة حيتان الفساد الأكبر والاخطر.
الفساد الاكبر والاخطر يتمثل في حصة الاحزاب من ميزانيات الوزرات والتي تذهب الى مايسمى بالمكاتب الاقتصادية لكل حركة او كتلة او حزب سياسي كبير، وحصة المسؤولين الحكوميين الكبار ممن هم بمنصب مدير عام أو وزير او ماساواهما من المناصب، حصصهم من كل العقود الحكومية التي توقعها مؤسساتهم مع شركات وافراد عراقيين أو أجانب، وايضا أموال أرباح مزادات العملة المحولة الى الخارج بعمليات غسيل اموال وصلت الى مليارات الدولارات، اضافة الى الشركات والافراد المرتبطين باحزاب معينة والذين عادة ماترسي عليهم العقود الحكومية مقابل حصة من الربح او تبرع سخي من الشركة أو الفرد للحزب أو المسؤول. هذه الاحزاب ارتهنت حتى لقمة عيش المواطن العراقي بانتماءه لاحد هذه الاحزاب من خلال الدرجات الوظيفية التي صار توزيعها على الاحزاب والكتل السياسية تقليدا بعد عام 2003 وصار على المستقل الانتماء لاحد هذه الاحزاب ان أراد وظيفة حكومية.
لكتم انفسانا ومنعنا حتى من الصراخ ، فعّلت أحزاب السلطة المتغانمة على المال العام، فعّلت قوانين البعث التي يدعي قادتها معارضته، تلك القوانين الكابتة لحق الوصول الى المعلومة وحريات الاعلام والتعبير عن الرأي، بل تعدت ذلك وشرعت او لازالت في طور تشريع قوانين تجرم من ينتقد الفساد والفاسدين مالم يقدم أدلة دامغة وكأن على المواطن المظلوم أن يكون قاضيا او محققا ويجمع كل الادلة الكافية لادانة الفاسد والا فسينال جزاءا لعدم التسامي على مظلوميته واحترام المسؤول الفاسد. اذا كان على المواطن الذي يشكو جور مسؤول حكومي جمع الادلة الكافية لادانة ذلك المسؤول، فما هو أذن واجب الادعاء العام والمحقيين والقضاة أو النظام القضائي برمته؟
في الولايات المتحدة الامريكية لاتشترط القوانين على مخترعي الادوية والعقاقير البحث في آثارها الجانبية قبل أن تجيز تصنيعها وتداولها، كي لاتقتل طموح المبدعين والمخترعين. لكننا في العراق نحزًم المواطن بحزمة من القوانين الصارمة التي تمنعه من الابلاغ عن الفساد فنحمله مسؤولية جمع الادلة الكافية لادانة المشتبه في فساده والا فمصيره السجن، ولعمري لانريد من وراء هذه القوانين الا تخويف المواطن وتثبيط همته في الكشف عن الفساد والفاسدين.
لايدع المسؤولون هذه الايام مناسبة تمر الا وهاجموا القنوات التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي لنشرها غيسلهم القذر. مجلس النواب يتمخض لولادة مايسمى بقانون الجرائم الالكترونية والغاية منه تجريم حرية الاعلام والتعبير عن الرأي لانهم لايستسيغون من الاخبار الا كيل المديح ل “الرموز” الطوطمية الفاسدة والتغاضي عن فسادهم الاخلاقي والاداري.
لما للاعلام من أهمية في حماية الشعب من استبداد الحكومة، كتب كاتب الدستور الأمريكي توماس جيفرسون لأحد أصدقاءه عام 1787 قائلاً “لو ترك الأمر لي لتقرير ما إذا كان ينبغي أن تكون لدينا حكومة بدون صحف ، أو صحف بدون حكومة ، لما ترددت ولو للحظة في إختيار الاخيرة.
الحكومات والمجالس النيابية العراقية التي تلت تحرير العراق من طغمة البعث في 9 نيسان 2003 نهبت ومازالت تنهب المال العام وتحاصصت المناصب ودعت الارهاب يفتك بنا وافقرتنا وأجاعتنا وهجرتنا وتحملنا كل هذا، لكنها لم تتحمل منا حتى انتقادا علنيا لفسادها وفشلها فان لم يكن هذا استبدادا حكوميا فما هو الاستبداد الحكومي اذن؟
ثمة مكاتب وهيئات لمكافحة الفساد في العراق استحدث بعضها بعد عام 2003 فهناك ديوان الرقابة المالية، والمفتشين العامين في كل وزارة، وهيئة النزاهة ولجنة النزاهة…الخ، وبدلا عن تفعيلها ودعمها للقيام بمسؤولياتها، أنشأ رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي مجلسا يعنى بمكافحة الفساد أسماه المجلس الاعلى لمكافحة الفساد في العراق مشكلاً بذلك طبقة اخرى من طبقات الفساد.
وحسب المكتب الاعلامي لرئيس الوزراء، طالب هذا المجلس يوم 9 أيار 2019 بضرورة تقديم الأدلة على الإتهامات التي تساق بحق المسؤولين الحكوميين في وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، من قبل جهات وأشخاص بغض النظر عن مسمياتهم وصفاتهم الوظيفية خلال مدة أسبوعين، وبخلافه يحتفظ المجلس بإتخاذ الاجراءات القانونية بحق مطلقي هذه الإتهامات.
أريد أن أنوّر المجلس انه وحسب القوانين الدولية للصحافة، قد يحميك امتياز التقرير العادل fair report privilege)) من المسؤولية إذا نشرت شيئًا حتى لو كان تشهيريًا إعتماداً على وثيقة حكومية أو بيان رسمي من مسؤول حكومي يحوي معلومات خاطئة ، وأثبت أن هذه الوثيقة أو البيان هي مصدرك الذي استندت اليه في صياغتك للخبر أو التقرير. وأغلب ماينشره المدونون في مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع على الشبكة العنكبوتية وحتى القنوات التلفزيونية يعتمد اما على وثائق حكومية أو إدعاءات مسؤولين حكوميين اثناء لقاءاتهم مع القنوات التلفزيونية وبالتالي فهم غير مسؤولين عن تقديم أدلة الادانة وليس باستطاعة المجلس اتخاذ اجراءات قانونية بحقهم لانهم نقلوا تقاريرهم عن مصادر حكومية، الا اذا ضرب المجلس القوانين الدولية والدستور العراقي عرض الحائط وهذا غير مستبعد البتة.