18 ديسمبر، 2024 7:57 م

المجتمع ورفض التجديد

المجتمع ورفض التجديد

من خلال استقراء التأريخ في ماضيه وحاضره وربما في مستقبله، نرى تأصّل ظاهرة معاداة التجديد ، فنبصر السمة الغالبة على أكثر المجتمعات والأغلب في المجتمع الواحد أنه يرفض بل ويحارب كل من يحاول أن يأتي بشيء جديد على المستوى الفكري أو التطبيقي في شتى المجالات . مع غض النظر عن كون ما يأتي به المجدد ايجابياً أو سلبياً ، فترى أفكاره ونظرياته تجابه بردود فعل عنيفة تستهدف القضاء عليها ، ثم بعد مضي مدة من الزمن ترى نفس المجتمع الذي حارب هذه الأفكار يمجد ويعظم هذه الأفكار وصاحبها ويدعو لتطبيقها ، وغالبا ما يكون هذا التمجيد بعد خسران المجتمع لذلك المجدد ، وهذا ما رأيناه بدءاً بأصحاب الرسالات وانتهاءً إلى المفكرين والمصلحين. وحتى على مستوى الاحتياجات المادية ترى المجتمع ينبذ الصناعات والمبتكرات الجديدة ويتمسك بما هو قديم .
فهل أن هذه الحالة تكوينية في الإنسان ؟ وهل هي صحية وحسنة في المجتمع ؟ وهل من احتمال لتجاوز الإنسان هذه الحالة ويكسب الوقت الذي يضيعه في رفض التجديد ؟ .
حسب فهمي والله العالم ، أن هذه الحالة ليست تكوينية وإلا لرفضها كل المجتمع وما قبلتها فئة دون فئة . وليست حالة صحية التي تؤدي الى ظلم المجددين . إنما هناك عدة أسباب ولّدت هذه الحالة .

وأهم هذه الأسباب :
أولاً : الاعتياد النفسي .فإن النفس إن اعتادت على شيء صعب إقلاعها عنه إلى شيء جديد . حيث أن الاعتياد غالبا يولد تعلق بالشيء يصعب مع هذه العُلقة التجرد والتخلي عن ذلك الشيء .
ثانياً : الاستقرار . فإن من طبع الإنسان حب الاستقرار والبقاء على حالة واحدة . فهو عدو لكل ما يزلزل هذا الاستقرار . فَطروء الأفكار الجديدة يوجب على الإنسان هدم استقراره والكون في حالة اللااستقرار للانتقال من حالة إلى أخرى ، ثم يبدأ الاستقرار على الحالة الجديدة .
ثالثاً : التكاسل عن فهم ما هو جديد . فيدفع هذا التكاسل الإنسان إلى الإدبار عن كل ما يتطلب منه جهداً سواء في فهمه أو تطبيقه .
رابعاً : الخوف . فإن الفرد وبالتالي المجتمع يخشى كل ما هو جديد، وهذه الخشية منبعها احتمال فقدان القديم وعدم ارتقاء الجديد إلى مستوى فائدة القديم . فيخشى من كون الجديد أدنى مرتبة من القديم وأقل جدوى . فيكون معتقده ( قديم تعرفه خير من جديد تجهله ).
خامساً : النظر الخاطئ إلى أن كل جديد هو هادم ومقوض وليس مشيد وبانٍٍ . فيعتبر المجتمع أن الآتي يُهدد ما هو عليه من الأسس القديمة ، فيحاول إبعاد هذا الجديد بأي شكل ممكن .
هذه ربما الأسباب الأبرز لنبذ التجديد والمجددين ومعاداتهم.
وهذا الرفض بدوره يخلف أضرار فادحة بالمجتمع – وطبعاً كلامنا عن التجديد الايجابي والإصلاحي – .
الأضرار المحتملة
إن أبرز الأضرار المترتبة على رفض التجديد هي :
أولاً : تخلف المجتمع عن مستوى الرقي المرسوم له . فإن مجيء الشخص المجدد أو الأفكار التجديدية لا يمكن أن تأتي في غير وقتها ، إنما جاءت في وقتها حسب نظام الترقي المتسلسل ، فعدم اعتناء المجتمع بالمجدد أو الأفكار والنظريات التجديدية يؤدي إلى تخلف المجتمع وتأخره عن بلوغ ما يراد منه .
ثانياً : حرمان العقل من أفكار ونظريات وتصورات توسع بدورها المدارك العقلية وتنقل العقل إلى مستوى جديد ربما تتغير فيه مقاييسه وتُعدل زاوية النظر لديه .
ثالثاً : إن المجتمع الذي يعادي ويضيق على قواده وأعني المجددين، سيكون متأخراً رتبة عن المجتمعات الأخرى ، وطبيعة الترتب المجتمعي أن المجتمع المتأخر يكون مَقوداً للمجتمع المتقدم وليس في مصاف المجتمعات القائدة .
رابعاً : أن المجتمع الذي اعتاد محاربة المجددين سوف يثبط همة كل من يروم التجديد ، فتموت الأفكار في صدور أصحابها ويحرم المجتمع من فوائد هذه الأفكار والنظريات .
خامساً : إن الأفكار والقيم والنظم والنظريات القديمة التي يتمسك بها المجتمع ليست خالدة ولا ينبغي لها ذلك بحسب نظام ( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) . فإن الأفكار والأنظمة والنظريات لها أجل محتوم وعمراً لا تتعداه ، فتمر بفترة النشأة ثم البلوغ ثم الكهولة ثم الموت . فعدم قبول الأفكار الجديدة مع موت الأفكار والمعتقدات القديمة ولو تدريجاً ، يجعل المجتمع مواتاً لتمسكه بميت أو قلّ لأنه يُقاد من قِبل ميت .
هذه ربما أهم وأكبر الأضرار التي تصيب الأفراد والمجتمعات الرافضة للتجديد والنابذة لأهله .
لكن الإنسان بما وهبه مبدعه عز اسمه من القدرة اللامحدودة يستطيع تجنب هذه الأخطار عبر إيجاد العلاج الناجع لهذا المرض.
العلاج المقترح
الذي نراه مناسباً لسد هذا النقص وتلافي أضراره :
أولاً : التخلي عن نظرة التقديس لكل قديم إلا ما كان مقدساً فعلاً ، فإن رفع الأفكار والنظريات القديمة إلى مرتبة القداسة يجعل لها حصانة مانعة عن كل تغيير . فيلزم أن تكون معاملة الأفكار القديمة بمستوى الأفكار الجديدة إن لم تكن بمستوى أدنى .
ثانياً : تقييم الفكرة أو النظرية أو المعتقد بقيمة ما يعطيه ، وعلى قيمة عطاءه يكون بقاؤه ، وليس ثمة فكرة لانهائية العطاء إلا ما كانت صادرة ممن هو لا نهائي وقاصد بقائها إلى ما لا نهاية .
ثالثاً : دراسة الأفكار والنظريات الجديدة وحتى شخصياتها دراسة منصفة معتدلة قبل الحكم عليها.
رابعاً :التخلي أو قلّ تسقيط النظرة العملية المبتنية على أن كل جديد هو هدّام وليس بنّاء ، بل يُعامل كل جديد على أنه ربما يكون تمام وكمال لما سبق وإن اقتضى إزالة بعض الأسس التي أثبتت عدم ملائمتها للمرحلة .
خامساً : اليقين بقاعدة البقاء وأعني المسطورة في قوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وهي قاعدة عمّت كل القوانين والأنظمة الكونية والتشريعية السماوية والأرضية . فإن الاعتقاد العملي بهذه القاعدة يزيل مخاوفنا من زوال ما هو مفيد ويذيب الخشية من التجديد . فإن كل فكرة أو معتقد أو نظرية خاضعة لقانون تمحيص الأفكار، فإن كانت متلائمة وأسس النظام العام بقية وثبتت وإلا زالت ، ويُقرَر عمرها على أساس عطاءها للنظام .
سادساً : المقارنة العقلية القائمة على أسس قطعية بين الأفكار والنظريات القديمة وبين الجديدة ، فإن حوت الأفكار الجديدة على عطاء أوسع وأشمل للمجتمع أو الفرد من الأفكار القديمة قُدّمت وأُخرت القديمة .
وحسب اعتقادي أن المسير على هذه الخطوات سيجنب لو بمقدار قليل الفرد والمجتمع ويبعده عن الوقوع بالظلم الأكبر وهو ظلم المجدد وظلم النظام الإلهي وظلم المجتمع بحرمانه من استحقاقه .