نادرا”ما يشترط الخطاب الإعلامي المبتسر ، تناول إشكاليات المجتمع المدني من منطلق ضرورات تنشيط مؤسساته في بنى الواقع وتفعيل مبادئه في أنساق الوعي ، كمؤشر على سلامة التوجه الديمقراطي للنظام السياسي ، مقرونة بالإشارة إلى ماهية المؤثرات التي تتخلل علاقاته بمكونات المجتمع الأهلي ، ولزوم الإحالة إلى أنماط القيم الرمزية التي يمكن أن تتسلل من حقول هذا الأخير إلى ميادين الأول وبالعكس . ولأن احتمالات أن (تتلوث) عناصر المجتمع المدني بافرازات المجتمع الأهلي ، والاحتكام إلى مرجعياته الفرعية مرجّحة ، لا بل مؤكّدة أكثر من احتمالات أن (تتطهّر) مكونات المجتمع الأهلي من آثام تلك الافرازات ومساوئ تلك المرجعيات ، عبر استدخال فضائل المجتمع المدني في نسيج علاقاتها ، واستدماج مناقبه في منظومة تقاليدها . فان الاهتمام بقضايا توطين الأفكار الديمقراطية ، والسعي لإنجاح محاولات تبيئة قيمها في المجتمعات العربية التي لم يبرح واقعها الاجتماعي ينتج أطر أهلية / تحتية متناسلة (انتماءات قبلية ، ولاءات طائفية ، استيهامات عنصرية ، تراتبيات دينية ، استتباعات جهوية) ، سوف لن تتخطى حاجز التمني الشخصي ولن تتجاوز حدود الرغبة الذاتية ، ما لم يصار إلى امتلاك الجرأة والتحلي بالمثابرة على طرح المسائل الإشكالية المحرجة ، التي طالما حاول العقل العربي المولع بالسفسطات والمأخوذ بالشكليات ، غمط مضاعفاتها وتضييع راهنياتها بين طيات اللاوعي المكتنز بالتراكمات الأسطورية والمتخم بالترسبات الخرافية . لاسيما موضوعة ؛ عن أي مجتمع مدني نتبارى بالحديث عنه ونتسابق بالترويج له ، في حين إن كيان تلك المجتمعات صائر إلى التفكك في عراه ، وماثل إلى التمزق في نسيجه ، وكائن إلى التشظي في مكوناته ، في غمرة من احتدام النفسيات وصدام الذهنيات واضطرام التخيلات . والمفارقة إن الجميع ينشدون وبحمية تغيير الأوضاع السياسية المزرية ، وتبديل العلاقات الاجتماعية المتهرئة ، وتجديد المنظومات الثقافية المجدبة ، ليس فقط عبر مأسسة أنشطة المجتمع المدني وتقنين فعالياته فحسب ، بل وكذلك المطالبة بإشراكها في جدليات الحراك الاجتماعي والتزحزح السياسي والتدوير السلطوي . من دون أن ينبس أي منهم ببنت شفة حول أية مرجعيات رمزية / قيمية ، وإزاء أية خلفيات انثروبولوجية يراد لهذا المجتمع العتيد أن يمارس أدواره ويؤدي وظائفه ! . هنا تتبلل الألسن وتتعطل الرؤى وتزيغ الأعين وتتشوش التصورات ، لاسيما وان أغلب الذين تعرضوا لهذه المهمة النبيلة ، لم يكونوا ، هم ذاتهم ، بمنجى عن تلك الازدواجية المستحكمة في وعيهم والمتحكمة في سلوكهم ؛ بين الأقوال والأفعال ، بين الطباع والانطباع ، بين الرحمن والشيطان ، بين المقدس والمدنس . ولعلي لن أخطئ حين أظن إن الإمام (الغزالي) قال ذات مرة ما معناه : إن الإكثار من بناء الجوامع في مدينة ما يدلل على ضعف الإيمان في نفوس ساكنيها . وكذلك الحال فان الإكثار من الحديث عن المجتمع المدني ، وكأنه تعويذة أو رقية يكفي استحضارها والتعزيم عليها لتنقلنا من درك الجحيم إلى آفاق النعيم ، لا يشي فقط عن قلة الاقتناع بما يترتب عليه من الزامات قانونية والتزامات أخلاقية فحسب ، وإنما يشير إلى شحّة الفهم وندرة الإدراك لما يتمخض عنه من أفضليات اجتماعية ومناقبيات إنسانية ، تتيح للفرد فرص الخروج من قواقعه العصبوية والتحرر من نوازعه العدوانية ، صوب رحاب العلاقات التواصلية ؛ بين الذات والآخر ، بين النحن والهم ، بين الجواني والبراني ، بين الأخيار والأشرار . ولذلك فان أولى المهام الملقاة على عاتق عشاق المجتمع المدني ، والمغرمين بالترويج لقيمه والتسويغ لفضائله ، هي الاعتراف الصريح والجرئ بعدم جدوى الحديث عن مناقب ذلك المجتمع والإطناب في تعداد فضائله ، طالما إن المرجعيات الأهلية لم تبرح تؤطر تصورات الخاصة قبل العامة ، وتحدد خيارات الحكام قبل المحكومين ، ليس فقط على مستوى الواقع الاجتماعي وما يزخر به من تناقضات ومفارقات تعكس الطبيعة الاستزلامية لنمط العلاقات السائدة بين مكوناته فحسب ، بل وعلى صعيد المجال السياسي وما يحفل به من انقسامات وصراعات تجسد الخاصية الاستتباعية لمظاهر الاصطفافات القائمة بين قواه الفاعلة ومراكزه الجاذبة أيضا”. وعلى ذلك فان أية بادرة – مهما كانت النوايا التي تحركها – تستهدف تفعيل آليات المجتمع المدني ، ومن ثم وضع اشتراطاته والتزاماته موضع التطبيق والتنفيذ ، ستجابه بالرفض والممانعة من جانب البعض والتسويف والتحريف من جانب البعض الآخر ، بحجج ومزاعم لا تخلو عادة من وجاهة ومعقولية ، في ضوء استشراء مظاهر انكفاء الوعي الفردي ونكوص السيكولوجيا الاجتماعية . ولعل هناك من يعتقد – خصوصا”في خطابات الساسة وصناع الرأي ، فضلا”عن رهط من المثقفين في العراق – إن الدعوة إلى إشاعة ثقافة المجتمع المدني وتعميم ما يرتبط بتلك الثقافة من قيم وتقاليد ، كفيل بتفكيك منظومات المجتمع الأهلي على مستوى البنى والعلاقات من جهة ، وتقويض مرجعياته على صعيد الذهنيات والسلوكيات من جهة أخرى ، لاسيما وان خيار الدولة في تنظيم شؤون المجتمع قد حسم لصالح التوجه الديمقراطي ، لجهة توزيع السلطات وتقسيم الصلاحيات وتعدد المسؤوليات ، التي من شأنها الحدّ من احتمالات الاستئثار بالسلطة من هذا الطرف أو تلك الجهة ، على أسس من الولاءات الطائفية أو الانتماءات العنصرية أو الارومات القبائلية . كما وان رهان الحكومة في ضبط التوازنات الداخلية وإدارة العلاقات الخارجية ، قد اتجه إلى تحكيم سطوة المؤسسات الوطنية وسلطان القوانين الدستورية ، التي يمكن الاعتماد عليها في الحدّ من آثار الإيديولوجيات الأحادية والعقائديات الاقصائية ؛ حيث العنف هو اللغة الوحيدة في الحوار البيني والتطرف هو الصيغة المرجحة في العلاقات المشتركة . والواقع انه ليس هنالك ما يمنع التعويل على ما تطرحه هذه الرؤى والتصورات من فوائد آنية ، يمكن جنيها في مضمار الدعاية السياسية والإعلامية لتحقيق مكسب هنا أو مأرب هناك ، بيد أن هذا المسعى لوحده – على أهميته – لا يمكن له أن يضمن لنا التخلص من افرازات المرجعيات الأهلية الرابضة في بنى الوعي ، أو الإفلات من أوزار رواسبها القارة في بطانة السيكولوجيا . ذلك لأنها وليدة قرون من التربية الاجتماعية المتخلفة ، والأعراف القبلية البالية ، والتقاليد المذهبية المتحجرة والطقوس الرمزية المتكلسة ، والاعتقادات الدينية المحرّفة . بحيث يحتاج الأمر معها إلى إجراءات سياسية قاسية تتخطى هوس المحسوبيات والمنسوبيات بين التكتلات والتحالفات ، وتدابير اجتماعية صعبة تتجاوز التنابز بالألقاب والأنساب بين القبائل والمذاهب ، وجهود ثقافية مضنية تتغلب على نعرات الاصالة الحضارية والأقدمية التاريخية بين الجماعات والأقليات ، وبرامج تربوية مكلفة تجتث مظاهر العزلة والخوف والكراهية بين الذهنيات والذاكرات . والحال أين نحن من كل هذه المعطيات المؤجلة والضرورات المتخيلة ، التي ينبغي تحقيقها – أولا”ومقدما”- على صعيد الواقع الاجتماعي الفعلي ، لكي يتسنى لنا المطالبة بتأسيس قواعد المجتمع المدني العتيد ، والجهر ، من ثم ، بالشروع للعمل وفقا”لقيمه العقلانية ومبادئه الإنسانية وعلاقاته الديمقراطية ؟! . لاشك إننا لم نبرح – في هذا المجال المصيري – نحاكي أطياف الطوبى بدلا”من أكلاف التجربة ، ونمعن في شطحات الخيال بدلا”من مرارات الواقع ، ونسرف في سهولة سرد المقولات بدلا”من تجشم صعوبة الممارسات .!
[email protected]