لماذا لايزال قسم كبير من المجتمع العراقي تحكمه الثقافة البدوية والريفية؟ وهل مازال بحاجة الى ما يسمى (الفصل العشائري) و(الكَوامة) و(الدية) وغيرها من العرف العشائري؟ ولماذا يتغلب العرف والعادات العشائرية على القوانين المدنية ونحن في القرن الحادي والعشرين؟ رغم مظاهر التمدن والعصرنة التي تطغى على المدن الكبرى في بلدان مثل العراق، لا يزال النفوذ العشائري حاضرًا بقوة في الحياة اليومية والاجتماعية، بل وحتى في السياسية والاقتصاد. هذه الظاهرة، التي قد تبدو غريبة في سياق التحول الحضري، لها جذور عميقة ومعقدة تستحق التأمل.
بالرغم من إن لبلاد الرافدين تاريخاً يمتد لآلاف السنين وعلى أرضه نشأت أولى الحضارات وكان لحضارته القديمة فضل كبير على سائر الحضارات الأوربية بل على المدنية الإنسانية بأسرها، إذ إن الكتابة اكتشاف سومري صميم، ولولا الكتابة لما كان هناك تاريخ أو علوم، ولما كانت حضارات أو فنون، لكنهم على عكس اغلب دول المنطقة لايزالون يتأرجحون بين البداوة والتمدن وحتى بغداد التي كانت لها تقاليدها المدنية والحضرية صارت اليوم تلطخ جدران بيوتها بعبارات مثل (مطلوب عشائرياً )وتنصب الخيام في شوارعها وأزقتها لجلسات الفصل العشائري وتؤخذ الأموال من دون وجه حق وكأننا في البادية وليس في مدينة كان يضرب المثل في تبغدد أي تحضر أهلها .
قبل أن نبحث عن إجابات لهذه الأسئلة لنعرف مفهومي البداوة والتحضر. فالبداوة يقصد بها ذلك النظام الاجتماعي الذي منشؤه الأساسي البيئة الصحراوية القائمة على الرعي والتنقل من مكان الى آخر حيثما يتوفر الماء والمرعى ويتصف هذا النظام بميزات التعلق بالعصبية القبلية والخشونة الناتجة عن العيش في البيئة الصحراوية وصفاتها المعروفة.
أما التحضر أو الحياة الحضرية فهي نظام اجتماعي يختلف عن البداوة اختلافاً جذرياً من حيث ميزاته الكثيرة وأولها أن الحياة الحضرية تتطلب العيش في المدن حيث الاستقرار عكس الحياة في الصحراء والتنقل من مكان الى آخر، والانتماء الى دولة ولإمكان للعصبية القبلية كما أن هذا النظام يتبنى عوامل الإنتاج الاقتصادي والثقافي طبقا لعمل الأفراد في المجتمعات الحضرية في الصناعة والتجارة والوظائف الحكومية والخدمية فضلاً عن تشجيع العلوم والفنون على اختلاف أنواعها وتترك البيئة الحضرية اثرها على الأفراد من حيث قلة الخشونة كما هي لدى من يعيش في الصحراء.
هناك الكثير من البحوث والدراسات التي أجراها الكثير من الباحثين وعلماء الاجتماع، يمكن أن نجد فيها إجابات عن الأسئلة التي طرحناها ومنها كتابات الدكتور علي الوردي (1995-1913). حيث نجد أن محور الثقافة البدوية أو طابعها العام يمكن إجماله حسب الدكتور علي الوردي بكلمة واحدة هي (التغالب ) وهذه الثقافة تحتوي على ثلاث مركبات هي العصبية القبلية والغزو والمروءة والملاحظ أن طابع التغالب موجود في جميع هذه المركبات وان منبعها الأول هو حب الغلبة وللتفصيل في ذلك يمكن الرجوع الى كتاب الوردي (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي). يعتبر الدكتور علي الوردي إن البدوي ينشأ ويتربى على حب الغلبة وما العصبية والنصرة القبلية ألا ناتج لها وهو مفهوم يعشش في النفس البشرية.. نصرة الأخ والقريب وابن العشيرة ضد أي عدو ظالماً أو مظلوماً! (انصر أخاك …) وكذلك الغزو ليس سوى تجسيد للغلبة التي تعشقها نفس الأنسان البدائي للاستيلاء على أملاك الغير، وحتى المروءة نابعة عنده من حب الظهور بمظهر الغالب من خلال الكرم والعطاء والنجدة التي لا يملكها ألا الغالب، وهذا ما جعله يرفض الخضوع الى القانون والدولة التي يعتبرها قيداً على حريته المطلقة وإهانة له لذلك فأن قوة البداوة وانتشار ثقافتها تتناسب عكسياً مع قوة الدولة والمؤسسات الحكومية، فكلما ضعفت الدولة وانهارت المؤسسات الحكومية نشطت الثقافة البدوية وتقدمت نحو المدن فينتشر في مجتمعاتها ثقافة المغالبة والتعصب القبلي وما يصاحب ذلك تردي المدنية وطابعها المتحضر. اعتمد الدكتور الوردي مفهوم صراع الحضارة والبداوة في تحليله لطبيعة المجتمع العراقي وتاريخه خلال القرون الأخيرة ويمكن اعتماده كذلك على الوقت الراهن وقد بين ذلك في النص التالي : (لقد اجمع علماء الآثار أن العراق كان مهبط حضارة تعد من اقدم حضارات العالم وظلت الحضارة تراود العراق حيناً بعد حين ونجد العراق من الناحية الأخرى واقفاً على حافة منبع فياض من منابع البداوة هو منبع الجزيرة العربية فكان منذ بداية تاريخه حتى يومنا هذا واقعاً بين متناقضين من القيم الاجتماعية قيم البداوة الآتية من الصحراء المجاورة وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه الحضاري القديم ). لذا صار المجتمع العراقي عرضة لمد البادية وجزرها على توالي العصور، إلا أن أطول فترة سيطرت فيها البداوة على العراق هي الفترة التي بدأت منذ سقوط الدولة العباسية سنة 1258 م أو قبل ذلك بقليل، ثم استمرت ما يقارب ستة قرون، انهارت فيها سلطة الدولة، واختل نظام الأمن، وتتابعت الفيضانات والأوبئة والمجاعات ما جعل الحضارة تذوي في العراق وتستفحل القيم البدوية محلها.
يقول الدكتور علي الوردي “إن مشكلة العراق انه حين ينحسر عنه المد البدوي لا يستطيع أن يتكيف للحضارة سريعاً حين تأتي اليه فهو يبقى متمسكاً بقيمه البدوية زمناً يقصر أو يطول تبعاً للظروف التي تواجهه ومن طبيعة القيم الاجتماعية بوجه عام أنها تبقى فعالة زمناً بعد ذهاب الظروف المساعدة لها فالناس إذا تعودوا على قيمة معينة صعب عليهم بعد ذلك أن يتركوها دفعة واحدة.” لذلك عندما تفشل الدولة في توفير الأمن، العدالة، الوظائف، أو الخدمات الأساسية، يتجه الناس نحو الهياكل التقليدية مثل العشيرة التي تمنحهم الشعور بالحماية والانتماء. في العراق مثلاً، بعد 2003، ضعف مؤسسات الدولة أعاد العشيرة لتكون “المؤسسة البديلة” في حل النزاعات، وتوفير الغطاء الاجتماعي والسياسي.
في كثير من الأحيان، تكون العشيرة بديلاً عن مؤسسات الدولة. حين تعجز الدولة عن تقديم الخدمات، أو حماية المواطنين، أو إنفاذ القانون بعدالة وفاعلية، عندها يلجأ الناس إلى الهياكل التقليدية التي يعرفونها ويثقون بها. العشيرة هنا ليست مجرد إطار اجتماعي، بل تصبح محكمة، وضامنًا، وملاذًا في وجه الظلم أو الفوضى. وفي غياب مشروع وطني جامع وشعور فعلي بالانتماء للدولة، تتحول العشيرة إلى هوية بديلة تمنح الأفراد الشعور بالكرامة والانتماء والتقدير. إنها حاضنة نفسية واجتماعية، خصوصًا حين يشعر الفرد بأنه منسي في معادلة الدولة أو مهمّش في مجتمعه. وعليه لم تعد العشائر فقط أداة اجتماعية، بل أصبحت أيضًا وسيلة سياسية. فالكثير من الساسة يعتمدون على دعم عشائرهم، ويستخدمونها كأداة حشد وضغط، خصوصًا في الانتخابات. وبهذا تعزز السياسة وجود العشيرة، كما تعزز العشيرة نفوذ السياسي.
وللإجابة على السؤال في بداية المقال حول ما يحدث في مدن العراق من المظاهر البدوية السقيمة والتريف، هو أن التمدن الحقيقي ليس مجرد سكن في المدن أو استخدام وسائل عصرية، بل هو تحول ثقافي وسلوكي وقيمي. كثيرًا من المدن الكبرى تضم أحياء كاملة جلبت معها أنماط العيش الريفي والعشائري، نتيجة موجات الهجرة من الريف خلال العقود الماضية. وهكذا بقيت التقاليد العشائرية راسخة، رغم تغير المكان. وفي ظل بطء القضاء أو غياب ثقة الناس به، تلجأ العائلات إلى الصلح العشائري كحل سريع وفعّال للنزاعات. وهذا يُعزز موقع العشيرة بوصفها “نظامًا قضائيًا بديلًا”، أكثر ارتباطًا بقيم الناس وأعرافهم، حتى لو لم يكن دائمًا عادلًا أو مدنيًا. لا يمكن فهم استمرار تأثير العشيرة في المدن بمعزل عن السياق الأوسع: غياب الثقة بالدولة، ضعف النظام القانوني، تآكل المشروع الوطني، وهشاشة الثقافة المدنية. العشيرة ليست فقط بقايا الماضي، بل هي أيضًا رد فعل حاضر على غياب المستقبل. وما لم تُبنَ دولة عادلة وقوية يشعر المواطن بأنها دولته، سيظل الناس يلوذون بالعشيرة، لا حبًا بها دائمًا، بل لأنها تظل في نظرهم الخيار الأقل سوءًا. وفي غياب مشروع وطني جامع، تصبح الهويات العشائرية والطائفية ملاذًا للناس لتحديد أنفسهم. العشيرة تمنح شعورًا قويًا بالانتماء والكرامة والدعم، وهو ما قد تفتقده الهوية الوطنية الضعيفة أو غير الجامعة. أما في السياسة فأن العديد من السياسيين ينتمون إلى عشائر، بل ويعتمدون عليها في التحشيد السياسي والانتخابي، وكثيرًا ما تُستخدم العشائر كقوة انتخابية منظمة، ما يكرّس دورها في الحياة العامة حتى في المراكز الحضرية. في المجتمعات المحافظة، تبقى القيم العشائرية مثل العيب، الشرف، الفزعة، والصلح مهيمنة، حتى على سلوك الأفراد المتعلمين أو “المدنيين”. حتى المدن الكبرى في العراق مثلاً تضم أحياء كاملة سكنها أصلاً عشائري، أو تم نقل أنماط الحياة الريفية إليها بفعل الهجرة من الريف إلى المدينة. النظام القضائي له دور في تكريس العرف العشائري دون القانون في المدن، وذلك بسبب بطء المحاكم أو عدم الثقة بها، يلجأ كثيرون إلى الصلح العشائري الذي يُنظر إليه على أنه أسرع، وأقل كلفة، وأقرب إلى قيم المجتمع. ليس كل من يسكن المدينة متحضّرًا بالمعنى الثقافي. فكثير من المدن الكبرى شهدت هجرة ريفية واسعة، ومعها انتقلت العادات والتقاليد العشائرية ولم يتم استبدالها بمنظومة مدنية حديثة. العشيرة تعطي مكانة واعتراف في المجتمع، وتُستدعى خصوصًا في لحظات التهديد أو النزاع أو الفخر. هذا البعد الرمزي يجعل من الصعب تخلّي الأفراد عنها حتى إن أصبحوا أكثر “تمدنًا” أو “علمنة”. بقاء تأثير العشيرة ليس دليلاً فقط على قوتها، بل أيضًا على ضعف الدولة والمجتمع المدني، وغياب منظومة قانونية عادلة وشاملة تحل محل الأعراف التقليدية. هي علامة على “تمدن ناقص”، حيث ينتقل الناس إلى المدينة لكن لا تنتقل قيم المدينة إليهم.
يقول خلدون النقيب في كتابه (في البدء كان الصراع ) “عندما يتعرض المجتمع لازمة طاحنة، أو خطر داهم نعود الى هذه الانتماءات الوشائجية التي نجد فيها الأمان والطمأنينة، أو نستعملها كأدوات لتحقيق المصالح وكسب المنافع “، ويعتقد النقيب أن المجاميع القبلية لها تأثير خطر على المجتمع لأنها تتمتع بالولاءات القوية القادرة على توجيه الجموع، لذا يتمكن ذوي النفوذ والسلطة عليها من توجيهها في مسارات بالضد من مصالح المجتمع، أما محمد جابر الأنصاري مؤلف كتاب (العرب والسياسة : أين الخلل؟)فيقول “لم تنجح الدولة العربية الحديثة، بشكل عام ،في إيجاد جو من الطمأنينة لدى أفرادها مبني على تحقيق العدالة الاجتماعية، ورعاية المواطن، وحفظ الحقوق والأمن، وتحقيق سبل المشاركة الشعبية للناس، كما أنها لم تفلح على مدى أكثر من نصف قرن في تقديم نفسها بوصفها تجربة وحدوية ناضجة يعتمد عليها الأفراد ويركنون إليها “.
خلاصة القول، لقد اجمع العديد من الباحثين على أن العشائرية مرحلة من مراحل تطور المجتمع البشري في التاريخ تسبق تكوين الشعب والأمة والدولة، تبعث فيها الحياة وتنشط في فترات ضعف الدولة والانحطاط الحضاري والانهيار الفكري لذلك فقوتها تتناسب عكسياً مع قوة الدولة. لذا فأحياء العشائرية عملية معوقة للتقدم الحضاري، وبناء المجتمع المدني وتهدد السلم الأهلي، ودورها مناقض للدولة العصرية، وتؤدي الى ظهور شريحة طفيلية من المستفيدين تشكل عبئاً على المجتمع، والعشائرية لا توجد في الدول المتقدمة بل في المجتمعات المتخلفة فقط، فهي مظهر من مظاهر التخلف الحضاري.