ربما أوصى هذا الاختيار بنزعة الاطلاق، وهذا صحيح في المجال النظري الا ان المعطيات الواقعية العملية لا تؤيد هذا الاطلاق بل تخضعه الى نسبية متعددة الاوجه، بل ان هذه نسبية تبدأ في اول تحليل لاول كلمة في العنوان: العلمانية.
اذ لا يصح التعامل معها بمعزل عن مفهوم المجتمع الدنيوي (العلماني) والدولة العلمانية (الدنيوية)، اي ان اي عنصر من هذه العناصر الثلاثة لا يوجد بمفرده في الواقع الا اذا اشترط هذا الوجود وجود العنصرين الاخرين معه. عندها فقط يصح الحكم على الحياة في وطن محدد وبين شعب معين تحت نظام مخصوص، انها حياة تتسم بعبور حاجز الدين من حيث هو علاقات وتشريع او من حيث هو طقس ومناسك وعبادات او بهما معاً.
يبدو المجتمع الدنيوي Secular Society من وجهة نظر علم الاجتماع انه المجتمع الذي يتمسك بقيم اساسية نفعية وعقلانية والذي يقبل التغيير والتجديد ويشجعهما ، ويقابل المجتمع الدنيوي هذا المجتمع التقليدي، ولكننا لا نرمي بالمجتمع التقليدي على انه مجتمع ديني كامل الاساس والتوجه الديني بل هو الذي فيه الدين مصون وموقر وان لم يكن نظام الحكم منطبقا على جميع حيثياته او منطلقاته كما لا يهتم المجتمع الدنيوي بالمقدسات والقوى الخارقة للطبيعة او بالقيم المتصلة بالتقاليد والنزعة المحافظة، فاذا سرنا مع هذا التفسير المشروط فان مجتمعاً واحداً في العالم وهو على العتبات الاولى من العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين لا يخضع لمثل هذا المفهوم عملياً، من اقصى شنغهاي مرورا بقلب بلاد المسلمين وانتهاء بسان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، ولكن اذا انطلقنا الى مفهوم الدولة العلمانية Secular State وبالمنظور الاجتماعي نفسه فانها هي التي لا ينص دستورها على دين او مذهب معين تتبعه حكومتها، ويتساوى مواطنوها على اختلاف عقائدهم الدينية في جميع الحقوق على انه قد تكون الدولة غير علمانية ومع ذلك ينص دستورها على ان المواطنين جميعاً سواء فيما يخص العقيدة امام القانون والدستور، واشتراط غياب النص على دين الدولة او مذهبها في الدستور لتأكيد علمانيتها لا يعني ان الدولة علمانية وعلمية معاً.
بل لا يعني ايضا انها علمانية فعلا وحقاً في قضية المساواة او في قضايا اخرى كثيرة اجتهدت بها لائحة حقوق الانسان المعروفة. هنا يتعين معالجة العنصر الثالث نفسه وبالمنظور الاجتماعي عينه اذ هو العلمانية Secularism اذ مع كونها النقيض اللغوي والطبيعي للدينية او للنزعة الدينية في السياسة وفي المجتمع فان ما يراه علم الاجتماع يزاوج بين امور تجاوز الدين الى التقاليد الى ان تصل الى السحر في الممارسة والتقليد، لذلك فأن علم الاجتماع يرى ان العلمانية تشمل استبدال السحر والدين معاً باشكال من الرقابة المعقولة، وهذا مفهوم يرتبط بالنشاط المنحرف في اولويات الصراع بين الكنيسة والدولة في اوربا (مارتن لوثر).
ولكن علم الاجتماع يؤكد انه في المجتمعات المسماة بالمجتمعات المقدسة تتميز جميع نواحي النشاط التي تعتبر ذات طابع اجتماعي بمظاهر سحرية ودينية تهدف الى السيطرة على البيئة الطبيعية او الاجتماعية او العالم فوق الطبيعي. ثم تحل بصفة تدريجية محل هذه الاساليب السحرية والدينية اساليب ذات صفة عقلية واساس علمي (امريكا الجنوبية على نحو خاص عند اول نشوء دولها) والتعامل بالمقابل مع النقيض اي الدولة الدينية والمجتمع الديني والظاهرة الدينية فان هذا الموضوع مطروق من زوايا متعددة، ولكن بقدر المناقضة مع العلمانية فأننا نشير الى الدين الطبيعي Natural Religion ويقصد به وجود الله سبحانه وتعالى وخلود الروح مع انتفاء الوحي والدين الوضعي Positive ويقوم على وحي الضمير والعقل (جنوب شرق آسيا). اما علم الاجتماع الديني فليس هنا موضع عرضه او مناقشته.
ان ثلاثية العناصر العلمانية تلقاء ثلاثية العناصر الدينية غير محكمة القضاء ولا متزامنة الوجود او متماكنة التأثير او الحركة على اساس نظرية الاحتمالات (3 × 3 = 9)، لان التاريخ لم يفرز هذه ولا مرة واحدة حتى الآن، بل افرز حالات تقل عن هذه الاحتمالية العليا بكثير، منذ قبل رسالة موسى وقبل رسالة عيسى وقبل رسالة الرسول الكريم محمد وبعدها خلال حياته… ثم الراشدون من بعدها مقابل الفرس والروم واقوام آسيا وافريقيا. وعلى اساس المضمون المتحقق عملياً وليس التعبير الشكلي المتولد حديثاً. ولكن العصر الحاضر بدأ يفرز احتمالات ثنائية وثلاثية حتى الخماسية والسداسية داخل الولايات المتحدة واوربا الغربية مقابل الشرق المسلم والبوذي والكونفوشيوسي ولكن لا يجب ان نخطأ وفي الولايات المتحدة والغرب الاوربي (مسيحياً) لاننا استعملنا صفة (المسلم والبوذي والكونفوشيوسي) بازاء الشرق، والسبب في ذلك هو ان العلمانية الغربية او علمانية المجتمع المسيحي صارت دولا علمانية ولم يتحول المجتمع الى مجتمع علماني فقط او لنقل ان المجتمع الغربي نصف ديني ونصف علماني لا من حيث الكم بل من حيث النوع والمستوى والاتجاه في الفرد الواحد والمجتمع كله معاً، فالمستشار الالماني السابق هلموت كول مثلا الذي قاد المانيا لاربع دورات ووحد بلاده وقاد اوربا الى التوحد يذهب الى الكنيسة بعد حادث سقوط او تحطم قطار ومقتل عدد من الالمان فيرتل الترانيم الحزينة، ولكنه لم يوقع على قرارات ذات طبيعة علمانية مناقضة لروح الديانة المسيحية.
هذا الواقع لا يلغي بالطبع وجود نهايتي او طرفين الاصولي او الالحادي في المجتمع الذي صار نصف علماني ونصف ديني تحت دولة علمانية مطلعة بتأثير السياسة والمجال الحيوي الاقتصادي والسياسي لكل من هذه الامم، اما الشرق (المثلث) فأنه لم يتحول الى دول علمانية ولا يبدو انه سيتحول في المستقبل المنظور في الاقل، ولكنه لم يعد دولا دينية بل عاد بعض اخطاره الى تجربة الدولة الدينية، ورغم اللجوء الى قانون (الغاية تبرر الوسيلة) فان النجاح الذي تحقق في بعض هذه البلدان جعل الكلفة المدفوعة اضعاف الفائدة المتحققة مع تعذر تحقيق الاجماع الداخلي على المستوى المعقول او الدرجة المقبولة لان التدرج (من الاقصى الى الاقصى) موجود في كل بلدان العالم المعاصر، وان التحول من جهة اليمين صوب اليسار هو كالتحول من جهة اليسار صوب اليمين، فدساتير هذه الدول تقول انها دول تؤمن بالدين وتسمي الدين ديناً لها ثم تؤكد المساواة وبالمقابل فان الدولة الدينية هي غير الدولة التي يشير دستورها الى دينها فقط. انما تمارس الدين طقوسا واجراءات وفق تصور مذهبي مصنف، وبهذا تخسر الصنوف الاخرى من التمذهب قبل الاستيلاء على السلطة او بعده (ايران مثلاً) اي ان تعبير الدولة الدينية لم يعد كذلك على المعنى الشامل لمفهوم الدين بل على المعنى الضيق الذي يراد منه ان يتسع ليصير ديناً جديداً، من هنا فان حالة الصدام (دين × دين) متاحة في داخل الدين الواحد (العراق ،سوريا،تونس،مصر)، وان حالة الصدام متاحة في حالة (الدين × العلمانية) او (الدين × الدولة) كما في الجزائر ووسط آسيا ولكن هذا لا يعني ان العلمانية بوصفها دولة او مجتمعاً او ظاهرة قد حققت لاهلها الاستقرار فهذا تصور مغلوط تماماً، لان العلمانية التي اقصت القيم الدينية الاخلاقية الراسخة عن طريقها كما اقصت الطقوس الدينية وتأثير رجالها ومبشريها والقائمين عليها لم تعوض ما فقدته بقيم جديدة بمستواها او مثلها ولا حتى بالذي يقرب منها، بل تركت كل ذلك تحت مظلة المنظور المتخلف وركبت مركب المصلحة الخاصة اولا حتى لو كان الطريق الى تحقيق هذه المصلحة هو الحرب الدموية او المنافسة الاقتصادية الحادة او الدعاية السياسية الكاذبة، اي انها نهاية نشاط الدولة او المجتمع او الفرد في عالم اليوم ومهما كان التموضع بين العلمانية والدينية هي انها سياسية صرف واجتماعية مرتبطة بها او هي اجتماعية صرف وسياسية متعلقة بها على نحو متبادل التأثير في الدولة الواحدة وباحتمالات غير متحققة على نحو جمعي بل على نحو ثنائي او ثلاثي او رباعي في الغالب الأعم في قارات العالم الخمس وصدق الله العظيم القائل (وما كان الناس الا امة واحدة فاختلفوا، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) سورة يونس.
• للاستزادة راجع دراستنا – جدليات الصراع والتوافق الديني/ السياسي حول الموقف من العلمانية، المنشورة في موقع كتابات السبت 7/9/ 2013.