لم يصل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس يوم الثلاثاء الماضي إلى مقديشو، العاصمة الصومالية، لتقديم التهنئة لرئيس الوزراء الجديد، بل ليوجه للعالم نداء بأن عليه أن يتحرك وبسرعة، فالناس يموتون هناك ومسار الموت أمامهم مستمر.
موجات من الجفاف ضربت الصومال بسبب انحباس هطول المطر، فزحف الجفاف وجلب معه مجاعة شاملة، يمكن أن تؤدي إلى تكرار ما حدث عام 2011 عندما سقط 250 ألف صومالي موتى من الجوع.
الأزمة الإنسانية في الصومال لن تبقى محصورة بالتسبب في موت الصوماليين، بل يمكن أن يتردد صداها أمنياً، فالنزوح الداخلي والانهيار الاقتصادي يهددان بزعزعة استقرار الحكومة الجديدة، وهذا بدوره يوفر فرصة جديدة لـ«حركة الشباب» المتطرفة لتنتقم من الهزائم التي منيت بها على أيدي قوات الاتحاد الأفريقي العاملة هناك.
عام 2011 وصلت المساعدات الدولية متأخرة جداً، وعندما أعلن رسمياً عن حدوث المجاعة كان أكثر من نصف الـ250 ألفاً الذين ماتوا، قد أغمضوا أعينهم للمرة الأخيرة، لكن هذه المرة يجب تجنب وقوع الكارثة الإنسانية إذ دُق ناقوس الخطر. والوقت، حتى وإن بدأ يضيق، يسمح بتجنب كارثة فظيعة كتلك التي حدثت.
بعد ثلاث سنوات من عدم هطول الأمطار في شمال الصومال، نقصت كثيراً إمدادات الغذاء والمياه، وقضى الجفاف على مساحات واسعة من أراضي الرعي، مما تسبب في نفوق الآلاف من رؤوس الإبل والماعز، وهي الماشية التي يعتمد عليها السكان المحليون للبقاء على قيد الحياة.
حسب التقديرات المحلية في بونتلاند، هناك خسائر بنسبة 65 في المائة من مجموع الثروة الحيوانية التي ترعى، كما أن هناك تقارير عن هجرات داخلية جماعية، حيث يرحل الرجال بحثاً عن أراضي أفضل للرعي، وحيث النساء والأطفال يهاجرون إلى المدن الكبيرة. وتشهد العاصمة مقديشو أكبر تدفق؛ إذ يصلها يومياً، حسب أحد التقارير، 7 آلاف شخص يتجهون مع أطفالهم المرضى إلى مراكز التغذية فيها.
من المؤكد أن النزوح الداخلي يضغط كثيراً على الموارد المحلية، وقد يدفع، إذا ما اشتد وتأزم، إلى صراع بين القبائل، أي بين السكان المحليين والوافدين الجدد.
وفقاً للأمم المتحدة، هناك الآن 6 ملايين إنسان في حاجة إلى المساعدات الإنسانية، أي أكثر من نصف سكان الصومال. وكان جفاف الأمطار قد أدى إلى انتشار الأوبئة التي تنقلها المياه الآسنة، مثل الكوليرا وحالات الإسهال.
من ناحيتها، فإن «حركة الشباب» على تراجع، لكنها لم تنهزم، وهي تصعّب على الوكالات الدولية للإغاثة الوصول إلى الأماكن الريفية النائية، وكان قد لوحظ أن الحركة شهدت نوعاً من تجدد «النشاط» العام الماضي، فهاجمت مقرات وقواعد الوحدات الأفريقية، وشنت غارات إرهابية على العاصمة، وخصوصاً الفنادق التي يستخدمها السياسيون والدبلوماسيون الزائرون.
لكن، رغم هذه المعاناة الشديدة الوطأة، بدأ يبزغ فجر سياسي جديد، لم يشتد عوده حتى الآن، ولهذا تأتي المجاعة والجفاف في أسوأ الظروف على الدولة الصومالية. جلبت الانتخابات التي جرت أوائل الشهر الماضي أول انتقال سلمي للسلطة منذ عام 1960. وبكل قناعة تقبل الرئيس الحالي حسن شيخ محمود الانتصار المذهل لرئيس وزراء سابق محمد عبد الله محمد.
ويمكن القول إن البرلمان الصومالي الآن شاب ومتنوع الانتماءات، وثلث النواب يحملون جنسيات مزدوجة، وبفضل نظام الحصص المعقد، فإن كل القبائل المختلفة ممثلة في هذا البرلمان. لكن الحكومة الجديدة لن تستطيع الانصراف إلى العمل مثل باقي الحكومات في الدول الأخرى؛ لأنه لا تزال هناك حاجة ماسة لبناء دولة في الصومال، ثم إن هذه الانتخابات جرت بتصويت غير مباشر للنواب، بسبب تهديدات «حركة الشباب»، ولأنه ليست هناك حتى الآن هيكلية لمؤسسة ما قادرة على إجراء انتخابات رئاسية، كذلك فإن هيكلية مؤسسات أخرى لا وجود لها بعد. كما أن وضع قوات الأمن الصومالية، لا يزال في حالة من الفوضى، أما الجيش الصومالي فيعشش فيه الفساد، وتدريبه ليس كافياً، ويعاني من نقص في المعدات، ومطلوب منه في الوقت نفسه شن حرب عصابات ضد «حركة الشباب»، وتفاقمت الضغوط عليه الآن لمواجهة الحالات الأمنية الطارئة الناتجة من الهجرات الداخلية الواسعة النطاق. من هنا الحاجة للقوات الأفريقية، التي ستكون حجر الأساس لنجاح الحكومة الجديدة.
عام 2010 عندما اجتاحت المجاعة الصومال، كانت «حركة الشباب» على وشك احتلال البلاد كلها، وتثبيت حكمها، فجاء نشر القوات الأفريقية ليغير ذلك الواقع، ذلك أنها اعتمدت قواعد اشتباك أكثر صرامة، وبالتعاون مع الجيشين الصومالي والكيني، تمكنت قوات الاتحاد الأفريقي من طرد «حركة الشباب» من المدن الصومالية الكبرى نحو الريف الجنوبي، حيث لا تزال حتى اليوم في وضع ضعيف، لكنه خطير.
هناك 22 ألف جندي أفريقي يشكلون الثقل الأمني في الصومال، لكن أوغندا، وبوروندي، وكينيا، وجيبوتي، وإثيوبيا، التي توفر هذه القوات، بدأت تفقد قابلية البقاء، خصوصاً أن المجموعة الأوروبية قلصت تمويلها لهذه القوات بنسبة 20 في المائة في أواخر العام الماضي، مما يبعث على القلق بأن نسبة مشاركتها في الدفاع عن أمن الصومال قد تخف مع اقتراب بدء انسحابها عام 2018، مما سيضع كثيراً من الضغط على الجيش النظامي الذي يعاني من الفساد ويفتقد إلى قدرة عملياتية خارج حدود مقديشو.
يقول محدثي الذي هو بصدد وضع تقرير عن حالة الصومال الأمنية، إن سلطات الحكومة محصورة في مقديشو، إذ لا تملك السلطة أو المؤسسات التي تسمح لها بالتمدد إلى الأرياف لتثني السكان عن التعاطف مع «حركة الشباب».
ويحذر من عدم معالجة أوضاع الصومال بجدية؛ لأنه ستكون له اعتبارات جيو – سياسية، إذ يحتل الصومال موقعاً استراتيجياً رئيسياً في منطقة القرن الأفريقي، وبالتالي يؤثر الاستقرار فيه على الحرب المستمرة ضد التطرف الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط، كما يؤثر على استقرار دول مجاورة «بعضها حليف رئيسي للولايات المتحدة».
ويلفت إلى أن الجوع والفراغ الأمني يمكن أن يؤديا إلى تجدد عمليات القرصنة في خليج عدن، التي منذ عام 2010 تقلصت بشكل كبير بسبب دوريات البحرية الدولية، والتعديلات الأمنية على السفن التي تعبر الخليج، ووجود حراس مسلحين على متنها.
كما يشير إلى أن المواجهات مع «حركة الشباب» امتدت إلى كينيا سابقاً، ويمكن أن تتجدد الآن، وكانت العملية الإرهابية على مجمع «وست غيت» التجاري عام 2013 واحدة من أكبر العمليات التي قامت بها «حركة الشباب»، كما أن هناك احتمال المواجهات داخل الصومال، إذا ما عبرت قوات كينية الحدود من أجل إبعاد الأخطار الإرهابية عن أراضيها. ويمكن للوضع المعقد في الصومال أن يؤدي إلى مناوشات على الحدود الإثيوبية – الصومالية، وللبلدين تاريخ متشابك طويل. وكانت إثيوبيا قد غزت الصومال عام 2006 لإسقاط حكومة «اتحاد المحاكم الإسلامية» وذلك بطلب من الولايات المتحدة.
إن «دولة الخلافة الإسلامية» المزعومة التي ظنّ تنظيم داعش أنه أقامها، بدأت تترنح في سوريا والعراق، وبدأ مقاتلوها الأجانب يهربون، إما عائدين إلى أوطانهم، أو بحثاً عن جبهات قتال أخرى ضد من يسمونهم «الكفار». ومن المعروف أن هؤلاء يبحثون عن مساحات تعشش فيها الفوضى ويسيطر عليها الفراغ الأمني. وقد رأينا ذلك في أفغانستان وليبيا. ويمكن لهؤلاء أن يشدهم الصومال مجدداً، فتسترجع «حركة الشباب» ولو لبعض الوقت شبابها. إذا كان العالم قد ضجر من قصص الأطفال الذين تنطفئ عيونهم، وتعب من روايات الأمهات الثكالى اللواتي ابتلعت الصحارى أولادهم، ولا يهمه جفاف ملأته حيوانات نفقت، إلا أنه يهتم وبخوف على مصالحه ويخاف من الإرهاب.
الصومال دولة منسية، غاصت في الحروب، لكن الجفاف الذي يجر الأمراض والمجاعة والموت، لا يفقدها موقعها الاستراتيجي. وكي تنجح الحرب العالمية على الإرهاب، تحتاج إلى حياة على الأرض تكافحه.
*نقلا عن صحيفة “الشرق الأوسط”.