23 ديسمبر، 2024 1:53 ص

المثقّفون في تونس: أيّ دور، أيّ رهان؟

المثقّفون في تونس: أيّ دور، أيّ رهان؟

أحلام المثقّف وكوابيسه
شهدت الساحة الثقافية في تونس تحوّلا هائلا منذ اندلاع الثورة، تجلّى ذلك في تعدّد الخطابات واختلاف زوايا النظر، وإن لم يرتقِ ذلك إلى مستوى الانتظارات الحقيقية، حيث لم يواكب الحدث فعلٌ ثقافي مؤثّر في مستوى الحراك العام الذي شهده بلدنا. فما يلوح جليّا ارتهان المثقّف إلى لوثة السياسة الطاغية على مخياله وهو عائق فعلي، جراء حساسية اليومي الذي يعيشه التونسي. حيث يعجز المثقف عن التسامي بتأملاته، وإبداعه، وإنتاجه المعرفي عن مؤثرات السياسة المباشرة. ناهيك عن تجذّر إرث سابق، مؤسساتي وسلوكي، ما فتئ يحول دون تشكيل خطاب ثقافي نهضوي: يتعالى من جهة عن الشّللية المقيتة السائدة في أوساط المثقّفين، ويتحرر من أوهام النظر المهجوسة بالتصور الغربي، ومن ثمَّ بالخلاص المصنَّع في الخارج، ومن جهة أخرى يكفّ عن التكسّب بالعمل الثقافي من هذ الحزب أو ذاك. الأمر الذي حوّل المثقف إلى داعية إيديولوجي منساق ضمن موجة انجذاب عام، وهو مناخ صعب يحول دون خلق حراك ثقافي جماعي يسند التحولات المجتمعية والسياسية لبلدنا. إضافة إلى ذلك تنتشر عوائد مقيتة بين شرائح العاملين في قطاعيْ الثقافة والمعرفة، على غرار “التقاعد الفعلي المبكّر” للأكاديميين والعاملين في الحقل الثقافي، وانتهائهم عن ترشيد الحراك المجتمعي واستبداله بانخراط في جوقة الأدْلجة المجانية للناس، والتحريض المجاني على هذا الطرف أو ذاك مع انحدار بالخطاب الثقافي بدل التسامي به.
لكن في ظلّ شرط الحرية المتاح في الفضاء التونسي في الراهن الحالي، هل بإمكان المثقف اقتراح تصحيح المسارات الكبرى، أو بناء رؤية ثقافية جديدة مع الذات ومع العالم، تُرمّم الكيان الثقافي المهشَّم وتُخرج الفعل الثقافي من السلبية والعبثية إلى الحضور والالتزام؟
لا مراء إن كان المثقّف لا يولد بين ليلة وضحاها، فإنّ الثقافةَ بالمثل لا تُصنَّع تصنيعا عاجلا، بل تقتضي تراكما. مع ذلك يتساءل الناس، وربما حتى المثقّفين المستعجِلين: أين ثقافة الثورة؟ أو ثقافة ما بعد الثورة؟ الواقع أن تونس ما كانت حقلا ثقافيا خصبا قبل الثورة، بل كانت سجنا هائلا. كانت قدرات المثقف حبيسة ومجمَّدة. وحتى مثقّف السلطة ما كان طليقا، كان مسكونا بالحيطة والحذر أيضا، ويندر أن تجد مثقّفا تابعا كان مقتنعا بخطاب السلطة. حتى من أجبرتهم الأوضاع على الأكل من مائدة المتنفّذين كانوا على قلق هائل. كنتُ أعرف ثلّة من مثقّفي السلطة، لمّا أعود إلى تونس كانوا يبثّون لي أوجاعهم ويشكون لي آلامهم، ليَخلُصوا إلى أن الحل يتمثّل في خلاص فردي وهو التوق إلى الهجرة. حتى لَيُمكن القول إنّ كثيرا من المثقفين كانوا يُؤْثِرون المنفى مع أنهم يعيشون داخل وطنهم. فقد كانت العلاقة بين شريحة هامة من العاملين في حقل الثقافة في تونس والدكتاتورية قائمة في مجملها على زبونية رخيصة. والملاحظ أن الدكتاتورية حين تتحكم بالمثقف لا ينحصر أثرها السلبي بمرحلة، بل يمتدّ الأثر إلى السابق بأثر رجعي، من خلال تدمير الذاكرة الحيّة والجامدة (إلى الآثار المادية والنصوص والأعمال الفنية)، وإلى اللاحق من خلال ما تُخلِّفه من عاهات مثل الانتهازية واللامبدئية والوصولية وانعدام الخُلق.
خواطر ثقافية على هامش الثورة
بعد هذا التوصيف للأوضاع قبل الثورة، أعود إلى علاقة المثقف التونسي بالثورة من خلال بعض المشاهد:
– ثمة رأي شائع عند التطرّق للحديث عن الثورة التونسية، وأجزم أنه خاطئ، مفاده أن الثورة اندلعت بدون قيادة، وبدون سياسة، ومن ثمة بدون ثقافة… الواقع أن حالة “البدون” هذه أو حالة الخواء، سلبية ولا تُولّد إلا السكون. لذلك تبدو سوسيولوجيا الثقافة مدعوة بإلحاح لإخراج الحدث الثوري من حيز التبسيط والابتذال والتسطيح للإجابة عن سؤال: من أين تدفّقت الثورة وأيّ جداول غذّتها؟
– أَذكر اليوم الذي خابرتني فيه الزميلة الإيطالية إيزابيلا كاميرا دافليتو وهي خاسئة حسيرة، على إثر زيارتها للملحق الثقافي في قنصليتنا العتيدة في روما، قبل الثورة، بعد أن كانت تظن أنها ستزفّ إليه بشرى سارة بترجمة رواية “دار الباشا” للكاتب التونسي حسن نصر. لم يعبأ بها أحد لا الملحق، ولا القنصل، ولا جميع المخبرين، ممن كانت تعجّ بهم القنصلية حينها. من يومها شرّقت كبيرة المترجمين الإيطاليين بعد أن همّت أن تُغرّب. وتأكّد لديها أن تونس قد تحولت إلى مستنقع آسن. غير أنها بعد الثورة عاودها الحنين إلى تونس، فما فتئ الشابّي يغويها بالترجمة. من هذا الباب حريّ أن نمتن علاقات تونس الجديدة بالنافذين في مجال الفكر والأدب والترجمة في العالم، إن كنّا نريد خيرا لثقافتنا.
– كثير من الكتّاب التونسيين يُلحّون عليّ لترجمة أعمالهم إلى الإيطالية، أو التوسّط لتزكيتها لدى من يعمل في المجال في إيطاليا، إلى درجة الاستجداء الفاضح الذي لا يليق بالمبدع. في الحقيقة أنا لا أترجم إلاّ لمن كنتُ على يقين أنه صادق مع شعبه زاهد مع نفسه، ولذلك سبق لي أن عكفت على ترجمة “المرائي والمراقي” إلى الإيطالية للشاعر التونسي محمّد الخالدي وغيره. فقد رأيت أن الرجل نطق بالشهادة حين جحدها كثيرون، “وقال لي: سيُحرقُ المصْحفُ في رابعةِ النّهار /ويفْجُر الملوك في الكبار والصغارِ. وقال لي: لا تكترِثْ فآيةُ القيامه /يصير كل مسجدٍ مبولَةً /وكلُّ مُصْحفٍ قُمامه. (القصيدة منشورة في مطلع تسعينيات القرن الماضي ضمن ديوانه المشار إليه).
كما أنّ من قناعتي ألا أزكّي نصّا ليُنقل إلى الإيطالية إلا متى رأيت فيه ألَقًا يليق بتمثيله فكرنا أو شِعرنا أو أدبنا… فكيف أروّج لنصوص خدم أصحابها السلطان السابق أو السلطان الأسبق، والحال أنّ هناك ملْحَ الثورة، شعراء وكتّابا ثوريين قبل الثورة!؟. فمن المعيب أن يصير الأوائل أواخر والأواخر أوائل.
لم أستح يوما لأني تونسي مثلما استحيت يوم جاءني طلاب إيطاليون من كلية الدراسات الشرقية في روما ليرووا لي عن إقامتهم صيفا في بلدي. همسوا: قصدنا تونس لتعلّم العربية فتعلّمنا الفرنسية! وَجِلتُ من هول النكبة. إذ جُلّ من ينزل بتونس للدراسة يكنّ احتراما لـ”معهد بورقيبة للغات الحية” ويثني على تلك المؤسسة. لكن السواد الأعظم منهم يحتقر الشارع التونسي لأنّ فيه تلوّثا لغويا مشينا، حتى ليهزأ المستعرِبون الإيطاليون من التونسيين أكثر مما يمتدحونهم.
لم تتسيّس الثقافة في البلاد العربية مثلما تسيّست في تونس. أُلصقت برموزها النعوت المغرضة وغاب التقييم الحقيقي للنصوص واستعيض عنه بحكم إيديولوجي رخيص. قال لي الروائي التونسي الحبيب السالمي حين التقينا في روما (قبل الثورة): في تونس جوائز وملتقيات وأعمال على قدر عقول أهلها. في ظلّ ذلك الارتباك اصطنع النظام أوثانه، التي تَوهَّم في تصديرها خارجا أن تلقى قبولا حسنا. لذا أنصحُ بالاستئناس بخبراء الذائقة الأجنبية قبل خوض غمار التصدير حتى لا تُولد المشاريع ميّتة.
في السياسة يمكن أن يخادع المرء ولا يفطن به الناس، ولكن في الثقافة، مثل النبوة، حين يخادع المرء سرعان ما يُفضح أمره. هذا التشخيص ينطبق على كثير من مدّعي الثقافة في تونس قبل الثورة. ففي ما مضى أغوى النظام الغارب كثيرا من العاملين في الحقل بالانضمام إلى جوقة كلاب الحراسة، ومن أبى زُجّ به في عالم التهميش والعزل قهرا وعنوة، ليكون في زمرة السائحين الهائمين. أذكر كلمة للروائي حسن بن عثمان، عشية الثورة: “أن النظام جرّ الجميع إلى المستنقع، تورّط وورّط معه معشر المثقفين، حتى إذا لُعنَ لُعنوا وإذا سُبّ غضبوا له”.
يسألني كثير من الباحثين والدّارسين الإيطاليين عن الفكر التونسي المتوراي خلف الثورة؟ فأجيب كان شفّافا ولا يزال أهله مهمَّشين. هؤلاء مثقفون زهاد، ولكن في تونس ثمة تعاملا مع المثقفين، قبل الثورة وبعدها، بمثابة خراف بيت إسرائيل الضالة.
الثقافة والطغيان
في تسعينيات القرن الماضي، وفي غمرة الأجواء المشحونة بالتوتر السياسي، لمّا أحكم الطغيان حصاره على تونس، تخلّى شقٌّ واسع من المثقّفين عن أدوارهم وانخرطوا في آلة القمع الغاشمة: فكان أن كوفئ البعض منهم بمهام الوزارات والسفارات، وآخرون بالتصعيد إلى البرلمان، وغيرهم بتوكيلهم شأن المنابر العلمية والإعلامية والأكاديمية، على أن ينضمّ من قَبِل العطية إلى جوقة العمل من أجل اجتثاث كل نفس ديني وعروبي ووطني من التونسيين، بدعوى قطع دابر الإسلاميين؛ ولكن مقابل ما أُجزل للمثقفين العائمين من وافر العطاء، انتَزَع وكيل نعمتهم منهم مبادئَهم، وصادر فيهم ما تبقّى من كرامتهم. مما حوّلهم إلى خصيان في حضرة السلطان، وإلى كلاب حراسة شرسة تذود عن حياضه. قلّة قليلة من الطائفة العالمة، التي تربّينا على تقديسها وإجلالها، امتزج لديها العمل الثقافي بالنّبل الأخلاقي خلال تلك الفتنة، وتعففت عن الإغراءات ولم تأبه للتهديدات.
أثناء تلك المحنة التي أَلمّت بالمثقف التونسي، من لم يَلُذ بالتقيّة لاذ بالصمت، ظنا أنه الخندق الحامي الذي تبقّى؛ لكن سرعان ما تبيّن أنّ الصمتَ ليس ملجأً فهو مقام واهن كبيت العنكبوت. فراودت الهجرة وقتئذ كثيرا من المثقفين والإعلاميين والأكاديميين، إلاّ من أقعدته الحيلة وقنع بما رماه به الدهر. كنت شابا في مقتبل العمر حينها، تركت تونس ويممت وجهي شطر روما، عقب عشر عجاف مُنعت خلالها حقّ العمل وحق السفر، لكن “قلبي كان على وطني”. ذلك أني لا أجد توصيفا لكربلاء المثقّف التونسي في عهد النظام الآفل، المثقف الذي أبى أن ينحاز إلى صف الرذيلة، أبلغ من قول المسيح (ع) في إنجيله: “سيُخرجونكم من المجامع بل تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدّم خدمة لله”.
ونحن ننفض غبار السنين عنّا، نفطن كل يوم أن الثقافة الموبوءة التي بُثّت فينا طيلة عقود، لم تذهب أدراج الرياح مع انهيار النظام الآفل، بل عشّشت في قلوبنا حتى حورت أفهامنا وبدّلت أذواقنا. خلّفَ فاسد الأجواء مرضا عضالا استحكم بوعي المثقف ولا وعيه، متمثلا في صراع يحسبه المرء أبديا بين الديني واللاديني، والحقيقة أن الصراع في الأرض وليس بين السماء والأرض؛ وبالمثل خلّف فاسد الأجواء وهْمًا موغلا لدى المثقف أنه في قلب الثقافة الكونية والحال أنه على هامشها، جراء الاغتراب الفكري المستحكم بعقول الناس.
خمسون عاما ونيف وإعلامنا المصادَر يضخّ عقلنا المحاصَر ببذيء الكلام وسافل القول، مما أورثنا زعزعة في الهوية وعجمة في اللسان. وما زالت الصحافة الباهتة والإعلام الهابط مستمرين في صنيعهما، يُذهبان العقل ويميتان الروح ويصنعان البهتان، حتى بعد الثورة، لذلك كلما تصفحتُ الصحف وتابعت الشاشات، أتأكد أن الثورة الثقافية ما زالت مؤجلة وتنتظر يومها الموعود.
الثقافة التونسية اليوم تراوح في مكانها، تحنّ إلى بطاركتها الذين تمّ سبكهم في فرن النظام السابق. وما فتئت تطلب من سحرتها الهديَ والهدايةَ وقد سبق أن أضلّوها السبيل. إذ ثمة شغف بـ”الأوليائية” الزائفة في الوعي الثقافي التونسي الحالي، حيث البحث عن استعادة دهاقنة الشعر والرواية والدين والفن، ومن لفّ لفّهم، وإعلائهم إلى مصاف المراجع والأعلام، في الاقتصاد والاعتقاد، وفي شأن البلاد والعباد، وهو خطأ جسيم. فلا خلاص لعقلنا إلا بحركة نقدية جادة تخلصنا من الأساطير.
حصلت ثورة سياسية في تونس، لكن الثقافة لا تزال في قبضة الأنبياء الكذبة. لا أقول حقيقة ولكن أعرِض واقعا: صعبٌ قتل الثعابين الطاعنة، لأن الثورة التونسية الوليدة ليس لها أعلامٌ حتى نقول للناس بأيّهم اقتديتم اهتديتم. فقد دنّس النظام الآفل الماء والهواء، وأضر بالعاملين في مؤسساته والخارجين عنها، وقليل منهم من لم يشرب من مياهه الآسنة.
أحزابنا الثورية والديمقراطية والليبرالية والإسلامية أيضا، وعلى كثرتها، هي لا تراهن على الثقافة ولا تبالي بالمثقفين، ليس نكاية بالعاملين في هذا القطاع، ولكن لسبب بسيط وهو افتقارها إلى فلسفة ثقافية في بنيتها التأسيسية. جراء ذلك يبقى جانب كبير من الفوضى العارمة، ومن جدلنا المحتدم بلا معنى ولا مبنى، متأتيا من افتقارنا إلى خلفية ثقافية، وهو ما يزيد من خشيتي على “ثورة الكرامة” في تونس. فأية ثورة تفتقر إلى أفق معرفي رحب تبقى مهددة بالانتكاس، وكل ثورة لا تصحبها ثقافة تفصح عن هويتها وتترجم قيمها، تبقى مرشحة للتحول إلى حيرة.
4- المثقّف يأبى الإلغاء
بقدر ما مثّلت “البنعلية” تهشيما وتهميشا لكيان المثقف، مثّلت حقبة ما بعد الثورة فترة مراجعة كبرى داخل الثقافة التونسية. في الحقيقة لم ينزو المثقف، ولم يهجر الساحة، ولم يلذ بالصمت، بل اللحظة هي فترة تأمل، يتساءل فيها عن سُبل الخلاص. بدا سعي مثقف ما بعد الثورة إلى إنشاء فضاء جديد للفعل محتشما في البدء. اقتضت المراجعات حذرا من الأيديولوجيات الشمولية ومن الدعاوى السياسية الخلاصية. كان ذلك المناخ الجديد يسير باتجاه رسم خارطة مغايرة للفعل الثقافي، تتلخص تضاريسها في تطوير ما أُطلِقُ عليه “المثقف العمومي”، الذي لا يلعب فيه المثقف دور كلب الحراسة الثقافي، المدرَّب على مهمته، بل دور المؤمن بوظيفته الوجودية التي ترفض الانهيار الخُلقي والقيمي، وتعارض الإلغاء لوجوده. لم يعد المثقف موظفا في خدمة الغير بل مشغولا بقضاياه. إذ داخل عملية التوليد هذه كانت المحاولة لنزع الطابع المؤدلَج الذي طغى على المثقف وألحقه زورا بهذا الصف أو ذاك، والسعي للعودة إلى المهمة البدئية الأصلية، بعيدا عن أي منزع نبوي تفسيري له، بل بتأكيد دوره النقدي، والإلحاح على حياد نشاطه المعرفي. فليس المثقف ذلك الكائن المتموضع خارج شروطه الاجتماعية، بل هو امرؤ فاعل ضمن نسيج اجتماعي أوسع، يرفض التهميش والإلغاء، واختزال دوره في تدبيج العرائض المناهضة أو المناصرة لهذا الطرف أو ذاك، باعتباره قتلا رحيما للمثقف، يخلي الساحة للمتلاعبين بالعقول.
يقول الأديب الإيطالي إرمانو ريا: “لا يمكن الحديث عن التزام المثقف حين يكون معزولا عن الجماعة”. فالمثقف الملتزم هو بإيجاز مواطنٌ مسؤولٌ، يجسّد أعلى مراتب المسؤولية. والمثقف ليس ذلك الذي يهتم بقضايا مفارقة مطلقة، بل هو كائن اجتماعي يشغله الراهن وينتابه قلق على مصيره. وخَلْق المجتمع المستنير ليس فحسب بمقاومة الرقابة والوصاية على عقول الناس، بل بمقاومة الانعزال وكسر الطوق الذي يضربه كثير من “المثقفين” المؤجَّلين على أنفسهم، بالخروج من المكتب والفصل والمدرسة والجامعة، لمجابهة اللامعقول واللاقيمي واللامنطقي المستشري.
كان الإيطالي أنطونيو غرامشي قد دعا إلى إصلاح عقلي وخُلقي ضمن خطوة أولى لبلوغ ما يصبو إليه المثقف العضوي، وهو محق في ذلك. فقد أُفرغت الثقافة في تونس طيلة عقود سابقة، من دلالاتها الحقيقية وتحوّلت إلى كمّ من الحشو الأنثروبولوجي، خليط من الفضائل والرذائل، من المعرفة والجهل، من العقل والدجل. وهو ما انعكس على المثقف، ما عاد ذلك الفاعل بل ذلك المحمَّل بالأثقال المعرفية والديماغوجية. وباختصار تحولت الثقافة من قيمة إلى بضاعة، وتحول المثقفون من صنّاع التحول إلى “أقلية” خائرة سائرة نحو الانقراض. تَرافق ذلك مع هجمة عنيفة على المثقف النقدي بهدف إلجامه وتقليص مهامه. فضلا عن التشكيك المتواصل في قدراته، بهدف بثّ الوهن فيه وتحويله إلى موظّف مكتبي وتقني. والحال أن المثقف بطبيعته لصيق بالاجتماع البشري، فهو ليس نتاج أزمة أو إفراز ظرفية تاريخية؛ بل هو حضور دائم في المجتمع.