23 ديسمبر، 2024 8:24 م

المثقف ونقد الثورة

المثقف ونقد الثورة

حين تنضج عوامل التغيير موضوعياً، لا سيّما عبر التراكم الطويل، وتتوفر الشروط الذاتية تكون اللحظة الثورية قد اكتملت، بمعنى أصبح التعبير عنها “لحظة حرّة” لا يمكن تقنينها أو احتواؤها، وبهذا المعنى ستكون فعلاً تاريخياً بامتياز، خصوصاً حينما تندفع كتلاً بشرية ومجموعات سكانية متجرّدة من كل شيء، غير هيّابة بحياتها، واضعة كرامتها فوق كل اعتبار .

إن التضحية بالنفس من أجل طلب التغيير الذي لم يعد يحتمل التأجيل، هي فاصل تاريخي انتقالي جسره الموصول هو اللحظة الحرّة للانتقال من حال إلى حال، ومن وضعية إلى أخرى، وتلك هي في الوقت نفسه لحظة استجماع غير مسبوقة ولا يمكن أن تتكرر كل يوم لتحرّك جماعي لا يكتمل أو يتبلور بسهولة، بل إن ظروفه تنضج بعد معاناة طويلة، لكن اكتماله سيؤدي إلى انقلاب الأوضاع وإطاحة الشرعية القائمة لإحلال شرعية جديدة مكانها .

ولعلّ حدثاً بهذا الوزن والحجم سيوقع الكثير من الناس، بمن فيهم بعض المثقفين، في حيرة وذهول، وربما أكثر من غيرهم بفعل حساسياتهم، لأنهم لم يكونوا يتوقعون حدوث ما حدث، لهذا ينظر بعضهم إلى الثورة لا باعتبارها عملاً تغييرياً ورفضاً للواقع وانقلاباً عليه، وإنما فعل عشوائي أو عمل اعتباطي، لزمرٍ خارجة عن القانون أو لرعاع لا همّ لهم سوى التدمير، أو لمجاميع دينية أو مذهبية تريد استنطاق التاريخ والاستقواء به مدفوعة بشهوة الحكم بزعم العودة إلى الأصول .

وللتدليل على مثل هذه التنظيرات أو الذرائع تستحضر أعمال العنف والانفلات الأمني، وما يصاحبهما من مظاهر نهب وسرقة وتجاوز على المال العام، وغير ذلك من أعمال “البلطجة”، التي تخلّلت الثورات أو أعقبتها .

ويذهب أصحاب مثل هذه التوجهات إلى التشكيك بقيم الثورة ذاتها أحياناً، خصوصاً إن أية ثورة حقيقية لن تكون ثورة من دون قيم، بل هي بحد ذاتها عمل قيمي، وما من إنسان سوي ويؤمن بالعدالة، ينكر مثل هذه الفضيلة، لهذا فإن نقد الثورة، ولا سيما ما صاحبها من أعمال شغب أو فوضى، إنما هو الآخر عمل قيمي، خصوصاً أن مهمة المثقف هي نقد الواقع، والاّ كيف يجوز لمثقف معاداة التغيير أو السكوت عن الظلم أو الاستكانة له أو تبريره؟ وإن فعل ذلك فقد تنازل عن ثقافته وهويته النقدية، لكن المثقف لكي يكون مثقفاً تنويرياً وتغييرياً لا بدّ له من تسخير وسيلته الإبداعية وأدواته المعرفية من أجل التغيير، إذ لا يكفي وقوفه إلى جانبه، بل لا بدّ من المساهمة فيه ونقده، ومن يريد الحفاظ على ما هو قائم من قيم تتعارض مع الحرية ومبادئ المساواة واحترام الحقوق والحريات، يمكن أن يكون مثقفاً، لكنه سيكون مثقفاً تقليدياً بمعنى يؤمن ويدافع عن التقاليد والعادات السائدة لأنها تخدم مصالحه، أو يستكين لها لأنه غير قادر على مقاومتها .

بعض المثقفين نظر إلى حركة الثورة والتغيير في العالم العربي باعتبارها مؤامرة مشبوهة أو عملاً مريباً مصنوعاً في الخارج، ولعلّ بعض هؤلاء استسلم لاعتقاده أن ما هو قائم سيبقى زمناً طويلاً، أو أن بعضهم بحجة الحياد وكونه مثقفاً تكنوقراطياً أو بزعم العقلانية أو الخوف من الاختراق الخارجي وغيرها من الذرائع الآيديولوجية، أو بحجة عدم معرفة خطط الثورة، وقف موقفاً حائراً وربما خائراً، إزاء الثورة، وتحت مثل هذه الافتراضات بدأ هذا “البعض” يكيل للثورة أبشع أنواع التهم، وهكذا أصبح الربيع “خريفاً” والتغيير “تدميراً” والثورة، “ثورة مضادة”، وهكذا .

ربما أراد بعض المثقفين من الثورة أن تستشيره أو حتى تستأذنه أو تأخذ رأيه قبل أن تندلع، وما كان لها أن تبدأ شرارتها من دون علمه، فهي مفاجأة كبيرة لدرجة الصدمة، خصوصاً إذا كانت لا تنطبق مع معطياته وتصوراته، فضلاً عن توثيقاته، وحسب وجهة نظر هؤلاء، هناك تغيير محمود وآخر مذموم، وهناك تغيير أخيار وآخر للأشرار، وتغيير سلمي وآخر عنفي، وتغيير فوقي وآخر جذري وتغيير ثوري وآخر إصلاحي، وتغيير عميق وآخر سطحي وهو مع التغيير الذي على مقاسه، وهو التغيير غير الموجود في الواقع .

لم يعد التغنّي بالجماهير كافياً، بعد أن تصبح تلك الكتل البشرية، واقعاً حسيّاً ملموساً، له خواصه، وحسب التجربة التاريخية، فإن الثورة تخرج من جوفها الأنبل والأجمل والأروع، مثلما تخرج نقيضها الأسوأ والأقبح والأبشع . التغيير فعل حرّية، ضد الشرّ والظلم، وهو صراع من أجل العدل والمساواة، ولكن عملية التغيير ذاتها بحاجة هي الأخرى إلى نقد، خصوصاً لما قد يصاحبها من عنف وتخريب وانفلات، وهذا النقد ضروري، لا سيما وهي في منعرجاتها ومساراتها واحتمالات انحرافاتها، وربما هيمنة قوى عليها استغلت لحظة تاريخية في منعطفها فركبت الثورة، لذلك فإن علمية التغيير تحتاج إلى تقويم ونقد مستمرين، لكي لا تستكين الأمور .

لا بدّ من الجرأة في نقد التغيير، خصوصاً أن هناك من يريد حشره في ثنوية لافكاك منها بين الخير والشر والعدل والظلم والحرية والاستبداد، وإن كان في العموم الأمر على هذه الشاكلة، لكن التغيير حفر في العمق وليس نقراً في السطح، حسب المفكر ياسين الحافظ، إنه بحاجة إلى بناء وتدرّج وتراكم ومساءلة والتزام بحكم القانون وإعادة النظر في الكثير من الأمور، فلكي تنجح الثورة فلا بدّ من الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية .

التغيير الحقيقي لا يقوم على استبدال أفراد بآخرين، زعيم وبضعة مسؤولين بزعيم جديد مع شلّته، إذ لا بدّ من تفكيك النظام السابق واستبداله بنظام جديد يقوم على قيم جديدة، أفضل مما قام عليه النظام السابق، ولا يعني ذلك بالضرورة، حلّ الأجهزة السابقة جميعها، باعتبارها جزءاً من نظام ظالم، بل على قدرة النظام الجديد على احتواء وتكييف الكفاءات السابقة للاستفادة منها، وهو ما فعلته جميع الثورات الناجحة، أما الذين ارتكبوا الجرائم أو الذين يريدون إعادة القديم إلى قدمه، فلا بدّ من اتخاذ إجراءات حازمة بحقهم، لا سيما إذا لجأوا إلى وسائل عنفية، علماً بأن التغيير فعل مسالم إزاء الأفراد، بمن فيهم الذين خدموا أنظمة ظالمة، أما النظام الظالم، فلا بدّ من تغييره واستبداله، بضربة أولى بعد اكتمال اللحظة الحرّة، ومن ثم بالتدريج والتراكم، يتم تفكيكه واستبداله عبر معايير العدالة الانتقالية وتطبيقاتها .

ولعلّ لحظة الإرادة الجماعية الحرّة تتخطى البرامج والصياغات والآيديولوجيات والشعارات، لأنها تنطلق من الواقع ومن موازين القوى، خصوصاً عندما ينتقل الخوف من المحكومين إلى الحكام وهو ما حصل لجميع الثورات الكبرى، سواء الثورة الفرنسية العام 1789 أو الثورة الروسية العام 1917 أو الثورة الإيرانية العام ،1979 لكن الثورة تأكل الجميع، القيادات القديمة والجديدة، ومثلما يتم خلع رموز النظام السابق في المرحلة الانتقالية، فإن الصراع قد يؤدي إلى إلغاء رموز النظام الجديد وصنّاع الثورات، وهو ما يحصل أمام أعيننا بخصوص الثورات العربية، التي انطلقت تعددية غير آيديولوجية، وذات توجه ديمقراطي، ودعت إلى دساتير ديمقراطية وانتخابات حرّة ونزيهة ورفعت شعارات ضد الاستبداد ومن أجل الحرية والكرامة ومحاربة الفساد، وإذا بالفسحة تضيق أمامها حتى إن كان الأمر عبر صندوق الاقتراع، والمطلوب ليس الاحتكام إليه فحسب، بل الاتفاق على معايير للانتقال أو التحوّل الديمقراطي أولاً، ثم فيما بعد اللجوء إلى خيار الانتخابات الدورية الحرّة .

القواعد الما فوق دستورية، هي التي كانت وراء دستور (إسبانيا) التي حكمها الديكتاتور فرانكو 38 عاماً، ودستور البرتغال العام 1974 التي حكمها الديكتاتور سالازار، ودستور شيلي العام 1988 التي حكمها الديكتاتور الجنرال بينوشيه، ودساتير بلدان أوروبا الشرقية ذات الأنظمة الشمولية، ولهذا فإن الدستور لا بدّ أن يضمن التوافق أولاً والشراكة ثانياً، ومن ثم ضمان المنافسة في إطار شرعي ثالثاً، وهو بحاجة إلى أن تتوافق عليه القوى والمكوّنات المختلفة، لا سيما على شكل الدولة في إطار مواطنة متساوية ومساواة تامة واحترام حقوق الإنسان والتوازن بين الهوّيات الفرعية والهوّية العامة، ولعلّ تلك ما كانت تريده اللحظة العربية الحرّة، وهو ما ينبغي للمثقف التأمل فيه ونقده .